البقاء في أرض أجداده لغوياً وثقافياً حتّم على نغوغي وا ثيونغو (1938) الخروج من كينيا اضطرارياً لحوالى 20 عاماً نتيجة للمضايقات التي تعرضت لها عائلته من قبل نظام الرئيس دانييل أراب موي، والتي انتهت باعتقاله. ترافقت سيرة الكاتب والروائي والأكاديمي الكيني مع تاريخ الاستعمار في بلاده. روايته الأولى Weep No, Child صدرت في 1964، حول انتفاضة الماو ماو المناهضة للاستعمار في كينيا، فيما تلتها روايته الثانية «النهر الفاصل» (1965)، بعد سنة على تحرر البلاد من الحكم البريطاني. غير أن تركة الكولونيالية ظلّت حاضرة في رواياته وأعماله الأدبية التي شكّلت وثيقة أساسية عن التحولات والديكتاتوريات التي تلت الاستعمار، فيما ظلّ شبح بريطانيا حاضراً في اللغة والمؤسسات وجوانب أخرى من حكم الدولة. لم يكن إعلان نغوغي وا ثيونغو توقّفه عن الكتابة باللغة الإنكليزية، نهاية السبعينيات، مجرّد خيار أدبي جمالي، وإن كان لذلك علاقة بتاريخ طويل من القصص الشفهية التي تفتّح عليها وعيه الأدبي والسردي. العودة إلى لغة غيكويو كانت خياراً سياسياً، قاده إلى السجن لعام كامل، بعد تجرّئه على كتابة مسرحيّته «سأتزوّج حين أشاء» (1977) باللغة المحليّة في وقت كان يمنع فيه الكتابة بغير الإنكليزية. أثار العمل سخط السلطات في بلده لدى تقديمها في كاميريثو، ما أدى إلى اعتقاله في سجن مشدّد الحراسة لعام كامل. الأمر لا يتعلّق باللغة وحدها، بل بالمواضيع التي طرحتها المسرحية وشكّلت عصب أدبه، منها التحرر من الاستعمار، والصراع الطبقي، والحداثة والتقليد، والدين.

الكاتب الكيني الذي يعدّ أشهر كتّاب أفريقيا ما بعد فترة الاستعمار، بالإضافة إلى وولي شوينكا وتشينوا أتشيبي، كتب لحوالى 50 عاماً المسرحيات والروايات والمقالات السياسية والفكرية التي حملت تأثيرات أفكار فرانز فانون وكارل ماركس في نقده السياسي والفكري لأفريقيا ما بعد الاستعمار. حتى الخيال بالنسبة إليه، ظلّ مساحة سياسيّة راديكاليّة أيضاً عبّر عنها مراراً في دعوة الكتّاب الأفارقة إلى الكتابة بلغاتهم الأصلية، والتخلي عن اللغات الأوروبيّة لأنها تحجب القضايا والأفكار المطروحة عن أبنائها وأبطالها الحقيقيين. بعد عامين على صدور أحدث رواياته «التسعة المثاليون: ملحمة غيكويو وميومبي» بلغته الأصليّة، صدرت الرواية بالإنكليزية أخيراً (ترجمة ثيونغو نفسه). يعيد العمل واثيونعو إلى الواجهة في حدث أدبي استثنائي يقدّم ملحمة أفريقيّة عالمية. لا تزال كينيا تلهم الكاتب الثمانيني. روايته تنطلق أيضاً من التاريخ الشفهي المحلي في بلاده، ومن أسئلته الأساسية حول اللغة ودورها السياسي وأفكار أخرى من تلك التي طرحها في مجموعة مقالات بعنوان «تحرير العقل من الاستعمار» في الثمانينيات. أسئلة جوهرية يحتضنها الفضاء الجغرافي لجبل كينيا الذي زاره الفراعنة للتواصل مع الإله، والذي يسكنه شعب الغيكويو. بالانطلاق من أسطورة الأم ميومبي وزوجها غيوكويو وبناتهما العشر، تجري أحداث هذه الملحمة. تستقبل العائلة عشرات الخطابين القادمين لطلبهن من كلّ أنحاء العالم، فيما يضع الوالدان لهم اختبارات شاقّة؛ منها الجوع، والأفاعي والتماسيح قبل الموافقة على الزواج ببناتهما. ضمن هذه الحبكة المشبعة بعناصر الثقافة الشعبية الغيكويو، يقدم وا ثيونغو ملحمة نسوية معاصرة، بأسلوب مشوّق وفكاهي، ليحيي أشهر الأساطير الشعبية في كينيا.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا