في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، كانت كاثلين كينيون تحفر في «تل السلطان» في أريحا. وكانت أريحا بالنسبة للجميع شيئاً ملحقاً بالتوراة ونصوصها، وكان الهدف من كل حفر هو العثور على أسوارها التي سقطت بنفخات البوق حسب أسطورة التوراة. ولم يكن يخطر في بال كينيون أنها ستكتشف شيئاً صاعقاً. فتحْت ثمانية أمتار من التراب، مثلت 25 طبقة أثرية عاشتها المدينة، عثرت على بلدة تعود إلى ما قبل الثورة الزراعية. أكثر من ذلك، فقد عثرت على برج حجري يعود إلى 12 ألف سنة من الآن، أي أنه بني قبل أهرام الجيزة بـ 7 آلاف عام. كان هذا أقدم برج نعرفه حتى الآن في التاريخ. وبمقاييس ذلك الزمان، فقد كان برجاً هائلاً، أو قلْ كان أول ناطحة سحاب في العالم كما يُقال أحياناً.
تصميم البرج والدرج

البرج ذو شكل مخروطيّ بقاعدة وقمّة مستديرتين. قطر قاعدته تسعة أمتار، وقطر قمّته سبعة أمتار. أمّا ارتفاعه، فيساوي 8.2 م. ويُعتقد أنه في الأصل أعلى من ذلك، لكنّ جزءاً من قمته لم يعُد موجوداً. ويقدّر بعضهم أن ارتفاعه كان بحدود 8.5 م. وهناك من يزيد على ذلك.
في داخل البرج، درج حجري مكوّن من 20 درجة حسب كينيون في أحد كتبها. لكن الشائع أنه مكوّن من 22 درجة. ولم أستطِع التأكّد من الرقم الفعلي بنفسي. ذلك أن باب البرج قد انطمّ من جديد بعد ستين عاماً على كشفه. مع ذلك، فأنا ميّال بشدة إلى أننا مع 20 درجة لا غير، وأن زيادة درجتين أتت من افتراض أن الجزء الذي ضاع من قمة البرج كانت فيه درجتان أخريان.
وما زال النقاش حول وظيفة هذا البرج دائراً من دون مشاركة فلسطينية أو عربية. وما زال السؤال هو ذاته منذ نصف قرن على الأقل: ما الهدف الذي أراده بناتُه منه قبل ما يقرب من 12 ألف سنة؟ ولم يتقدّم أحد بإجابة شافية كافية على هذا السؤال حتّى الآن.
أمّا نظرية كاثلين كينون فتقول بأن البرج جزءٌ من نظام دفاعي يتكوّن من: السور، الخندق الذي تحت السور، والبرج. بالتالي، فهو برج مراقبة لكشف تحركات العدو، وربما لإطلاق مقذوفات منه. لكن هذه النظرية تزعزعت بعد ما يقرب من ثلاثة أو أربعة عقود انطلاقاً من نقطة ضعفها الأساسية: وهي أن البرج يقع داخل السور. والمنطقيّ أن يضع برج دفاعي، أي برج للمراقبة، نفسه خارج السور حتى يسهل على من يصعده مراقبة الأعداء وإرسال المقذوفات إليهم.
انطلاقاً من هذه الضربة للفرضية الدفاعية، طرحت فرضية أنّ النظام كلّه، أي السور والخندق والبرج، وسيلة دفاع ضد الفيضانات النابعة من السيول المطريّة: «آخذين بعين الاعتبار المعلومات المتوفرة، يبدو أن هناك تفسيراً آخر ملائماً لبناء سور أريحا في العصر الحجري الحديث، وهو أنه شُيِّد على مراحل كنظام دفاع ضد فيضان المياه والوحول. فسكان أريحا في العصر الحجري الحديث اختاروا الإقامة قرب نبع غزير في سهل انحداريّ معرّض لفيضان الوحول ومياه الأمطار. وكان ردهم ببناء الجدار، ثم بحفر خندق حين كان ذلك ضرورياً» (بار- يوسف، ص 161). غير أنه يمكن تحطيم هذه الفرضية بسؤال واحد فقط: إذا كان الأمر يتعلّق بالفيضان، فما فائدة البرج هنا؟ فمواجهة الفيضان ليست بحاجة إلى برج، ذلك أنّ أحداً لا يستطيع أن يرقب الفيضان، وأن يحذّر منه قبل مجيئه. كما أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً جديداً في مواجهة الفيضان لحظة حصوله. ففيضان أريحا يأتي على حين غرّة. ساعة من الأمطار الغزيرة تكفي لجعله يأتي. لذا، فمواجهة الفيضان تكون قبل حصوله. فوق ذلك، لماذا يجري حفر قناة لتصريف ماء الفيضان في الصخر قرب السور؟ أليس من الأفضل حفر قنوات تحوّل ماء الفيضان بعيداً عن السور؟
وهناك فرضيات أخرى تتحدّث عن وظيفة طقسيّة ما للبرج. لكن هذه الفرضيات ظلّت غائمة، باستثناء فرضية واحدة تقول إن البرج أُقيم كي توضع عليه جثث الموتى لتأكلها النسور والكواسر. أي أن وظيفة البرج مشابهة لوظيفة «أبراج الصمت» في الديانة الزرادشتية. ففي هذه الديانة، توضع جثث الموتى على برج عالٍ كي تأتي النسور وتجرّد اللحم عن العظم، الذي يُرسل للدفن بعد ذلك. وبرج أريحا يمكن أن يكون مثيلاً لأبراج الصمت الزرادشتية هذه. أي أنّ الهدف من بنائه هو استقبال جثث الموتى لجعل لحمها طعاماً للطيور.
لكن هذه الفرضيّة يدحضها التصميم الغريب لدرج البرج. فهو يصعد بزاوية تكاد تكون قائمة، وبحيث يبدو أقرب إلى حبل منه إلى درج. وهذا تصميم لا يلائم إطلاقاً فكرة نقل جثث الموتى عبره. فالصاعد فيه لن يستطيع إلّا بصعوبة هائلة حمل جثة على ظهره أو سحبها بيديه.

تصميم البرج والدرج
وهكذا فالدرج، الذي يقع في مركز لغز البرج كله، وهو يطيح بكلّ الفرضيات حول البرج. أطاح بسهولة بفرضية أبراج الصمت. ووضع علامة استفهام كبرى حول فرضية الفيضان. كما أنه وقف عقبة كأداء في وجه فرضية كينون الدفاعية. وقد أقرّت هي ذاتها بأن فرضيتها لم تحلّ مسألة الدرج: «لم نستطع حتى الآن حل مشكلة الهدف من الدرج» (كينيون، حفر أريحا، ص 169).
وقبل سنوات أتانا الباحث الإسرائيلي ران باراك بفرضية جديدة. وامتلأت الصحافة وقت نشر فرضيته بعناوين تتحدث عن: حلّ لغز برج أريحا، وما إلى ذلك من أفانين. تقوم الفرضية على ربط البرج بجبل القرنطل. ذلك أنّ الصاعد فيه سيجد نفسه حين يخرج منه في مواجهة جبل القرنطل تقريباً، جبل التجربة. كما أن غياب الشمس يكون عند قمة الجبل تقريباً. بالتالي، فالبرج برج توقيت يحدد بدء الانقلاب الفصلي الصيفي، حسب باراك. ومشكلة هذه الفرضية أن الغالبية ما زالت ترى أن التوقيت بالشمس أتى بعد الثورة الزراعية، التي بُني البرج ودرجه قبلها، وعلى عتبتها. فوق ذلك، فإن البرج لا يشير إلى قمة جبل القرنطل، بل يشير إلى نقطة إلى الشمال منها، كما تظهر الصورة الملوّنة أدناه.
رسم ملون لتل السلطان في أريحا، وفيه تظهر قمة جبل القرنطل، وقمة برج العصر الحجري، والرسم من: Drawing by L. Nigro; copyright of Rome «La Sapienza» Expedition to Palestine and Jordan).

وعلى أيّ حال، فقد نسي باراك نفسه قصة التوقيت الشمسي حين غاص في فرضيته، ولم تعُد الشمس هي المسألة بل الظلال. فقد قدم لنا تمثيلاً كمبيوترياً، تنحدر فيه الظلال عند غروب الشمس من قمة الجبل نحو تل السلطان، مثل عفريت هائل، ضاربة البرج كأول هدف في طريقها، قبل أن تلتهم أريحا العصر الحجري كلّها من ثم. وبناء على هذا فقد دخلنا في السحر لا في التفسيرات المنطقية. فالبرج مانعة ظلال، أو مانعة خطر الظلال والليل. وقد بُني البرج في طرف تل السلطان الغربي، وتحت أقدام الجبل، وفي مواجهته، كي يحمي مستوطنة العصر الحجري من ظلّ الجبل! لكن كيف يمنع البرج خطر الظلال الداهم؟
عليه، فقد انتقلنا من برج مراقبة، إلى مانعة فيضان، إلى مانعة ظلال! انتقلنا من فرضيات معقولة إلى فرضيات سحرية، تخلّى فيها هذا الباحث عن نقطة القوة الوحيدة لديه؛ وهي علاقة البرج بجبل القرنطل. فمن هذه النقطة يمكن للمرء، ربما، أن يبدأ، فاصلاً البرج عن السور، كي يصل إلى شيء ربما فكّ لغز البرج، أو فتح الطريق لحلّ لغزه.
وفرضيتي الخاصة توافق على أن ثمة علاقة ما بين جبل القرنطل وبرج تل السلطان. بل ربما يمكنني أن أقول إن البرج تمثيلٌ ديني لجبل القرنطل. تمثيل لا رسم وتشبيه تام. يدعم هذا بقوّة أن الجبل مرتبط بالرقم 40. فكلمة «قرنطل» كلمة لاتينية Quarentena تعني: أربعين. والرقم 40 يتوافق مع عدد درجات درج البرج العشرين، فهي نصف الرقم 40. ولا أستبعد أنه جرى اختصار الرقم 40 عند بناة البرج إلى 20 تخفيفاً للجهد والعبء. فسُلّم مكوّن من 40 درجة سيضاعف طول البرج، ويجعله عبئاً لا يطاق على بلدة يقدّر عدد سكانها وقتها بألفي شخص، أو بأربعة آلاف على أقصى تقدير.

كتل هيوك
ولدينا من موقع Catal Huyuk الشهير في تركيا ما يؤيّد أن الكون كان يُمثّل في ما يبدو عبر جبلين اثنين. وقد نهضت «كتل هيوك» بعد ألف سنة من نهوض تل السلطان في العصر الحجري الحديث المبكر، وصارت أكبر من تل السلطان في أريحا وأغنى بكثير في ما يبدو. فقد عثر مالارت على جدارية في أحد المنازل اعتقد أنها تمثل خارطة للمدينة، وأن الجبلين يمثلان قمتَي جبل «حسن داغ» على مبعدة من المدينة. أمّا أنّ الجدارية خارطة «بلدية» للمدين، فهذا شيء يشبه الهلوسة في رأيي.
جدارية كتل هيوك من مالارت. يظهر في الرسم جبلان أو قمتان

جدارية كتل هيوك من مالارت. يظهر في الرسم جبلان أو قمتان. لكن فكرة وجود جبلين، أو قمّتين، مسألة مهمة جداً. فالكون كان يتظاهر في ما يبدو على شكل جبلين أو قمّتين، مثل جبلي نابلس العظيمين: عيبال وجرزيم. وبالمناسبة فإن خارطة الأرض المقدسة البيزنطية المصورة بالفسيفساء في «مادبا» تُظهر وجود جبلين يُدعيان عيبال وجرزيم في أريحا أيضاً. بذا ففكرة الجبلين البدئيين موجودة في نابلس وأريحا. وهي موجودة في مكة الجاهلية أيضاً، لكن باسم الأخشبين، أي جبل أبي قبيس والجبل الأحمر. انطلاقاً من كل هذا، يمكن افتراض أن أريحا العصر الحجري كانت تقدس قمتين من قمم جبل القرنطل يمثلان الجبلين البدئيين. وإذا صح هذا، فأنا أفترض أن البرج يمثّل القمة الرئيسة في جبل القرنطل. وانطلاقاً من ذلك، فأنا أفترض وجود برج ثانٍ إلى الشمال من برج أريحا كي يمثّل القمة الأخرى. البرج الذي كشفته كينون يمثل القمة الجنوبية، في حين أن البرج الآخر الذي افترضتُه يمثل القمة الشمالية. الأول عديل لجرزيم، والثاني عديل لعيبال.
وكانت كينون قد أجرت حفراً إلى الشمال من البرج على مبعدة عشرة أو عشرين متراً، ووجدت هناك مبنى مشاداً بالطوب غير المشوي، ولم تكمل الحفر. ولم تفهم وظيفة هذا البرج حينذاك. إلّا أنه اقترح أن البناء مخزن ما تابع للبرج. أما أنا فلا أستبعد أن يكون هذا المبنى هو البرج الثاني المقابل لبرجنا. أي أن لدينا برجاً حجرياً وبرجاً طينياً.
بذا، فالبحث عن البرج الثاني هو إذن المهمّة المطروحة، بناء على فرضيتي. أمّا درج البرج فلا يتّسع لمعالجة لغزه في هذا المادة. لذا سأعالجه في مادة قادمة.
* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا