«وادي الغيوم» (دار المؤلف) رواية للكاتب علي نسر، تدور أحداثها حول البطل يوسف قنديل، ذلك الشاب الذي يلفت انتباه الجنس الناعم، أو كما قال عنه صديقه صلاح بأنّه المتفلّت الذي تتعرّى أمامه في كلّ يوم امرأة مختلفة. يوسف حامل هذا الاسم له دلالة سيميائيّة، فكأنّه يأخذ من قصة النبي يوسف تعلّق النّساء به، لكنّ قميص النبي يوسف صكّ براءة له، أمّا قميص يوسف بطل الرّواية فلم يكن بريئاً من مجاراة انجذاب النّساء نحوه، سوى امرأة واحدة. وكان لتعفّفه معها أنّها لم تكن سوى زوجة صديق عمره صلاح، فكانت ماجدة كزليخة بالنّسبة إلى يوسف، إنّ مسّها فهو يمسّ القيم والمبادئ التي يؤمن بها. ولم يكن يوسف البطل الذي يأخذ من اسمه معناه فقط، فالبطل المساعد في الرواية أي صلاح، يأخذ اسمه علامة سيميائيّة مهمة.

فاسمه يدلّ على مفهوم الاستقامة والعمل الصّالح، وهكذا كان حامل هذا الاسم، فهو بالنسبة إلى يوسف الإنسان الدّاعي إلى الخير وكما يقول يوسف عنه: «المتدين الذي تلوّنت جبهته من كثرة السّجود». وما هذه العلاقة المغناطيسيّة التي تشدّ صلاح إلى رفيق مختلف عنه، إلا لأنّه يرغب في إصلاحه «مشروع تخرّجي في الحياة أنت يا يوسف». وهكذا كان اختيار الاسمين دلالة على الأبعاد النّفسيّة للشّخصيتين، فاسم العلم يقوم بدور تمييزيّ للشخصية داخل المسار السردي. وإذا كان يوسف يمثّل صورة الشاب الماجن، فإنّ الرواية ليست قصّة «دونجوان» العصر، إنّما هي حكاية تجمع في أحداثها الكثير من القضايا الاجتماعية والأفكار الفلسفية والوجودية والدينية والحياتيّة.
والرّواية مشروع مشترك بين يوسف وصلاح إضافة إلى مرام، يتبادلون رواية فصولها، فيتحدّث كلّ راوٍ عن المواقف كما رآها هو أو عرفها. وتكتمل الحادثة عندما يتحدث الراوي الآخر. وتعدّد الرواة هو ما يفضّله بطل الرواية عندما تحدّث عن روايته المفضلة «لا أحبّ هذا النّمط من الروايات التي يكون الرّاوي أحادي السّرد والكلام والرّؤية».
ونلمح ظلال الكاتب من خلال ما ذكره البطل يوسف، فقد مضى القصّ في الرّواية، مستنداً إلى تعدّد الرّواة، يروون ما في داخلهم من تداعي أحداث الماضي، وربطه بما يجري في الخارج، فيتشكّل مسار سردين أوّلهما داخلي نفسي وثانيهما خارجي. وإذا اعتمد الكاتب في طرائق سرد الحوادث على طريقة الترجمة الذاتيّة، وأغفل ما له علاقة بالرّاوي العليم، ففي مقاطع أخرى من روايته يلجأ إلى طريقة المنولوج الداخلي، فيعرض من خلالها لخواطر الشّخصيّة ومن خلالها يكتمل رسم الشّخصية. وقد برز ذلك كثيراً من خلال حديث يوسف لنفسه، وفي رقدته بين أحضان والدته، تعود الذكريات إلى ذهنه فيخرجها لترتبط مع السرد من دون الالتزام بتتابعها الزمني للحوادث. وقد يتشكّل مسار السّرد من خلال دفتر الذكريات الذي يلجأ إليه البطل.
ومن طرائق سرد الحوادث المعتمدة طريقة الرسائل وقد لجأ إليها الكثير من الرّوائيين. وفي هذه الطريقة، يمكن للروائي أن يحمّل الرسائل جزءاً من مهمّة سياق النص القصصي. أمّا في رواية «وادي الغيوم»، فقد أبدل الكاتب طريقة الرسائل باعتماده على سرد فصول من رواية تُرجع البطل إلى «بداية الحرب مروراً بهولها ونكساتها وصولاً إلى منتصف الأحداث». وقد لازمت هذه الرواية يوسف قنديل حتى أدمن عليها، ولم تكن العودة إلى هذه الرّواية إلا لتكمل المشهد الذي يرسم لنا شخصية البطل النضالي. ويمكن القول إنّنا بتنا أمام رواية يكتبها الكاتب ضمن الرّواية الأساسية، يكمن دورها في رسم غير مباشر لشخصية يوسف قنديل.
الرّواية شاهدة على أسلوبه السّلس وحسن استخدامه للصّور البيانيّة


إنّ رواية «وادي الغيوم» بما يحمله اسمها من دلائل سيميائيّة إضافة إلى أسماء بطليها، جعلتنا نعيش من خلال طرائق سرد حوادثها حكاية يوسف قنديل، فهو الشخصية الرئيسة في الرواية، فكل الحوادث تدور حوله.
وهذه المحورية للشخصية الأساسية جعلت الكاتب يهمل تحديد معالم الشخصيات الثانوية، فلم يظهر منها إلا ما له علاقة في بناء حركية الأحداث المرتبطة بيوسف. وقد نقبل ألا نعرف من هي المرأة الجميلة المجهولة التي شاهدها في الأمسية الشعرية، واكتفى الكاتب فقط بإثارة فضول القارئ لاكتشاف هويتها، ولتكون ممهّدة للحديث عن مرام، لكنّ ما لم يكن مقبولًا هو إغفال إعطاء الصورة الواضحة عن مرام وماجدة. فمرام تحبّه، فيغدر بها وتخسر خطيبها بسببه لتتزوج رجلاً يعرف حقيقة مشاعرها، غير آبه لذلك وتكوّن معه عائلة في الاغتراب، لتعود لاحقاً للتّواصل مع يوسف، وتكون لهما مغامرة جديدة، وترحل من جديد تاركة إياه لتلحق بعائلتها من دون إبراز واقعها النفسي. ونقف حائرين مع المرأة الملتزمة التي اختلّ توازنها، فراحت تبحث عن حلول تناسبها وحدها أثناء غياب زوجها، فتطلب لقاءه لتعترف له، فيصدّها، ولم يعتمد الكاتب لعبة أغاثا كريستي في قصصها البوليسية، فلا نعرف القاتل إلا في الختام، إنّما نراه يترك للمتلقي الذكي في أن يكتشف أنّ هذه المرأة ما هي إلّا ماجدة زوجة صديقه صلاح من خلال قراءته لما بين السطور. وظلّت هذه العلاقة غير المكتملة هي موضع إعجاب صلاح به لأنّه تعفف عن الاستجابة لرغبات هذه المرأة التي رفض صلاح معرفة اسمها كي لا يحمل صديقه ويتحمّل معه شيئاً من الإثم. وهكذا بقيت ماجدة غامضة بتفاصيل نفسيتها، والأسباب التي قادتها إلى ذلك إلّا إذا أخذنا بالإشارة السريعة إلى اختلاف تربيتها العلمانيّة عن طبيعة حياة زوجها الدّينيّة. وظلّت هؤلاء النّساء يدرنَ حول البطل كما تدور الفراشات حول الضّوء من دون أن تدري أنّ في هذا الاقتراب من الضّوء احتراقاً لها.
وإذا تفنّن «نس» في طرائق السّرد منوّعاً بها، وأجاد في بناء الشّخصيات التي حقّقت مراده، فإنّ الرّواية شاهدة على أسلوبه السّلس وحسن استخدامه للصّور البيانيّة التي حفلت فيها الرّواية ناقلة المراد الذي يبتغيه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا