يخبرنا ياقوت الحموى عن معبد في إحدى قرى حرّان يدعى تَرْع عُوْز: «حرَان هي أول منازل الصابئة. ومن منازلهم قرية تابعة لحرَان تسمى «ترع عوز»، العينان مهملتان والواو ساكنة، قرية مشهورة بحران من بناء الصابئة. وكان الهيكل الذي بهذه القرية باسم الزهرة. ومعنى «ترعوز» بلغة الصابئة: باب الزهر. وأهل حران في زماننا يسمونها «ترعوز»، وينسبون إليها نوعاً من القثاء عذيا يزرعونه بها» (ياقوت الحموي، معجم البلدان). ويكتب الاسم أحياناً بعين واحدة: ترعوز. لكن هذا اختصار. دليل ذلك أن ياقوت حدثنا عن «عينين مهملتين» كي لا نقرأهما منقطتين، أي غائين. وكما نرى، فقد أخبرنا أنه يُزرع في هذه القرية نوع من القثاء يزرعونه «عذيا». وتصحّف كلمة عذي في بعض الأحيان إلى «عذبا» بالباء. لكنه بالياء لا بالباء. والعذي هو الزرع البعلي، أي الذي لا يُروى بماء الينابيع: «العِذْيُ: الموضع يُنبِت شتاءً وصيفاً من غير نَبع» (القاموس المحيط). أما ابن فارس، فيقول عن العذي: «هو الزرع لا يُسقَى إلّا من ماء المطر، لبُعده من المياه» (ابن فارس، مقاييس اللغة). لكن الأكثر دقة هو ما ورد في لسان العرب وهو أن العذي هو البعل: «قيل: العِذْي من النَّخِيل ما سَقَتْه السماءُ، والبَعْلُ ما شَرِبَ بعُرُوقه من عيونِ الأَرض من غيرِ سَماءٍ ولا سَقْيٍ، وقيل: العِذْيُ البَعْل نَفْسُه» (لسان العرب). والبعل هو الذي ينمو «من غيرِ سَماءٍ ولا سَقْيٍ»، أي من غير مطر ولا ريّ من قبل الناس. بذا فليس لها القثاء علاقة بعيون الماء. والبعل لدينا هو الزراعة الصيفية التي تزرع في الربيع، وتنضج في الصيف. وهي زراعة غير مروية، أي لا تشرب من ماء الينابيع والآبار، كما أنها لا تشرب من ماء المطر إجمالاً. إن نزل مطر كان به، وإن لم ينزل عاشت الزراعة البعلية، فهو ينمو على رطوبة الأرض التي خلفها الشتاء وعلى الندى. لكن نسبة الزراعة إلى الإله «بعل» الفيضي نابعة من اعتقاد الناس أن هذه الزراعة تروى من فيض غير ظاهر للماء السفلي.
عليه، فالقثاء الترعوزي قثاء بعلي صيفي. وما زال هناك في العراق طراز من القثاء يحمل هذا الاسم. فهو في بغداد «طعروزي» أو «تعروزي»، وفي كربلاء «عطروزي»، وفي كركوك «ترعوزي»، وفي الموصل «تعغوز». وهناك من يحرف «ترع» إلى «طرح» ويكتفي بها لتسمية هذا القثاء.
وقد كفانا ياقوت أمر تفسير الاسم. فهو يعني: «باب الزهرة». بذا فترع تغني «باب» و«عوز» اسم آخر للإلهة الزهرة. ويؤيد تفسير ياقوت للقسم الأول من الاسم أن جذر «ترع» في العربية يعطي معنى الباب أو الفتحة: «التَّرّاع: البَوّاب؛ عن ثعلب... وروى الأَزهري عن حماد بن سَلَمة أَنه قال: قرأْت في مصحف أُبيّ بن كعب: وتَرَّعَتِ الأَبوابَ، قال: هو في معنى غَلَّقت الأَبواب.... وفي الصحاح: والتُّرْعةُ: أَفواه الجَداولِ، قال ابن بري: صوابه والتُّرَعُ جمع تُرْعة أَفواه الجداول. والتُّرْعة فَمُ الجَدْولِ يَنْفَجِر من النهر، والجمع كالجمع» (لسان العرب). ومن هذا الترعة في اللهجة المصرية لقناة الماء. بالتالي، يكون اسم الإلهة «عوز».
لكن ياقوت لم يخبرنا عن اشتقاق الاسم «عوز». أخبرنا فقط أنها إلهة حرّانية لها معبد مشهور، وأنها تعادل الإلهة «الزهرة» وتتماهى معها. فمن هي هذه الإلهة التي تدعى «عوز»، ومن أين اشتُّق اسمها؟
إجابتي عن هذا السؤال هي أن «عوز» هي الإلهة العزى المكية بالنطق الحرّاني. بالتالي، فالاسم «ترع عوز» يعني: باب العزى. بذا فعلينا في ما يبدو أن ننطق الاسم بضمة (عُز) لا بواو (عوز). أي أننا مع «ترع عُزّ». يؤيد هذا أن اسم العزى المكية ورد بصيغة «عزّ» في رجز إسلامي قاله خالد بن الوليد حين هدم معبد العزى:
يا عُزّ كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك
وهذه الصيغة هي الحرانية ذاتها. ولأن ياقوت لم ينتبه لاشتقاق الاسم، فلم يربطها بالعزى، بل أخبرنا فقط عن تماهي «عوز، عز» مع الزهرة. لكن لدينا نصّ للبيروني يوضح أن الحرانيين كانوا يساوون بين «عزى» مكة والزهرة: «ويذكرون (أي الصابئة الحرانية) أن الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم، وأن اللات كان باسم زحل، والعزّى باسم الزهرة» (البيروني، الآثار الباقية من الأمم الخالية، ص 205). إذن، فـ «عوز، عز» الحرانية هي الزهرة، كما أن هي العزى المكية هي الزهرة، وهذا يوصل إلى أن «عز، عوز» الحرانية هي «العزى».
إذن، فمعبد ترع عوز هو معبد العزى، والثاء الترعوزي أخذ اسمه من اسم هذا المعبد المكرس لها. وهذا سرّ أن الحرانيين كانوا يعتقدون أن ديانة مكة الجاهلية هي ديانة الصابئة ذاتها.
وعلى أي حال، فنص البيروني أعلاه يحسم الجدل بشأن العزى المكية. فهو يوضح أنها نجمة الزهرة. وكنت قد تحدثت في وقت سابق عن نص البيروني هذا في سياق فرضيتي التي أدافع عنها منذ سنوات وهي أن الثالثوث المكي (اللات، العزى، مناة) ليس ثالوثاً مؤنثاً كما يظن، فالعنصر المؤنث الوحيد فيه هو «العزى». أما اللات ومناة فمذكران. وها هو مقتبس البيروني المهم يؤيد أطروحتي، ويخبرنا بأن اللات نظير زحل، أي أنه إله ذكر بلا شك.
الحرانيون كانوا يعتقدون أن ديانة مكة الجاهلية هي ديانة الصابئة ذاتها


وهكذا نكون قد عرفنا طبيعة اثنين من الثالوث المكي (اللات، العزى)، فالأول منهما يعادل زحل، والثاني يعادل الزهرة. وبهذا يتبقى لدينا أن نعرف من هو «مناة». وليس لدينا نصوص كي توضح لنا طبيعة مناة. لكن فرضيتي أنه إله مذكر، وأنه الوجه النقيض للإله اللات. ذلك أن الثالوث المكي ميزان كوني. فهو ميزان للفصول، يمثل فيه اللات الصيف، ومناة الشتاء. كما أنه ميزان اجتماعي جنسي: حيث للذكر مثل حظ الأنثيين، أي أن للذكر ضعف حظ الأنثى. فهناك ذكران في مقابل أنثى واحدة. لكن هذه الأنثى تملك وجهين في نهاية الأمر، وجه ربيعي ووجه خريفي. وحين تكون ربيعية تميل إلى اللات ويشكلان معاً نصف السنة، ونصف الكون. وحين تكون خريفية تميل إلى مناة، ويشكلان معاً نصف السنة الشتوي. وهكذا يعتدل العالم ويصير رباعياً من حيث الجوهر، لا ثلاثياً.
أما زحل، فقد كان معبوداً في مدينة «الحضر» العربية في شمال العراق قبل الإسلام أيضاً. وكان يدعى باسم «الساطيرون»، ويتبدى كملك بشري أسطوري. والحقيقة أنّ «ساطيرون» هو النطق العربي لاسم الإله زحل باللاتينية Saturn. بالتالي، يمكن القول إنّ أهل الحضر كانوا يعبدون اللات عملياً.

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا