بينما كان الطيارون البريطانيون في الحرب العالمية الثانية يطيرون فوق صحاري بلاد الشام، أبصروا تحتهم أشكالاً تشبه طائرات الأطفال الورقية. لذا سموها Desert Kite، أي الطائرات الورقية الصحراوية. وقد تبين في ما بعد أن هذه الأشكال في الواقع مصائد صحراوية، منتشرة في صحاري بلاد الشام والجزيرة العربية.النموذج الأبسط لهذه المصائد يتكوّن من ضلعين طويلين منفرجين يضيقان بالتدريج، وينتهيان بحفرة، أو بئر. أما النماذج الأشد تعقيداً، فتملك أحياناً أكثر من ضلعين، ويصل طول كل ضلع عدة أميال. أما نهايتها، فتتشكل من دائرة ضخمة على محيطها دوائر- حفر كثيرة قد تكون عشراً أو عشرين دائرة.

نموذج معقّد للمصائد الصحراوية


وقد عُثر على بعض النماذج الأبسط من هذه المصائد في سيناء والنقب الفلسطيني. وهي كما نرى في الصورة أدناه مكوّنة من ضلعين وحفرة تربط بينهما في النهاية.

مصيدة صحراوية في النقب في فلسطين


كما عُثر في سيناء على نقش على الصخر لمصيدة تشبه النموذج الأبسط كما نرى في الرسم الصورة أدناه. ففي الرسم، هناك ضلعان تسير، أو تُدفع، بينهما الحيوانات، وعند نهاية الضلعين، هناك دائرة تمثل الحفرة أو البئر التي تسقط فيها الحيوانات.



ورغم أنه صار مؤكداً، أو شبه مؤكد، أن هذه المنشآت هي مصائد صحراوية، فإنه لم يعثر حتى الآن على نقش في هذه المصائد أو قربها يخبرنا أن هذه منشآت لصيد الحيوانات. كما أن التقاليد الجاهلية التي دُونت في الإسلام لم تحدثنا عن مثل هذه المنشآت. وهو ما يعني أن هذا الطراز من المصائد لم يعد يستخدم منذ نهايات العصر الجاهلي على الأقل، لكن ربما قبل ذلك بوقت طويل أيضاً. وليس معروفاً سبب التوقف عن إنشاء هذه المصائد.
غير أنني عثرت على نص عربي متأخر يقدم وصفاً جيداً جداً للنوع الأقل تعقيداً من هذه المنشآت. وهو يصفها بعموم. أي أنه لا يذهب إلى مصيدة صحراوية محددة في موقعها ويصفها لنا، بل يقدم وصفاً عاماً لفكرة المصائد. النص لابن منكلي المتوفى عام 784 للهجرة. وهو موجود في كتابه: «أنس الملا بوحش الفلا»، الذي هو كتاب عن الصيد والطرد. يقول النص: «وقيل: أول من عمل المصائد والصير لصيد الغزال، ملك كان قد جمع الوحش في مضيق، فلزّ الغزال فيه، وكان هناك مكان منخسف كالبئر، فصار الغزال يقفز في ذلك المكان، فيقع في تلك البئر إلى أن صار فيها غزال كثير، فقال الملك: لو عملنا مثل هذا لوقع فيه الغزال، فأمر من يعمل له مثل ذلك من الصير والزوايا، فحُفرت فيه الآبار ورُفعت حيطان، وهي المصائد» (ابن منكلى، أنس الملا بوحش الفلا).
إذن، وبناءً على هذا النص، فقد نشأت فكرة المصيدة الصحراوية بالصدفة. فقد كان هناك ملك صياد لزّ غزلاناً من مضيق، وكانت في نهاية المضيق حفرة منخسفة اضطرت الغزلان إلى القفز فيها، فأمسك بها. وقد فكر الملك أنه يمكن تصميم مصائد انطلاقاً من هذه التجربة الواقعية، عن طريق رفع حيطان تشكل ضلعي المضيق، يجري سوق الغزلان ولزّها بينهما، وتنتهي بخسفة- بئر- حفرة تسقط فيها هذه الغزلان.
والحق أن هذا الوصف ينطبق تماماً على رسم المصيدة الصحراوية الذي عثر عليه في سيناء، وعلى مصائد النقب. فالمضيق الذي تلزّ فيه الحيوانات يمثله الضلعان، والمنخسف تمثله الحفرة- الدائرة التي تسقط فيها الغزلان والحيوانات.
وانطلاقاً من هذا، يبدو أن العلامة التي تمثل المصيدة صارت رمزاً للصيد والصيادين. وخذ هذا النموذج لهذه العلامة التي حُفرت على صخرة، وجدته منشوراً في أحد المواقع في الإنترنت.



وكما رأينا أعلاه، فقد حدّثنا ابن منكلي في نصه التأسيسي لفهم المصائد ووظيفتها عن ملك محدد هو الذي اكتشف على الطبيعة تصميم المصيدة ونفّذه. لكن يبدو أن هذا الملك كان في الواقع ملكاً- إلهاً وليس ملكاً عادياً. ذلك أن هذه العلامة التي نتحدث عنها وُجدت مرسومة على كتف رجل- حمار، أو إله- حمار يدعى باسم «حمار طوط» من مصر القديمة. ويبدو لي أن هذا الحمار يمثل الإله أوزيريس في طوره القار.

الحمار طوط وعلى كتفه علامة الصيد


كذلك، فإن هذه العلامة موجودة في أدنى الوجه الأمامي لمسلة نعرمر الشهيرة من عهد ما قبل الأسرات في مصر، كما نرى في الصورة.



وكما نرى في الصورة، فهناك علامتان فوق الرجلين الهاربين أو السابحين. العلامة اليمنى منهما رسم مختصر لمصيدة، أي لعلامة الصياد.
وعلى كل حال، فإن وجود هذه العلامة، علامة الصياد، على كتف الحمار طوط يؤيد أننا مع الصيد. فالحمار هو رمز الإله الصياد. من أجل هذا، قال المثل العربي: «كل الصيد في جوف الفرا»، أي في جوف حمار الوحش. فحمار الوحش صياد لأنه يمثل الإله الصياد.

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا