وصف المسيح في جملة شهيرة له الكنعانيين بأنهم كلاب: «ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا. وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود. ابنتي مجنونة جداً. فلم يجبها بكلمة. فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا. فأجاب، وقال: لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. فأتت وسجدت له قائلة: يا سيد أعنّي. فأجاب: وقال ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب» (متى 15: 12-26).
«موسى والثعبان» للفنان الفلمنكي بيتر بول روبنز (زيت على لوح ــ 159×144 سنتم - 1609/1610)

وقد أثارت هذه الجملة الجدل. إذ بدت للبعض قولاً عنصرياً مباشراً. لذا حاول بعض الباحثين العرب تبيان تناقض هذه الجملة من متّى مع التراث المسيحي، ونسبة ما جاء فيها إلى بعض التقاليد اليهودية التي ظلت عالقة في ذهن بعض الرسل المسيحيين: «في مداخلة أخرى يهودية لمتّى يضع على لسان يسوع قوله إن رسالته محصورة ببني إسرائيل، ثم يصف الكنعانيين بالكلاب الذين لا يستحقون بركته الشافية... فإلى أي حدّ تتوافق هذه الأقوال الشوفينية المنسوبة إلى يسوع مع بقية أقواله في الأناجيل الأربعة» (فراس السواح، الوجه الآخر للمسيح، ص 125- 126، منشورات علاء الدين، دمشق، 2007).
لكن يمكن الدخول إلى هذه الجملة الغريبة من مدخل آخر، إذ يبدو لي أن كلام المسيح يشير إلى أن رسالته كانت محصورة، في الأصل، ببني إسرائيل، الذين هم ليسوا اليهود، بل نقيضهم الديني في الواقع، قبل أن يجري دمجهما بشكل ما في التوراة التي نعرفها الآن. بالتالي، فمتّى لم يكن يضع كلاماً يهودياً على شفة المسيح، بل كان يواصل التقليد القديم لإسرائيل القديمة. من أجل هذا، أعتقد أنه من الخطأ فهم كلام المسيح باعتباره كلاماً عنصرياً ضد مجموعة إثنية تُدعى بالكنعانيين. فكنعان هنا مصطلح ديني لا إثني. وهو نقيض ديني لبني إسرائيل لا غير، مثلما أن الفلسطينيين في التوراة مصطلح ديني في مواجهة اليهودية. وأغلب الظن أن للكنعانيين هنا علاقة بكنعان بن نوح الشهير. وكنعان هذا مرتبط بالمياه السفلية، لذا يقال إن اسمه هو «يام» أي البحر: «قال بعض أهل التوراة: لم يولد لنوح إلا بعد الطوفان، وقيل: إن ساماً ولد قبل الطوفان بثمان وتسعين سنة، وقيل: إنّ اسم ولده الذي أغرق كان كنعان وهو يام» (ابن الأثير المؤرخ، الكامل في التاريخ). بالتالي، فكنعان وكنعانيوه هم الضد الديني لبني إسرائيل.
بذا، فوصف المسيح للكنعانيين بالكلاب مسألة دينية لا مسألة إثنية. وهو نابع من أن كنعان في النص نقيض إسرائيل. ويبدو أن كنعان مرتبط بجنوب السماء. وجنوب السماء مرتبط بالكلاب. فنجمة الشعرى التي تقع قرب برج الجوزاء في جنوب السماء، أو هي جزء منه، تدعى «كلب الجوزاء» عند العرب، و«نجم الكلب» عند اليونان. أما إسرائيل، إسرائيل الإله في الأصل، فشمالي. لهذا فمملكته شمالية. بذا فالمسيح يقول للمرأة: أنا جئت نبياً لبني إسرائيل الشماليين، لا لنقيضهم الجنوبي، وليس أكثر من ذلك. جئت للخراف الضالة الشمالية كي أجمعها لا للكلاب الجنوبيين وأبنائهم، المرتبطين بكلب الجوزاء. فإسرائيل مرتبط بالأغنام لا بالكلاب: (إسرائيل غنم متبدّدة. قد طردتها السباع) (إرميا 50: 17). فالإله الشمالي مرتبط بالخراف والأغنام لا بالكلاب. الإله الجنوبي هو المرتبط بالكلاب. بالتالي، فالمسيح يقول للمرأة: أنا جئت نبياً لبني إسرائيل الشماليين، لا لنقيضهم الجنوبي. يعني: لن ينفع ابنتك طبي أيتها المرأة.

أولاد الأفاعي
ويمكن أن نفهم تعبير «أولاد الأفاعي» في الإصحاح الثالث من إنجيل متّى أيضاً انطلاقاً من هذا المنوال: «فلما رأى [المسيح] كثيرين من الفريسين والصدوقيين يأتون إلى معموديته [يوحنا المعمدان] قال لهم يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة. ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً. لأني أقول لكم إن الله قادر على أن يقيم من هذه الأحجار أولاداً لإبراهيم» (متّى 3: 7-10).
أولاد الأفاعي هنا ليست شتيمة بل وصف ميثولوجي. دليل ذلك أنها وردت هنا في سفر لوقا على لسان يوحنا كوصف لجمهور المؤمنين به، أي عملياً المؤمنين بالمسيح، لا كوصف للفريسين والصدوقيين: «وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة. ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أباً. لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم» (لوقا 3: 7-8). وأنا أعتقد أن رواية لوقا هي الصائبة.
إذن، جمهور المؤمنين بالمعمدان والمسيح هم أولاد الأفاعي هنا. بذا، فلا تصلح فهم الجملة كشتيمة. إنهم أولاد حيات لأن رمزهم، أي إبراهيم، مرتبط بالحيات. فالآلهة الشماليون يتبدّون كحيات دوماً. من أجل هذا، كان موسى مرتبطاً بالحية. فعصاه حية وحيته عصاه. وإله المسيح يبدو من هذا الطراز كذلك. يؤيد هذا الجملة التي وردت في يوحنا: «وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان» (يوحنا 3: 14). ابن الإنسان هنا، الذي هو المسيح، سيُرفع إلى السماء كما رفعت الحية. والرفع هنا يعني الموت والانتقال إلى السماء. بالتالي، فالمسيح يُشبّه بالحية، حية موسى الشافية الشهيرة التي وضعها على رايته لشفاء جماعته. وبما أن موسى وإبراهيم من صنف إلهي واحد، فإن إبراهيم أيضاً حية. وأولاد الأفاعي الذي خاطبهم المعمدان هم أولاد إبراهيم. فما دام إبراهيم حية رمزياً، فإنّ أبناءه حيات أيضاً.
وصف المسيح للكنعانيين بالكلاب مسألة دينية لا إثنية. وهو نابع من أن كنعان في النص نقيض إسرائيل


فوق هذا، ربما كان علينا أن لا نفهم الحديث عن الخبز بالمعنى المجازي تماماً: «ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب». ذلك أن الإلهة التي ترتبط بالحيات ترتبط بالخبز أيضاً. إنها آلهة خبزية، أو من خبز. وهذه الآلهة شمالية. أي على علاقة بشمال السماء. لذا قال المسيح أيضا: «أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء» (يوحنا 6: 51). وقال أيضاً: «فمن يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبز النازل من السماء» (يوحنا 16: 57-58). الخبز، الذي هو المسيح ذاته، لا يُطرح للجراء، أي للآلهة الجنوبيين، بل للإلهة الشماليين مثل «مطعم الطير» العربي، الذي أكلت الطير من رأس ابنه. ذلك أن الخمر هي ما يخص الجنوبيين وجراءهم. عليه، فلم يكن المسيح يمتنع عن مباركة المرأة الكنعانية لأنه يفرق بين بشري وبشري، بل كان يضع حداً بين الشمال والجنوب. فالخبز، رمزياً، ليس للكنعانيين، بل لبني إسرائيل. وهذا الخبز لا ينفع أصلاً لكنعان المرتبط بالكلاب، فهو مخصّص لإسرائيل المرتبط بالأغنام. لكن شرط أن نفهم أن بني إسرائيل ليسوا اليهود، بل نقيضهم الديني. فنحن بين بني إسرائيل وبني يهوذا.
وإذا كان التفريق بين بني إسرائيل واليهود ليس واضحاً لدينا، فهو واضح في العهد القديم؛ فهناك «إسرائيل» الشمالية، وهناك «يهوذا» الجنوبية. إسرائيل هي بنو إسرائيل. ويهوذا هي اليهود، أو بنو يهوذا. وأصل هاتين المملكتين هناك في السماء. واحدة منهما ترتبط بشمال السماء، والأخرى بجنوبه.
والحال، أن المسيحية هي متابعة لتقليد إسرائيل، أو بني إسرائيل. أي أن المسيحية لم تنبثق من اليهودية بل من نقيضها: بني إسرائيل. هذا ما أوضحته النصوص الإنجيلية التي أوردناها: «لم أُرسل إلا إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل» (متى: 15: 25). وفي إصحاح آخر يضيف: «لا تسلكوا طريقاً إلى الوثنيين. ولا تدخلوا مدينة للسامريين. بل اذهبوا نحو الخراف الضالة من بني إسرائيل» (متى 10: 1-6). عليه، فرسالته لبني إسرائيل لا لليهود، ولا للسامريين. والسامريون جنوبيون مثلهم مثل بني يهوذا.
ويعتقد كثيرون جداً من باحثي التوراة أن إسرائيل الشمالية تقع في شمال فلسطين، أي في منطقة نابلس، ويربطونها، بشكل ما، بالسامرية. أي يخلطون بين شمال فلسطين وشمال السماء، مسقطين الإحداثيات الميثولوجية على جغرافيا فلسطين، وهو أمر مضلّل تماماً. فدينياً، ليست السامرة شمالية، بل جنوبية، رغم أنها تقع شمال القدس. دليل ذلك أن السامريين يتعبّدون لإله جبل جرزيم، الجبل الجنوبي، لا عيبال الشمالي، أي يتعبّدون جبل البركات لا جبل اللعنات، حسب العهد القديم.
اليهودية والسامرية معاً جنوبيتان. في حين أن بني إسرائيل شماليون. هذا يعني أن السامرة ليست ابنة إسرائيل القديمة دينياً، بل نقيضها الديني. دين اليهودية ودين السامرة دين واحد في الأصل. لكن السامرية جنوبية صافية، واليهودية جنوبية مختلطة. أي أن اليهودية سامرية مشوبة مخلوطة بمسحة إبراهيمية- إسرائيلية. ويجب البحث عن سبب وجود هذه الخلطة في الصراع السياسي بينهم وبين السامريين، وفي الصراع الذي استمر بين البطالمة في مصر وبين السلوقيين في الشام.
الصراع بين السامرة واليهودية ليس هو ذاته الصراع الميثولوجي بين إسرائيل ويهوذا. هذا أمران لا يتطابقان. الصراع بين إسرائيل ويهوذا صراع بين شمال السماء وجنوبها. أما الصراع بين السامرة واليهودية فهو صراع بين اليهودية الأكثر صفاء، أي السامرية، وبين اليهودية المختلطة، وهو صراع ديني وتاريخي معاً.
أما المسيحية، ذات الطابع الشمالي، فهي تجديد لإسرائيل القديمة. هي إسرائيل العهد الجديد. وفي رأيي أن الإسلام مثله مثل المسيحية استمرار لديانة بني إسرائيل القديمة، لا لليهودية. من أجل هذا فموسى وإبراهيم هما الشخصيتان المركزيتان في القرآن.
* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا