«وكم ناديتُ في أيام سهدي أو لياليهِ: أيا أمي، تعالي فالمسي ساقيَّ واشفيني. يئنّ الثلج، والغربان تنعب من طوى فيه، وبين سريري المبتلّ حتى القاع بالأمطار وقبرك، تهدر الأنهار وتصطخب البحار الى القرار يخضّها الإعصار. أما حملت إليك الريح عبْر سكينة الليلِ بكاء حفيدتيكِ من الطوى وحفيدكِ الجوعان؟ لقد جعنا وفي صمت حملنا الجوع والحرمان. ويهتكُ سرّنا الأطفال يبكون من ويلِ. أفي الوطن الذي آواكِ جوع؟ أيما أحزان تؤرق أعين الأموات؟»
بورتريه (1966) لبدر شاكر السياب بريشة المعلم الراحل مروان قصاب باشي

بعد أكثر من نصف قرن على إصدار «دار العودة» الأعمال الكاملة للشاعر العراقي بدر شاكر السياب (١٩٢٦-١٩٦٤) بمجلديه، صدرت أخيراً عن «دار الرافدين» (بغداد/بيروت) و«منشورات تكوين» (الكويت) الأعمال الشعرية الكاملة لصاحب «أنشودة المطر» وطبعة كاملة مصحّحة ومنقّحة بتحقيق الشاعر العراقي علي محمود خضيّر وتقديم الشاعر أدونيس. لحظة السياب هي لحظة مؤسسة في الشعر العربي الحديث، أحدثت خرقاً أسّس لإمكانات قول شعري جديد وحرّ، وتركت تأثيراً عميقاً في جسد الأجيال اللاحقة. إذ كان السياب أحد ثلاثة تنسب إليهم لحظة «البرق» في الحداثة الشعرية مع مواطنته نازك الملائكة والمصري صلاح عبد الصبور. لكنها لحظة محتدمة ومهرطقة يبدو فيها الشاعر كنبي ضيّعه قومه، فجبرا إبراهيم حبرا يرى أن «السياب كان متمرّداً من أجل رؤيته المتميزة المشفوعة بفهمه الخاص للتاريخ والإنسانية، كما بفهمه للغة ذاتها وإمكاناتها التعبيرية. فكان جزاؤه جزاء كل متمرد: لا بد من موته بشكل ما، قبل أن تنتبه الأمة إلى عبقريته وخلوده». وهذا ما يتقاطع مع ما يقوله أدونيس في مقدمته: «بدر شاكر السياب بين الشعراء العرب القلة الذين يرون أن مشكلة الشعر في المجتمعات الإسلامية العربية لا تكمن في الشعر ذاته، بقدر ما تكمن في الثقافة. فهي، لأسباب كثيرة، دينية وأيديولوجية، ضيقة على الشعر: إنها تحد بالرقابة الكامنة فيها عضوياً، من اندفاعته وتفجّراته الحرة، وتقلّص آفاقه في أنفاق سياسية واجتماعية وفكرية وفنية».
يجمع الكتاب الأعمال الشعرية الصادرة في حياة الشاعر والأعمال الصادرة بعد رحيله منسّقة حسب الترتيب التاريخي لسنة الإصدار: «أزهار ذابلة» (١٩٤٧) و«أساطير» (١٩٤٨)، و«أزهار وأساطير» (١٩٦٣) و«أنشودة المطر» (١٩٦٠) و«المعبد الغريق» (١٩٦٢) وقد تضمنها الجزء الأول من الكتاب، إضافة الى قصائد كان السياب قد استثناها من «أساطير». أما الجزء الثاني، فيضم مجموعات: «منزل الأقنان» (١٩٦٣) و«شناشيل ابنة الجلبي وإقبال» (١٩٦٥) و«قيثارة الريح» (١٩٧١) و«أعاصير» (١٩٧٢)، و«البواكير» و«الهدايا» و«فجر السلام» (١٩٧٤)، إضافة الى ثماني قصائد لم يسبق نشرها في أعمال السياب تنفرد هذه الطبعة بها مع نسخ من بعض مخطوطاتها. كما يضم الكتاب ملحقاً أولَ بنصوص شعرية اكتشفت في مراحل متأخرة، أو كانت قد نُشرت في كتب ودراسات، أو صحف ومجلات، ولم يجر ضمها للديوان الكامل، وملحقاً ثانياً بمقدمات كان السياب قد كتبها لمجموعات «أزهار ذابلة» و«أساطير» و«فجر السلام» ودراسة «الشاعر الحديث» التي كان قد ألقاها في بيروت بدعوة من مجلة «شعر» عام ١٩٥٧ في منتدى «الجامعة الأميركية» في بيروت، إضافة الى صور للشاعر وقصائد بخط يده. طباعة أعمال السياب الكاملة تقع كما يوضح مدير «دار الرافدين» محمد هادي ضمن الرؤية المشتركة مع «دار تكوين» في نشر الأعمال الكاملة لكبار الشعراء العالميين والعرب بمعدل عمل كبير كل سنة. وقد سبقتها الأعمال الكاملة للشاعر الإيراني سهراب سپهري والشاعر اللبناني بسام حجار. وقد لاقى إصدار هذه الطبعة الفاخرة تحديات كثيرة يمكن اختصارها بالجهد الكبير الذي بذله علي محمود خضير في الوصول إلى الطبعات الأولى لدواوين الشاعر على ندرتها، وبعضها كان قد مرّ على إصداره أكثر من سبعين سنة، والتحقيق الجاد بما شاب الأعمال السابقة من مشكلات نقص وسهو وعدم دقة وأخطاء مطبعية، والتباين بين نصوص القصائد المنشورة في الأعمال الكاملة السابقة وبين تلك المنشورة في الصحف والمجلات. إذ أنّ الاختلافات لم تقتصر على تعديلات أجراها الشاعر، بل إن بعض الطبعات حذفت مقاطع شعرية اعتمدها الشاعر، أو أضافت مقاطع كان السياب قد حذفها. وسيجد القارئ أن الموقف السياسي أو الفكري للناشر أو للدولة آنذاك هو الذي تحكّم بالحذف والإضافة في معظم الحالات. من نهر بويب الذي ضاع اليوم من خريطة جنوب العراق، من جيكور نفسها التي ربما اختفت هي أيضاً، خلق صاحب «المسيح بعد الصلب» قصيدته الكبيرة المنفتحة بلا قيود بطمي الرؤية التي تحتضن آفاق الإنسان، وبصلصال الشعر الذي جعل من بويب مرادفاً لتلك الأنهار التي تجري في الإلياذة وجلجامش وكوميديا دانتي، ومن جيكور الصغيرة كل طاقة الإلهام المرادفة للمدن الكبرى كإسكندرية كافافيس، ومدريد كالدوس، وباريس بودلير، ومن غابات النخيل عناقاً مع الذات والحبيبة: «عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحرْ... أو غابتان راح ينأى عنهما القمر».