تقديم وترجمة عصام زكريا
هذه الأيام يستدعي كثيرون أعمال وحياة الأديب الأميركي الأفريقي جيمس بالدوين (1924- 1987)، الذي كرّس كتاباته لكشف قبح وجرم العنصرية والاستعمار واستغلال الفقراء والمهمّشين. الكثير من أفكار ونصوص بالدوين تم استدعاؤها في عصر ترامب الذي يذكّر بفترة المكارثية وثورة الحقوق المدنية التي عاشها وكتب عنها بالدوين. السينما أيضاً اكتشفت جيمس بالدوين حديثاً، وقدّمت الفيلم الوثائقي «أنا لست عبدك»، والفيلم الروائي «لو كان بإمكان شارع بيل أن يتكلّم»، وكلاهما حققا نجاحات وجوائز عديدة. لبالدوين أيضاً كتاب صغير بعنوان «الشيطان يجد عملاً» يعدّ من أروع ما كتب في النقد السينمائي على الإطلاق، وهو مزيج من السيرة الذاتية والنقد الاجتماعي وتحليل الأفلام. في ما يلي مقطع من الفصل الأول المعنون «ميدان الكونغو».

* ميدان الكونغو
«لأن إلهنا نار آكلة»
«سفر العبرانيين» 35:12

قوام جوان كروفورد المستقيم، النحيل، الوحيد. ونحن نتابعها عبر ممرات القطار المندفع. إنها تبحث عن شخص ما، أو تحاول الهرب من شخص ما. وفي النهاية يعترض طريقها، على ما أذكر، كلارك غيبل. مفتون أنا بالحركة على الشاشة، تلك الحركة التي تشبه مدّ وجزر البحر (مع إنني لم أذهب إلى البحر حتى الآن): وتشبه أيضاً حركة الضوء، خاصة تحت الماء. كنت في حوالى السابعة من عمري، بصحبة أمي أو خالتي. والفيلم هو «ارقصوا، أيها الحمقى، ارقصوا» Dance, Fools, Dance
لا أتذكّر الفيلم. فتركيز الطفل يتمحور حول ذاته لدرجة تمنعه من التعلّق بأيّ محنة لا تتعلق بمحنته الخاصة.
يهرب الطفل إلى المواقف التي يرغب أن يصبح جزءاً منها، وبالطبع لم أكن أرغب في أن أكون هارباً في قطار متحرك؛ بالإضافة لذلك كان جزء آخر من عقلي يدرك أن جوان كروفورد امرأة بيضاء. لكنني أتذكر أنهم أرسلوني مرة لشراء بعض الحاجيات من المتجر المجاور لبيتنا، وهناك شاهدت امرأة ملونة تشتري بعض الأشياء بدت لي مثل جوان كروفورد تماماً. كانت جميلة بشكل لا يصدق – كما لو أنها ترتدي شعاعاً من الشمس، تلفه حولها من وقت لآخر، بحركة صغيرة من يدها، بالتفاتة من رأسها، بابتسامة - وعندما أعطت النقود للبائع وشرعت بالخروج من المتجر، خرجتُ وراءها. ضحك صاحب المتجر الذي يعرفني، كما ضحك باقي الزبائن في المتجر الذين يعرفون أمي (والذين يعرفون أيضاً الآنسة كروفورد) ونادوا عليّ لأعود أدراجي. ضحكت الآنسة كروفورد ونظرت نحوي بابتسامة جميلة لدرجة أنني لم أشعر حتى بالحرج، وهو أمر نادر بالنسبة لي.
أتذكر أيضاً توم ميكس على حصانه الأبيض. في الواقع، كانت قبعة توم ميكس، ظلاً في ظل القبعة، نوعاً من الخلفية الصخرية (والتي كانت تتحرك باستمرار أيضاً) وحصانه الأبيض. كانت هناك عروض مسلسلة لأفلام توم ميكس، كل يوم سبت إذا ما أسعفتني الذاكرة.
كنا نشاهد توم ميكس وفتاته التي تتغير من فيلم لآخر في مواقف شديدة الخطورة، أو بالأحرى كنا نشاهد القبعة وظل القبعة والحصان الأبيض: لأن الحصان كان غير قابل للاستبدال، فما كان من الممكن وجود سلسلة هذه الأفلام بدونه.
«آخر هنود الموهيكان» The Last of the Mohicans: بطولة راندولف سكوت (وهو شبيه لجاري كوبر من الدرجة العاشرة) وبيني بارنز (نسخة جبانة من جيرالدين فيتزجيرالد)، وهيزر أنجيل (إلى حدّ ما نسخة أكثر ذهولاً من أوليفيا دي هافيلاند) وفيليب ريد (نسخة أولية من أنطوني كوين). فيليب ريد يلعب دور الهندي أونكاس الذي يدفعه عشقه البدائي، إن لم يكن العبودي، لبياض وشقرة الآنسة أنجيل، لتعليقها على حافة جرف، مقلوبة الرأس، لتموت. وهي تفضل الموت على العار، بالطبع. في النهاية يدفع الخاطئ أونكاس حياته ثمناً لشهواته المنحرفة، وأخيراً يخرج البطلان الشجاعان دامعي العينين يرتجفان من البرية. يذهبان إلى أميركا، أو يعودان إلى إنكلترا، لا أتذكر فعلاً، ولا أعتقد أن الأمر يفرق.
«20,000 سنة في سينغ سينغ» 20,000 years in Sing Sing من بطولة سبنسر تريسي وبيتي ديفيز. هذه المرة كانت تأخذ بيدي شابة بيضاء جميلة، هي معلمتي في المدرسة التي كانت شيئاً مهماً جداً في حياتي. كنت في العاشرة أو الحادية عشر. وقد قامت بإخراج أول مسرحية كتبتها في حياتي وتحملت أولى نوبات غضبي في المسرح ثم قرّرت أن تصحبني لمشاهدة العالم. أعطتني كتباً لأقرأها وكانت تتحدث معي عن هذه الكتب، وعن العالم: عن إسبانيا، مثلاً، وعن إثيوبيا وإيطاليا وعن الرايخ الثالث في ألمانيا، وقد اصطحبتني لمشاهدة المسرحيات والأفلام. مسرحيات وأفلام لم يكن أحد ليحلم بأن يصحب إليها صبي عمره عشر سنوات. لقد أحببتها بالطبع، وبالتأكيد حب طفل؛ لم أكن أفهم نصف ما تقوله لكنني أتذكره؛ وقد ساعدني في وقت لاحق من حياتي. من المؤكّد أنه بسبب هذه المرأة، التي دخلت حياتي المزرية في وقت مبكر جداً، لم أستطِع أبداً أن أكره البيض- مع إنني، والله يعلم، تمنيت كثيراً أن أقتل واحداً أو اثنين منهم. لكن بيل ميللر- كان اسمها أوريلا، وكنا نطلق عليها بيل- لم تكن بيضاء، بالنسبة لي، كما تبدو جوان كروفورد بيضاء، مثلاً، أو كما يبدو أصحاب الأراضي والمحلات ورجال الشرطة ومعظم معلمينا. لم تكن أبداً مصدر إرباك أو تهديد لي، ولم تكذب عليَّ أبداً. لم أشعر مطلقاً بأنها تشفق علينا، بالرغم من أنها كانت تحضر لنا أحياناً بعض الملابس القديمة (لأنها كانت تقلق علينا من البرد) وكانت تحضر، خاصة لي، زيت كبد الحوت، لأنني كنت أعاني دوماً من السعال.
كنت طفلاً، بالطبع، ولا أفهم دقائق الأشياء. لم يكن لديّ أيّ سبب فطري (أو قدرة فطرية) لعدم الثقة بالناس: ولذلك كنت آخذ بيل ميللر على ما هي عليه، أو كما كانت تبدو عليه. مع ذلك فإن الفارق بين الآنسة ميللر وبقية البيض، البيض كما عاشوا في خيالي وكما خبرتهم في الواقع، ترك تأثيراً هائلاً ومحيراً على عقلي. لم تكن بيل ميللر مطلقاً مثل رجال الشرطة الذين يضربونني، ولا أصحاب الأملاك الذين يلقّبونني بالزنجي، ولا أصحاب المتاجر الذين يسخرون مني. كنت أرى البيض خطرين ومرعبين وغامضين- أشراراً بشكل لا يمكن وصفه: كانوا غامضين، في الحقيقة، لدرجة أنهم أشرار: مشكّلين السؤال الذي لا يمكن سبره: أي شيء تحت السماء، أو في أعماق البحر، أو في سراديب الجحيم، يمكن أن يجعل أيّ شخص يتصرّف مثلما يفعل هؤلاء البيض؟ بفضل الآنسة ميللر، بدأت أتشكك في أن البيض يفعلون ما يفعلونه لأنهم بيض، ولكن ربما لسبب آخر، وقد بدأت في تحديد وفهم هذا السبب الآخر. هي أيضاً كانت تعامل كزنجية، خاصة من قبل رجال الشرطة، ولم تكن تحب أصحاب الأملاك.
كان والدي خلال كل السنوات التي عشتها معه، يقول إنني أبشع صبي رآه على الإطلاق، ولم يكن لديّ أيّ سبب للشك في كلامه. لكن كراهية أبي لعينيّ اللتين تشبهان عيون الضفادع لم تكن هي ما يؤلمني. هذه الكراهية كانت، كما تبين في مناسبات عدة، صدى أكثر منها واقعاً: لقد كانت لديّ عينا أمي. وعندما كان أبي يصفني بالقبح لم يكن يهاجمني أنا بقدر ما يهاجم أمي. (لا شك في أنه كان يهاجم أيضاً والدي الحقيقي المجهول.) كنت أحب أمي. وأعلم أنها تحبني، وكنت أشعر أنها تدفع ثمناً باهظاً مقابل هذا الحب. لقد كنت صبياً، ولذلك لم أبال كثيراً باعتقاد أبي أنني بشع. (هكذا كنت أقول لنفسي، مع أنّ هذا الحكم، رغم كل شيء، ترك تأثيراً مروعاً على حياتي)، ولكن كنت أقول في نفسي لا بدّ أنه أعمى تماماً (أو شرير بشكل غامض مثل هؤلاء البيض) طالما أنه غير قادر على رؤية أن أمي، بشكل لا يحمل أيّ شك على الإطلاق، هي أجمل امرأة في العالم.
لذلك، هنا، والآن، كانت بيتي ديفيز هناك، بعد ظهر ذلك السبت، في لقطة مقرّبة، فوق كأس من الشمبانيا، تطل بعينيها الجاحظتين. لقد شعرت بالذهول. فقد أمسكت بوالدي ليس في وضع الكاذب بل السقيم. لأنه، هنا، أمامي مباشرة، كانت تقف «نجمة سينما بيضاء»: وإذا كانت بيضاء ونجمة سينمائية، فهي بالتأكيد غنية أيضاً: ومع ذلك فهي قبيحة. انتابني الشعور نفسه الذي مرّرت به ذات يوم، قبل هذه اللحظة، أو بعدها، عندما كنت ألعب في الشارع، ورأيت امرأة عجوزاً، سوداء جداً، ومخمورة جداً تتعثر وهي تسير على الرصيف، وقد ركضت إلى الطابق العلوي وجذبت أمي نحو النافذة لترى ما اكتشفته: «هل ترين؟ هل ترين؟ ها هي امرأة أقبح منك يا ماما! وأقبح مني!». ربما بدافع الحيرة، أو بدافع الولاء لأمي، أو ربما أيضاً لشعوري بشيء خطير وغير صحي (بالنسبة لي، بالتأكيد) في الوجه المعروض على الشاشة، أضفيت على جلد ديفيز لون البياض الأخضر لكائن يزحف تحت إحدى الصخور، لكنني كنت مأخوذاً، تماماً، بذلك الذكاء الحاد لجبهتها، والكارثة التي تطوف فوق شفتيها: وعندما كانت تتحرك، كانت تتحرك مثل الزنوج. وفي النهاية، وهي راقدة في سرير المستشفى، استطاعت أن تقتل شخصاً، ويقوم تريسي بتحميل الذنب لـ«سينغ سينغ». وبين ذراعيه تبكي ديفيز وتبكي، وينتهي الفيلم.
سألت بيل ميللر «ماذا سيحدث لها الآن؟» وقالت بيل: «لا نعلم» ثم أفضت لي بأنها رغم ذلك ربما لن تستطيع تجاوز الأمر أبداً، وأن المرء يدفع في النهاية ثمن أفعاله.
لم أكن قد سمعت بعد أغنية بيسي سميث «لماذا يسمون هذا المكان سينغ سينغ؟ تعال وقف بجانب كومة الصخور هذه، واسمع أصوات المطارق. تدق». كان ذلك قبل سبع سنوات من بدئي العمل في السكك الحديدية. وقد مرّت فترة أطول قبل أن أبكي، ووقت أطول قبل أن أبكي بين ذراعي شخص ما، ووقت أطول وأطول وأطول وأطول قبل أن أبدأ في إدراك ما أفعله أنا نفسي بعينيّ الهائلتين، أو العكس. هذا لا علاقة له بالممثلة بيتي ديفيز، ولا بنوبات الشرود التي لم أكن أعلم بعد أنني أعاني منها: لقد اكتشفت أن نقيصتي ربما لا تعني نهايتي: أن نقيصتي، أو نقائصي، يمكن أن تتحول إلى أسلحة.
ذلك أنني لم أكن فقط قبيحاً في رأي والدي. لقد كنت أيضاً «غريباً» في رأي الجميع، ومنهم أمي المسكينة، لكنها، على أي حال، لم تضربني بسبب ذلك. حسناً، إذا كنت «غريباً»، وقد عرفت أنني لا بد كذلك، لأنني لو لم أكن غريباً لما تعامل معي الآخرون بمثل هذه الغرابة، ولما كنت شعرت بمثل هذه التعاسة، فربما تمكنت من العثور على طريقة لاستغلال هذه الغرابة.
إن الطفل «الغريب» يدرك، بكآبة وخوف، أن مرور السنوات ليس من المرجّح أن يجعله أقل غرابة. لذلك، إذا أراد أن يعيش، فيجب عليه أن يحسب الأمور جيداً، وكنت أعلم أنني يجب أن أعيش. أردت بشدة أن أسعد أمي وأن أجعلها فخورة بي، وقد أحببت كثيراً إخوتي وأخواتي، الذين كانوا، إلى حد ما، كل ما أملك. أبي، من ناحيته، لم يظهر محاباة في تعامله معنا، لم يضربني أسوأ مما كان يضرب بقية أخوتي لأنني لم أكن ابنه. (لم أكن أعرف ذلك حينها، ولم يكن أحد من أخوتي يعلم، وعندما عرفنا لم يمثّل الأمر بالنسبة لنا سوى تفصيل صغير في الرحلة الغريبة التي قمنا بها معاً). كنت أعلم أيضاً أن أمي تعتمد عليّ. لم أكن دائماً شخصاً يعتمد عليه، لأنه لا يمكن لطفل أن يكون شخصاً يُعتمد عليه، ولكنني حاولت: وقد فهمت أنه يجب أن أعدّ نفسي لكي أكون في يوم ما، رأس عائلتي الفعلي. لم يحدث ذلك في الواقع، لأننا اضطررنا جميعاً لتحمل مسؤوليات بعضنا البعض، والتخلّي عنها كل واحد بطريقته. الابن الأكبر يمكن أن يكون، كما يعلم الله، عبئاً بقدر ما يمكن أن يكون منقذاً، وهو محكوم عليه أن يكون لغزاً لمن ولدوا بعده، هذا إن لم يصبح فعلياً مصدر حنق لا يطاق. على أي حال، كنت الأخ الأكبر، وهي مسؤولية لم أكن أنوي أن أفشل فيها، وقد بدأت أول حساباتي الواعية حول الكيفية التي يمكن أن أهزم بها نوايا العالم بالنسبة لي خلال مساء يوم السبت هذا في دار العرض السينمائي، والذي كان في الحقيقة أول زيارة لي إلى سينما عقلي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا