«صارخين أعلى من الألمِ، سَامَحْنا أنفسَنا؛/ الخطيئةُ الأصليَّةُ بَدَتْ أسطوانةً مَشروخةً./ الرَّبُّ عَزَفَ البلوز، ليقتلَ الوقتَ، طَوَالَ الوقتِ./ أنهارٌ حُمرٌ حَمَلَتْنا إلى الحياةِ». قبل شعره، تستعاد دائماً سيرة بوب كوفمان (1925- 1986) وحياته التي قضاها في الأزقّة بعيداً عن كلّ المؤسسات الأدبية الأميركية. الشاعر المنبوذ، غُيّب طويلاً عن الكتابات النقديّة والدراسات الأكاديمية، وحتى عن حركة «جيل البيت» التي كانت تعدّ الصوت العاقّ للشعر الأميركي لفترة طويلة. لعلّ هذا النبذ هو امتداد لتجربة وسيرة الشاعر الأميركي الذي تأخّر وصوله إلى لغة الضاد، أو أنه تحقّق بديهي لرغبته بأن يكون منسياً كما قال يوماً: «طموحي أن أكون منسيّاً». مقابل ظهور أسماء ونجوم جيل البيت مثل ألن غينسبرغ وجاك كيرواك وآخرين، ظلّ اسمه غائباً لسنوات، رغم أن الحكايات الآتية من سان فرانسيسكو الخمسينيات تؤكّد أنه كان أوّل من اعتلى طاولة إحدى الحانات وصرخ شعره كمن يفتعل عراكاً. بعد حياة أمضاها في التسكّع والعزلة والهدم، والصراع المباشر مع السلطات الأميركيّة، أجمع النقاد، بعيد وفاته على أنه جسّد روح التمرّد الحقيقية في الشعر الأميركي، كما ألهم الأجيال اللاحقة من الشعراء السود في أميركا. لم تصدر لكوفمان أي ترجمة عربية إلا العام الماضي، بتوقيع الشاعر والمترجم العراقي محمد مظلوم لباكورته «عزلة مكتظّة بالوحدة» (منشورات الجمل). هذه المرّة يعود كوفمان مجدّداً إلى العربية، في مجموعة «الحياة ساكسوفون في فم الموت» (منشورات المتوسّط) التي تحوي قصائد اختارها وترجمها الشاعر الفلسطيني سامر أبو هوّاش. لا شكّ في أن صعوبة لغة كوفمان، أسهمت في تأخّر وصوله إلى العربيّة. صعوبة يلمسها قرّاء اللغة الإنكليزية، بفضل اشتقاقاته اللغوية وجهوده الخاصّة التي أدخل فيها إلى الإنكليزية مفردات الشارع، خصوصاً لغة السود العامية والبذيئة. جمع الشاعر في قصائده عوالم متباعدة، تحمل تأثيرات السوريالية ممزوجة بنفس سياسي فجّ، وبموسيقى الجاز؛ ذلك الإيقاع الذي ظلّ يشحن شعره، بكلّ ما يحمله من تدفّق وارتجال. رغم تنقله بين الجنوب الأميركي حيث ولد في نيو أرلينز، وبين كاليفورنيا ونيويورك، قضى كوفمان معظم حياته في سان فرانسيسكو. كما في الشعر واللغة، كان كوفمان بحاراً في رحلاته الطويلة عبر المحيطات التي أوصلته إلى شواطئ أفريقيا والهند. غير أن التحاقه المبكر بـ «الاتحاد البحري الوطني» ألقى به إلى التهلكة، خصوصاً بسبب اتّهام الشرطة للاتحاد بالتعاطف مع الشيوعية. كان ذلك بداية لسلسلة ملاحقات من قبل الشرطة الأميركية وحتى الـ FBI، رمته لأشهر في الزنازين والمصحات النفسية حيث تعرّض للعلاج عبر الصدمات الكهربائية. ما دفعه مرّة إلى تشبيه شرطة سان فرانسيسكو بهتلر. تلك الملاحقات والمراقبة جعلته عاطلاً عن العمل لفترة طويلة، نتيجة النظام العنصري في أميركا أوّلاً. وصف كوفمان أميركا بــ «الغابة البلاستيكية المظلمة»، فيما لم يتوقّف عن النيل من الثقافة الأميركيّة في قصائده ولغته. نهاية الخمسينيات، وعلى غرار بيانات الحركات الشعريّة، أطلق كوفمان مانيفستو تهكّمي شهير يدعى مانيفستو Abomunist (المشتقّة من القنبلة الذرية Atomic Bomb) نشره في مجلّة Beatitude الشعريّة التي ساهم في تأسيسها مع شعراء آخرين. ومثلما احتجّ بلغته سياسياً، كان صمته أيضاً احتجاجاً آخر، حين اختار السكوت لعشر سنوات بعد اغتيال جون ف. كينيدي، ولم يعد إلى الشعر إلا عندما خرج الجيش الأميركي من فييتنام.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا