تحاول الكاتبة أن تقول شيئاً عن الندم، بعدما شعرت شخصياتها بالاختناق في عالم الشوك، فتعطيه مساحة فصل كأنّ النساء في هذه الرواية يصلن إلى هذه المرحلة من الندم على ذواتهن المسحوقة، فهناك حالة ما تتضح أمامهن. إنها إعادة النظر في خياراتهن في الحياة كأنّ هناك شيئاً ما يتحملن مسؤوليته. لكن هناك خيار الطلاق الذي تنتهجه سمية، وأيضاً الخيار الآخر الذي هو ليس حلاً، وهو أن تعود ورد بطلة الرواية إلى ماضيها حيث تلتقي بحبيبها غدي الذي يموت في النهاية. لا تقول الكاتبة شيئاً عن الحلول لأنها ليست من مهمتها، فهي تترك لشخصياتها أن تعيش حاضرها الممزق. هي فقط تنهي الرواية باعتناء ورد بنفسها وبابنتيها ومحو فريد الخائن من حياتها. إنها نهاية تجعلنا نفكر بأن الواقع أحياناً يبدو أسوأ مما نتخيّل. إنه ليس قصة تنتهي ببساطة بنهاية سعيدة، فما يحدث يحتاج لبحث طويل في جذور هذه الذكورية المتأصلة في تصرفات الأزواج وحياتهم ونظرتهم إلى المرأة.
تختفي نساء رنا الصيفي خلف محور الرواية، فتبدو الحبكة كأنها محاولة لربط الشخصيات ببعضها. أما الأحداث فليس مهماً تراتبها. تشابه الأقدار والصداقة التي تجمع النساء معاً هما محاولة لتماسك السرد الذي يتصاعد منذ البداية وهو يكشف الستار عن حياة ورد وسمية وبشرى وعليا. الشيق في هذا السرد هو أنه يمشي بالتوازي مع هذه القصص المختلفة ولا يتقاطع معها إلا في النهاية، عندما تجد ورد الشجاعة في أن تترك فريد. ليس هناك من مصير جماعي لقصص تشبهنا جميعاً. الكاتبة هنا تذكّرنا أنّ كل حالة هي قصة متفردة رغم أن جذور المشكلة تتشابه، لكن تتغير المصائر وتلوح في الأفق طرق أخرى للدفاع عن الذات.
تتقاطع «عطر الشوك» مع رواية «عشر نساء» للتشيلية مارثيلا سيرانو. غير أن النساء في هذه الرواية التشيلية لا يعرفن بعضهن وهنّ من جنسيات مختلفة، واحدة منهن فلسطينية، ويلتقين عند المعالجة النفسية ليسردن قصصهن. لكن «عشر نساء» تختلف من ناحية التمازج بين الديني والاجتماعي والسياسي، حيث القمع واحد وجذور الذكورية واحدة، فتتوغل الروائية التشيلية أكثر لترينا أنّ قمع العائلة والرجل يمشي بالتوازي مع قمع الساسة. لكن في الروايتين، يبدو أنّ كسر حاجز الصمت والحديث هو الخطوة الأولى نحو انعتاق النساء، وثمة مشترك آخر هو كون الرواية مجموعة قصص قصيرة تجتمع داخلها هؤلاء النساء.
تحضر بيروت كمكان للرواية بكل ما فيها من حرية وسحر
إن استيحاء هذه القصص من الواقع يحاصرنا بالنظر إليه بشكل مباشر، كأنها نظرة تجعلنا بحاجة أن نغمض أعيننا قليلاً، أو نتنفس لكي نعاود النظر مرة أخرى. لكن يبدو أن الكاتبة لا تريد إعطاءنا فسحة من التأمل خارج هذا الواقع لنراه بشكل أجمل أو أوضح. فقد أخذت له صورة سوداوية، وألقتها أمام أعيننا. ربما كان مشروعها هو المواجهة بالكتابة. تأتي النساء إلى الرواية كي تبوح بالأسرار، فلا تعد أسراراً بل مجرّد قصة عن الاختناق ودعوة مبطنة للانعتاق. تساورنا الرغبة في جعل هذه الشخصيات تتمرد، ترفض، تقطع صلتها بما يعذبها، لكن تنحاز الكاتبة لجعل شخصياتها المأزومة نساء عاديات لا بطلات خارقات، رغم قوتهن ورغبتهن في أن تكون أيامهن أفضل. إنه انحياز نسوي لا يمتلك سلطة التحرر السريع بل التأمل في هذا الواقع لفهمه، وهذه هي المهمة الأولى بامتياز.
لا يكشف هذا النزوع نحو «البوح» عن نقص في فنية الرواية بقدر ما يفتح السؤال عن أهمية الكتابة عن قضايا الواقع. هل يكتفي الفنان أو الأديب بالسرد كأداة للكشف؟ أم يستنطق الشخصيات لتتحدث أكثر عن القمع أم يحوّل الكتابة إلى مهمة البحث عن ضوء في آخر النفق؟ تأتي باكورة رنا الصيفي لتجيب عن هذا السؤال بأنها مهمة نزع الستار عما هو مسكوت عنه في واقع يهوى النفاق والتلاعب واختلاق الأعذار.
تحضر بيروت كمكان للرواية بكل ما فيها من حرية وسحر. كأن هذا المكان أيضاً لم يتحرر بعد من آثار الماضي. المستقبل فيه أيضاً لم يتحرر بعد. إنه مكان يُشعرنا بالتناقض والتساؤل عن انفتاحه وتأخره في الوقت نفسه، فتبدو مسألة التحرر مسألة عميقة للغاية وتدعونا للتأمل داخل ممارسات سطحية لا تكشف رقي هذا المجتمع. هذه الأسئلة وأسئلة أخرى تأخذنا إليها «عطر الشوك»، ما يجعلها رواية نسوية جديدة.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا