اكتُشف نقش ما يسمى بـ «روزنامة جازر» على يد ستيورات ماكلستر عام 1908 في تلّ في أراضي قرية «أبو شوشة» قرب الرملة يدعى «تل الجزر» أو «تل الجزري»، الذي تبين أنه أطلال المدينة الكنعانية العظيمة «جازر». وهكذا يكون التلّ قد احتفظ باسم المدينة حتى الآن، لكن على شكل «جزر» لا «جازر». نص النقش منقوش على حجر جيري بحجم الكف، وهو موجود الآن في متحف إسطنبول.

ويمكن القول إنّه كُتب عن هذا النقش منذ اكتشافه حتى الآن عشرات ألوف الصفحات. مع ذلك، فالقليل تغير بشأن قراءته التي تقول بأنه يمثل روزنامة زراعية. لكن الجدال يدور حول وظيفة النص. فهل كان روزنامة رسمية تُعلق في مكان عام؟ أم أنها روزنامة بسيطة كتبها طفل على لوح مدرسي في سياق وظائف تعليم الكتابة للأطفال؟ أم هي مجرد أغنية للأطفال وليست روزنامة حقيقية. لكن الكل مجمع على أنها روزنامة ما. إذ أن الكلمة المركزية في النصب حسب القراءة السائدة هي «يرح» التي تعني: شهراً. لكنها تأتي أحياناً بصيغة «يرحو». وقد تكررت هذه الكلمة في سطور النقش السبعة ثماني مرات. بالتالي، فالروزنامة المفترضة تحوي 8 أشهر فقط. غير أنه لسدّ النقص، جرى اقتراح أن الواو في صيغة «يرحو» واو جمع، وأن الروزنامة بالتالي تحوي 12 شهراً. وهناك ثلاثة أحرف في يسار أسفل النقش مكتوبة عمودياً، وقد قرئت على أنها «أبي»، وافترض أنها تمثل توقيع الكاتب، الذي أفترض أن بعض حروف اسمه ضاعت وأنه يجب أن يكون «أبيا» أو «أبياهو».

وقد قرئ على أنه يمثل أبجدية النقش كنعانية- فينيقية. وليس هناك جدال حول هذا الأمر. لكن الجدال يدور حول لغته. فالجزء الأكبر من الإسرائيليين يصرون على أنها لغة عبرية قديمة. أما الباحثون الأكثر حيادية، فلا يستطيعون الجزم بشأن لغته، وإن كان جزء رئيس منهم ميالاً إلى أنها لهجة كنعانية ما.
وفي الصورة أدناه القراءة المقبولة عموماً للنقش لكن مع وجود اختلافات هنا وهناك بين الباحثين:

من ناحيتي، أعتقد أن أبجدية النقش ليست فينيقية- كنعانية، بل تمثل خليطاً من الأبجدية الفينيقية ومن أبجدية لها علاقة بأبجديات شمال الجزيرة العربية في ما يبدو. وقد أدّت قراءة النص على أنه فينيقي إلى انبهامه وتحويله إلى روزنامة، في حين أنه ليس روزنامة في الأصل، بل هو لائحة طلبيات لمحلّ عطارة. لكن لأن المجال ضيق جداً هنا، فسوف أكتفي بالحديث عن الحروف الثلاثة في أسفل النقش، تاركاً المسائل الأخرى لكتاب أعمل حالياً عليه.

على كل حال، فقد كان للحجر الذي كتب عليه النقش، ثقب مربع في أسفله يعتقد أنه استخدم لتعليق النقش. لكن الحجر كُسر في منطقة الثقب، فضاع وظلت بقايا تدلّ عليه. غير أنّ ما أثار استغراب بعض الباحثين هو أنّنا لو علّقنا النقش من مكان الثقب، فسوف يكون النص مقلوباً، أي سوف يكون أعلاه أسفله. وهذا ما أثار جدلاً حول مهمة الثقب ووظيفته. وفي رأيي أن وجود الأحرف الثلاثة السفلى، المكتوبة عمودياً على عكس النقش كله، يفسر لغز الثقب.
وقد قرئت هذه الأحرف من الأعلى للأسفل. لكن السؤال هو: لماذا عمد الكاتب إلى كتابة هذه الأحرف عمودياً على عكس النص المكتوب أفقياً؟ ولم يطرح هذا السؤال المركزي، رغم أن طرحه قد يفتح باباً لحل مشكلة النقش كله.
أما جوابي على هذا السؤال فكالتالي: الأحرف الثلاثة السفلى، المكتوبة عمودياً، هي ما تبقّى من نص سابق كان مكتوباً عمودياً قبل انكسار الحجر النقش الذي أضاع ثقب التعليق. فحين انكسر الحجر وضاع جزء منه، لم تعد المساحة العمودية مناسبة للكتابة أو كافية، لذا قلب الكاتب الحجر أعلاه أسفله، ثم جرت كتابة النص الجديد أفقياً لأن الاتجاه الأفقي صار أكثر ملاءمة للكتابة. لهذا، فإذا أردنا قراءة الأحرف الثلاثة بشكل صحيح، فيجب قلب الحجر بمقدار 180 درجة لكي يعود إلى وضعه السابق قبل الكسر. وفي هذه الحالة، سوف نقرأ الحروف الثلاثة عكس القراءة المقدّمة. وهذا يعني أن كلمة «أبي» يجب أن تقرأ «يبا». وبهذه القراءة، يكون قد تبخّر كاتب النقش «أبي» أو «أبياهو» وتوقيعه. أكثر من ذلك، يبدو أن الأحرف الثلاثة تكرر الكلمة المتكررة في النقش والتي قرئت على أنها «يرح»، كما يتّضح في الصورة أدناه.

إلى اليمين في الصورة، لدينا نموذجان من كلمة «يرح» المفترضة. أما إلى اليسار فلدينا الحروف الثلاثة. ونظرة واحدة تكفي لكي تبين أن حرفين على الأقل من الأحرف الثلاثة يشبهان الحرفين الأول والثاني في كلمة «يرح». ولو قلبنا الأحرف الثلاثة، لاتضح الشبه أكثر، كما في الصورة أدناه.

أما الحرف الثالث، الذي قرئ ألفاً، فليس واضحاً بشكل جيد في النقش الأصلي. بالتالي فمن المغامرة قراءته على أنه ألف. والحقيقة أن هذا الحرف يبدو خطاً أفقياً له ثلاث أسنان أو ثلاث أذرع. وهذا الشكل يشبه في الحقيقة الحرف الأخير في «يرح». الفارق فقط أن قفلته من الأعلى ضاعت في ما يبدو

بناءً، عليه يبدو أنّ ما تبقّى من النص العمودي السابق يكرر كلمة «يرح» المفترضة في النقش الأفقي اللاحق. وهو ما يشير إلى أننا في ما يبدو أمام لوح يُكتب ويمحى، ثم يُكتب ويمحى. وأن ما يكتب عليه من جديد على علاقة بما كتب سابقاً، ولو بشكل جزئي. وهو ما جعل كثيرين يعتقدون أننا أمام لوح تمرين مدرسي.
لكن تبعاً لاستخلاصاتي، وكما قلت أعلاه، فإن النقش يخص في ما يبدو محل عطارة، يبيع الأدوية والمقوّيات. وعلى اللوح كانت تكتب لائحة الطلبيات. وكلما نُفّذت لائحة الطلبيات محي نصها، وكتب مكانها نص طلبية أخرى. ولأن الأدوية المشهورة ليست كثيرة جداً في ذلك الوقت، فقد كانت الطلبية الجديدة تكرار بعض أسماء أدوية من الطلبية القديمة. وهكذا كرّر النص الجديد الذي كتب بعد الكسر جزءاً من النص القديم، كما أثبتت لنا الأحرف الثلاثة المتبقية من النص
القديم.
أخيراً، وما دمنا مع أبجدية ليست فينيقية- كنعانية، فإن قراءة الأحرف والكلمات ستختلف تماماً. وتبعاً لقراءتي، فإن الكلمة المكررة في النقش ليست «يرح» بل «حدض». وهذه الكلمة تنويع على الكلمة العربية «حضض» التي هي اسم دواء من أشهر الأدوية في هذه المنطقة في الزمن القديم. وقد ظل هذا الاسم موجوداً حتى ما بعد الإسلام. ولاسم هذا الدواء في المصادر العربية عدة تنويعات تعكس اللهجات واللغات السائدة في المنطقة: حضض، حضظ، حضد، حظظ، حضذ. وها نحن نجد في نقش جازر صيغة: حدض.
إن صح هذا، نكون قد وصلنا إلى نهاية قصة «روزنامة جازر». وقد كانت في الحقيقة قصة ممتعة، لكنها زائفة لأسفي.
وللحديث بقية في وقت ما.
* شاعر فلسطيني