في بداية ذلك الربيع من ١٩٨٦، حين عرف جان جينيه (1910 ــ 1986) أنّ أياماً قليلة بقيت له على قيد الحياة، توجّه الكاتب المصاب بسرطان الحنجرة إلى منزل محاميه رولان دوما الفخم في باريس. مكان مزدحم بالأعمال الفنيّة حيث مشغل كامي كلوديل. ألقى جينيه على الطاولة بحقيبتين: الأولى جلدية سوداء، والثانية بُنّية. «رولان، هاك كل عملي الحالي، اصنع به ما يحلو لك». في الفترة تلك، كان كاتب «الخادمتان» (١٩٤٧) و«يوميات لص» (١٩٤٩) قد صام عن النشر 25 عاماً. بعد رفض قاطع لنشر محتوى «الكنز» حين تمت إثارة موضوع «وديعة جينيه» للمرة الأولى عام ١٩٩٠ من قِبل ألبير ديتشي المختص في آثار جينيه، سيتنازل رولان دوما عن الحقيبتين لـ «معهد ذاكرة الكتابة المعاصرة» الذي يديره ديتشي نفسه حالياً، على أن تعرضا أمام الملأ في نهاية الشهر الحالي قرب مدينة Caen، وهو أمر كشفه الصحافي غاسبار ديليم*، في تحقيق كبير نُشر أخيراً في جريدة «لوموند» الفرنسية.
الكاتب الفرنسي جان جينيه بعدسة الفنان الفرنسي مارك تريفييه، 1985

«حين فتحتُ الحقيبتين للمرة الأولى، سُحرتُ بتلك الفوضى الثرية المدهشة، التي هي أشبه بمغارة علي بابا»، يقول ديتشي. نسخة من «الإشراقات» لرامبو، قميص قطني، فولار كان يلفّه حول عنقه مثل طلاب المدارس، مسودات كثيرة، مغلّفات، ملاحظات، دفاتر، مخططات، إعلانات، دفتر لقاحات، لفافات فوضوية، ونصوص جاهزة أو شبه مكتملة، منها بداية لجزء ثانٍ من كتابه الأخير «أسير عاشق» (١٩٨٦)، وسيناريو سينمائي غريب كتبه جينيه بطلب من صديقه المغنّي والممثل البريطاني دايفيد بووي المعجب بـ «سيدة الزهور»، والذي حلُم بلعب دور «ديفين» البطل المخنّث في الرواية (١٩٤٣)، إضافة إلى نصَّين عن اليابان. المفاجأة السارة للعالم العربي في حقيبتَي جينيه هو كتاب كبير عن فلسطين أنجز جينيه مقاطعه على أغلفة قطع السكر وعلى قفا فواتير الفنادق. فقد اكتشف جينيه بعد أحداث أيار (مايو) ١٩٦٨ أن ثورته الداخلية يمكن أن تعقد قرانها على ثورة في الخارج، فكان اختيار جينيه للفلسطينيين، الشعب المطرود من أرضه في آخر قضية كولونيالية في القرن العشرين، ليتوّج التزامه هذا بنص «أربع ساعات في شاتيلا» حين وصف في نهايته تضحيات الفدائيين في ملحمة طروادة: «المعركة من أجل البلاد يمكن أن تملأ حياةً جدّ غنيّة، لكنها قصيرة. وهذا، كما نذكُر، هو اختيار أشيل في ملحمة الإلياذة». من أجل معرفة أهمية حدث «الحقائب السحرية»، لا بدّ من العودة إلى بداية لقاء جينيه برولان دوما في بداية الستينيات من القرن الماضي، حين كان دوما محامي الانتليجنسيا الفرنسية والأوروبية. كان موكلاً بذخائر جاك لاكان والرسامين مارك شاغال وبابلو بيكاسو، وسيحبّه جينيه بسبب «لكنته الجنوبية، ولأنه لا يلقي بالمواعظ كما يفعل زملاؤه الباريسيون». دوما سيصبح صديق جينيه، وكاتم أسراره، سيجمعهما حب الفن، والعالم العربي وحتى الرغبة في انتهاك المحرمات. سيبثّ جينيه صديقه المحامي حزنه وكآبته لدى موت عشيقه المغربي عبد الله، لاعب السيرك وراقص الحبل: «كلا يا رولان، لا أريد أن أفعل شيئاً بعد الآن. بالمناسبة، لقد مزّقت جميع مخطوطاتي. لا بدّ لموتٍ من أن ينفع في شيء ما!». الحقيبتان اللتان رافقتا جينيه في جميع تنقلاته، من طوافه بين جثث الشهداء في صبرا وشاتيلا، وترحاله في غيتوات السود في الولايات المتحدة، وصولاً إلى مقامه في البيت «بالأشرعة الزرقاء» الذي شيّده لعبدالله في بلدة لاراش المغربية، تفصحان عن شيئين متناقضين لدى جينيه: ترمزان إلى الحرية المطلقة لرجل بلا بيت (وهذا من أسباب تعلق جينيه بالفلسطينيين) وبلا حدود، لكنها تشير في المقابل إلى أن جينيه ــ بالرغم من بوهيميته ـــ كان حريصاً على حياة «أخروية» تضمنها الكتابة. الكاتب العملاق الذي قاسى في شبابه السجن والإصلاحية والوضع تحت الرقابة الاجتماعية والتبني العائلي، وضع تصوراً للكتابة أشبه بالحياة: النزول بها مسرحياً إلى الشارع، بحيث «أن التراجيديا يجب أن نعيشها، لا أن نمسرحها». هذا الشبه بين حياة الأديب ونصّه لا يداني جينيه فيه إلا العملاق الآخر، أنتونان أرتو. لكن الفرق بينهما أن أرتو حين يهاجم في كتابته، يثقب ويحرق ويحترق، بينما جينيه يداعب ويمشي بخفة ويطير مثل «راقص الحبل».

* (ترجمة واقتباسات من تحقيق غاسبار ديليم حول حقائب جينيه وكتاباته السرية المكتشفة في جريدة «لوموند»، ٩ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٠)

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا