بدأ أمر ما يزعم أنه حصان الملك البابلي نبونيد بتقرير لمجموعة من المستكشفين السعوديين يُسمون «فريق الصحراء»، عن محاولة إعادة اكتشاف نحت صخري لحصان كانت قد شاهدت صورته في كتاب «طرق القوافل» لسالم سمران الضوي. ومنذ البدء، كانت المجموعة مقتنعة أن النحت على علاقة بالملك البابلي نبونيد الذي أقام عشر سنوات في تيماء في منتصف القرن السادس قبل الميلاد: «علّق المؤلف على الصورة بقوله: رسمة الخيال. ولم يذكر وجود كتابه حوله. كنا متأكدين أن لها علاقة بنابونيدوس البابلي، وتمنينا العثور عليها حتى وجدناها في هذه الرحلة. رغم أنّ المؤلف لم يفصّل حول موقعه، لكن كنا متأكدين أنه على الدرب الغربي الذي يمر من خشيبوات ثم بين سرمداء وجبله الشرقية» (http://alsahra.org/?p=8118). وقد عثر الفريق بالفعل على الرسم في بلدة (قرية تيماء). وقدم له هذا الوصف: «الرسمة مميزة تماماً، ولا تشبه أياً من النقوش الصخرية المنتشرة في المنطقة لأنها رُسمت من أناس متخصصين، وليست من عمل الرعاة المتنقلين. إن الرسام الملكي أراد إعطاء انطباع القوة والجبروت في تعابير وشكل الملك بلحيته البابلية الممتطي فرسه، وهو يستحثّها على السرعة بعصا في يسراه، رغم أنّ الفرس يعدو بشكل رائع وكأنه يطير في الهواء» (المصدر ذاته أعلاه).
وكما نرى، فمنذ البدء أيضاً، افترض الفريق أن النحت ملكي، وليس من عمل الرعاة، وأن نبونيد هو الفارس الذي على ظهر الحصان. أكثر من ذلك، فقد عثر الفريق على نقش كان يتوقع أصلاً وجوده قرب الحصان وفارسه، مفترضاً منذ البدء أيضاً أنه يخص نبونيد: «أهم من ذلك أننا وجدنا على يسار الرسم رمزاً ونقشاً. والنقش كتابي وقد أكد لنا الدكتور مجيد خان أن النص يشير صراحة إلى الملك نابونيد ملك بابل» (المصدر ذاته أعلاه).
الحصان لنبونيد، والفارس هو نبونيد، والنقش لنبونيد كما أخبرهم مجيد خان! ومنذ تلك اللحظة، سرت «الشائعة» بأنه عُثر على حصان نبونيد وعلى نقش آخر له، وامتلأ تويتر بصور للحصان تحت عنوان «نقش نبونيد». ووُزعت الفيديوهات التي تتحدث عن الحصان الملكي. وانطلاقاً من هذه «الشائعة» الضخمة، جرت قراءة النقش القريب من الحصان. وهو ما يعني أنه لم تجر في الواقع قراءة النقش، بل جرى فرض نبونيد عليه فرضاً.

النقش تحت الحصان
والحال، أن النقش ليس لنبونيد، أو نبوخذ نصر كما افترض آخرون، وأنه لا ذكر لأيّ من الاثنين فيه. أكثر من ذلك، فليس من علاقة بين الحصان والنقش. زد على هذا أن الحصان أيضاً ليس لنبونيد، وأن من رسمه ليس رساماً ملكياً، بل واحد من أهالي المنطقة، أي أنه في غالب الظن راع من الرعاة. وقد وضع الرجل توقيعه تحت الحصان. لكن الجميع تجاهل هذا التوقيع. فالكل يؤكد أن النقش تحت الحصان متأخر عن زمن نحت الحصان، رغم أنني لم أعثر على أحد قدّم لنا قراءة لهذا النقش القصير كي نتيقن أنه من زمن مختلف. لقد نفيت العلاقة بين الحصان والنقش الذي تحته من دون برهان.
بناءً عليه، سوف أبدأ بالنقش الذي تحت الحصان، أي بتوقيع النحات كما أفترض. وهو نقش واضح جداً ويمكن قراءته بسهولة كالتالي: «لحجأ بتع».



أما «حجأ» فهو اسم من حفر النحت. بالتالي، فالمشكلة تتمثل في كلمة «بتع». ويبدو أن غموضها هو الذي أدى إلى فصل النقش عن الحصان، وفصل زمنه عن زمنه. لكن كلمة «بتع» ليست بهذا الغموض أبداً. فالبتع هو الحصان ذو العنق الغليظ القوي العنق أو الطويل العنق أو الظهر. يقال: فرس بَتِع، والأنثى بتعة، أي اشتدت عنقه: «البَتَعُ: طُول العنق مع شدَّة مَغْرِزه. يقال: عنق أَبْتَع وبَتِع، تقول منه: بَتِع الفرس، بالكسر، فهو فرس بَتِع، والأُنثى بَتِعةٌ. وعنق بَتِعة وبَتِع: شديدة، وقيل: مفرِطة الطول؛ قال: كلّ عَلاةٍ بَتِعٍ تَلِيلُها. ورجل بَتِع: طويل، وامرأة بَتِعة كذلك، ابن الأَعرابي: البَتِعُ الطويل العنقِ، والتَّلِع الطويل الظهْرِ. وقال ابن شميل: من الأَعْناقِ البَتِع، وهو الغليظ الكثير اللحم الشديد... ويقال: البَتَعُ في العنق شدَّته، والتَّلَع طوله» (لسان العرب). يضيف ابن سيدة: «البتع شدة العنق وإشرافها والتلع طولها. يقال: فرس بتع وبتعة وأتلعة» (ابن سيده، المخصص).
وهكذا، فلدينا «فرس بَتِع»، وهو من كان عنقه أو متنه على النحو الموصوف أعلاه. بناءً عليه، فالنقش تحت أرجل الحصان يقول «لحجأ [ال] بِتْع». أي لحجأ هذا الحصان البتع. ولا يمكن للمرء أن يخطئ في فهم أن النقش يشير إلى الحصان المنحوت في الأعلى، وإلى أن «حجأ» هو من نحت هذا الحصان. لقد استخدم حجأ كلمة «بتع» من دون أل التعريف (البتع) أو هاء التعريف (هـبتع)، وهذا ما ضلّل من حاول قراءة النقش كما يبدو لي. لكن هذا لأن حجأ كان في ما يبدو فناناً موهوباً ولغوياً ضعيفاً.
إذن، فالحصان يخص حجأ، غير أن الوهم جعله من صنع رسام ملكي وأعطاه لنبونيد. وقد افترض أن الحصان يشبه خيل البابليين، وأن فارسه بلحيته يشبه الفرسان البابليين. لكنه أيضاً يمكن أن يشبه خيل الفرس القدماء. بالتالي، فشكل الحصان المنحوت لا يحل مسألة تاريخ النحت.



وأقصى ما يكن الوصول إليه من شكل الحصان هو أن النحات تبع تقليداً لنحت الخيل ربما جاء من البابليين في أيام نبونيد، أو من الفرس بعدهم. وهذا يعني أن النقش ربما يكون حُفر في فترة ما بين القرنين السادس والثالث قبل الميلاد مثلاً.
مع ذلك، فإن اللحية المهندمة، والشعر المجعول كبة في الخلف ليسا غريبين أبداً عن الجزيرة. على العكس، لقد كان الشعر الطويل مع اللحية هو السائد حتى الإسلام وما بعد الإسلام.

النقش
ولنذهب الآن إلى النقش الذي يقع على يسار الحصان، ويزعم أنه يذكر نبونيد أو نبوخذ نصر.




النقش يُقرأ من اليمين إلى اليسار. وهو واضح في غالبية أجزائه. لكن بعد الحرف رقم 17 هناك منطقة فيها ثلاثة أو أربعة حروف أصابها الضرر. بالتالي، لا يمكن تقديم قراءة مؤكدة للنقش كله. فوق ذلك، تختلط على المرء أحياناً حروف الباء والكاف والألف، بسبب وجود خدوش حدثت عرضاً عبر الزمن.
مع ذلك، يمكن القول بأن الكلمات الثلاث الأولى في النقش واضحة. غير أن الحرف الثالث يمكن أن يُقرأ ألفاً أو باء. وأنا ميّال إلى قبول قراءته على أنه ألف. الحرف الثامن أيضاً يمكن أن يُقرأ كافاً أو باء. ذلك أن الشحطة المعقوفة فوقه يمكن أن تكون عرضية، وهو ما يجعله باء لا كافاً. فهي ليست مستقيمة مثل كاف الحرف رقم 17. وأنا أفضل قراءتها على أنها باء. بناءً عليه تقول الكلمات الثلاث:
«منأة تسبّب درب»
الكلمة الأولى قرئت عند بعضهم على أنها مناة. لكن الباحث أحمد الجلاد أوضح أن اسم الإلهة «مناة» يكتب «منت» أو «منتو»، أي أن الألف لا تكتب عادة في «مناة». بالتالي، فنحن مع «منأة». وهذا الاسم شائع جداً في النقوش الصفائية. ويمكن الحصول على الأقل على دزينتين من النقوش التي تذكره.
أما كلمة «تَسَبّب» فتعني هنا: صعد ورقي. فالجذر (سبب) يعطي معنى الترقي والصعود: «أَسباب السماء: مَراقِـيها؛ قال زهير: ومَن هابَ أَسبابَ الـمَنِـيَّةِ يَلْقَها، * ولو رَامَ أَسبابَ السماءِ بسُلَّم، والواحدُ سَبَبٌ» (لسان العرب). يضيف القاموس المحيط: «وأسْبابُ السماءِ: مَراقِيها» (الفيروزآبادي، القاموس المحيط).
وهذا يتوافق مع الكلمة التالية «درب». فهناك درب، وهناك صعود في هذا الدرب. وهو ما يعني أن «منأة» صاحبنا ترقّى طريقاً صاعداً إلى هدف ما. بناءً على هذا، فالنقش قرب الحصان لشخص يدعى «منأة». أما الحصان ذاته، فقد نحته شخص يدعى «حجأ». وهذا يعني أن لا علاقة للحصان بالنقش الذي على يساره. علاقته فقط بالنقش أسفله.
بعد هذه الكلمات، تأتي مجموعة حروف (ل ب ب ب ل ك د). الحرف الأخير ليس مؤكداً أنه دال. والحرف الثاني له خط فوقه، لكن تصعب قراءته على أنه كاف لأن الخط في الاتجاه المعاكس لخط الكاف العادي. وأياً كانت قراءتنا لهذه الحروف، فيبدو لي أنها تمثل اسم الدرب الذي صعده منأة. ويبدو لي أن اسم هذا الدرب يُقرأ «لبب بلكد»، أو «بلكع» إن كان الحرف الأخير عيناً. يؤيد هذا أن جذر «لبب» يعطي معنى الرمل الصلب المنحدر: «واللَّبَبُ من الرَّمْل: ما اسْتَرَقَّ وانحَدَرَ من مُعْظَمه، فصار بين الجَلَد وغَلْظِ الأَرضِ» (لسان العرب). بذا فمنأة كان يصعد في هذا اللبب المنحدر.
وكما بينت أعلاه، فإن المنطقة التي تلي أصيبت بتلف قوي، وهو ما يجعل قراءتها مجرد تخمين. لكن هناك أربعة حروف واضحة في نهاية النقش ربما كانت مكوّنة من كلمة واحدة هي «مبكن». أما المنطقة المتضررة، فأنا أقرؤها تقديراً «بِعِدّة». بالتالي، يكون لدينا في آخر النقش هذه الجملة: «بعِدّة مبكن». وكلمة «عدة» تشير إلى الزمان والتوقيت. فلدينا يوم العداد: «يوم العِدادِ: يوم العطاء؛ قال عتبة بن الوعل: وقائِلَةٍ يومَ العِدادِ لبعلها: أَرى عُتْبَةَ بنَ الوَعْلِ بَعْدِي تَغَيَّرا قال: والعِدادُ يومُ العَطاءِ؛ والعِدادُ يومُ العَرْض؛ وأَنشد شمر لجَهْم بنِ سَبَلٍ: مِنَ البيضِ العَقَائِلِ، لم يُقَصِّرْ بها الآباءُ في يَوْمِ العِدادِ» (لسان العرب). وجاء في حديث نبوي أن الحمى كانت تعادّ الرسول، أي تأتيه في أوقات محددة: وفي الحديث: ما زالت أُكْلَةُ خَيْبَرَ تُعادُّني فهذا أَوانُ قَطَعَتْ أَبْهَري أَي تراجعني ويعاودني أَلَمُ سُمِّها في أَوقاتٍ معلومة... وعِدادُ الحمى: وقتها المعروفُ الذي لا يكادُ يُخْطِئُه؛ وعَمَّ بعضُهم بالعِدادِ فقال: هو الشيءُ يأْتيك لوقته مثل الحُمَّى الغِبِّ والرِّبْعِ، وكذلك السمّ الذي يَقْتُلُ لِوَقْتٍ، وأَصله من العَدَدِ كما تقدم» (لسان العرب).
بالتالي، فقد صعد منأة في الدرب في توقيت يُدعى «عدة مبكن»، ونحن لا نعرف مبكن هذا حتى نعرف وقت عدّته. لا نعرف إن كان شهراً، أو عيداً، أو شيئاً آخر.
عليه، فالنقش كله يقول: «منأة تَسَبّب دربَ لبب بلكد (؟؟) بعدة مبكن»
أي: صعد منأة درب لببب بلكد بـ [وقت] عدّة مبكن.
لكن لو افترض فرضاً أن الحرف الأخير لام وليس نوناً، فسوف نكون مع جملة أخيرة تقول «بعدة مبكل». والبكل هو الخلط. وفي هذه الحال ربما كنا مع موعد ما له علاقة بخراج الماشية. ذلك أن البكل هو الخلط. والبكيلة خليط الضأن والماعز معاً: «البَكِيلة: الضأن والمَعْز تختلط» (ابن سيده، المحكم والمحيط الأعظم). وترد كلمة «بِعِدّ» كثيراً في النقوش اللحيانية- الدادانية، لكنها تُقرأ عادة «بَعْد» وتُفهم خطأ على أنها تعني: عقب وخلف. لكنها تعني في الحقيقة موعد العَدّ السنوي للزروع والمواشي، وهو العد الذي يجري فيه إخراج ما يخص الآلهة من الثمار والأنعام.
وانطلاقاً من هذا كله، فالنقش ليس نقش نبونيد، بل نقش «منأة». ومنأة ليست له علاقة بالحصان المنحوت على الصخرة. فحجأ هو من نقش تحت الحصان- البتع بيده.
بالتالي، فنبونيد ليس موجوداً على هذه الصخرة. لقد صعد إليها وهماً وخطأ.

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا