إلى أين من هنا؟ لا أعرف.كان العالم أخفّ من نقطة ماء بينما أعتلي المركب لأقعد فيه. ساكن، أبيض كاللون المنتشر على جسدي المبلّل وصدى أغنية يتناهى إلى مسمعي من قبو قريب.
عند وصولي إلى ميناء بلدتنا الصغير والعتيق، اخترت السباحة لمسافة قصيرة كي أصل إلى المركب رغم الألم الشديد في يدي اليمنى. لم أرغب بالتوجّه إليه عبر المصطبة لأنّها تزعجني بقدر السور المحاذي الملتفّ نصفياً. أشتمّ هناك روائح الضيق والتيه وحتى العدم. كأنّهما ملعونان.
ساعات قليلة مرّت منذ أن اعتدَت علينا مجموعة من السفلة داخل منزلنا. كنت إلى جانب رفيقتي جالسين بهدوء قبالة نافذة المنزل المشرفة على مقبرة البلدة والشاطئ الشرقي من خلفها، وأمامنا نصب انتهت من إنجازه قبل أيام.
أنا على يقين أنّ الأمور سارت على هذا النحو. لكن يهمني الإقرار منذ البداية أن خيار العبور إلى المركب سباحةً يتماشى واعتيادي القديم على السعي لأن آتي العالم من جوانب خلفية. لا شيء يرتجى في زمان أمسى فيه العيش خاضعاً لما أسميه قواعد العُلب: علب للنجاح، أخرى للإخفاق وغيرها لقتل الوقت وملازمة الحاضر، الحاضر المخادع الذي لا يملّ من نزوعه الطبيعي إلى أشباح الماضي.

كيرت سولمسن ـــ «قارب أصفر في الصباح» (زيت على كتان ــ 61 × 76.2 × 5.1 سنتم ـ 2020)

حاولت طيلة حياتي التي شارفت الأربعين سنةً، النأي بنفسي عن هذه العوالم قدر المستطاع. ربما لأنني شعرت منذ البداية أنّها تفتقر إلى المعنى. كنت أردد أن «لا حياة بلا تمرّد» رغم شعوري الموازي بعبث تملّكني منذ سنين طويلة. وكدليل على هذا التناقض، تاقت نفسي إلى عبارة ثانية اقتبستها من جملة لشاعر أحب: «فن العيش، هو فن تصديق الأكاذيب بإتقان».
كتبتهما في قصاصة ورق، ضاعت في منزلنا المخرّب أو ابتلّت بماء البحر حين قفزت فيه.
أجهل ما كانت تشعر به نفسي بينما أتكئ إلى زاوية المركب أثناء هذا الفجر ناظراً إلى بلدتي كاملة. لا أعرف إن كان العبث قد انتصر على التمرّد أو العكس حين اخترت صعود المركب وتحريكه بيد واحدة. لكنّي كنت راغباً في الصمت خلال تلك اللحظات أيضاً.
ألوذ به احتماءً من الفراغ المحيط وابتعاداً قدر الإمكان عن الأصوات المزعجة المنتشرة عشوائياً في بلدتنا مذ حضرت الميكروفونات إليها وبدأت حياتنا الجماعية تتبدّل وتتغيّر وينفلت العنف الذي لا بدّ أنّه كان كامناً فيها. فكأنّ كلّ شيء كان جاهزاً لنستبدل أصداء مؤنسة بغالبيتها، بأصوات خارجة من الميكروفونات من كل حدب وصوب. واعظة وزاعقة ومحرّضة.
أول ميكروفون رأيته في حياتي كان موضوعاً في منزلنا أمام مؤبّن في مأتم أحد أفراد العائلة. كنت طفلاً لم يتجاوز العشر سنوات. وقفت في حديقة المنزل، ثم مشيت في أحياء حارتنا وصولاً إلى ساحة البلدة، وكان الصوت مهيباً. يسكن الزوايا كلّها، لا مفرّ منه.
حدث ذلك قبيل الاهتداء الجماعي إلى سحر هذه الأداة. بعد مدّة قصيرة رأيت كثراً واقفين أو متربّعين خلف الميكروفونات. شهدت على الأصوات تتداخل في ما بينها، بينما لا تنفكّ مكبّرات الصوت تأخذ أحجاماً أضخم بحثاً عن أرجاء أوسع.
وحدها مغنية الحانة اليتيمة في بلدتنا دأبت على إحياء أمسياتها من دون الاستعانة بميكروفون. تقول إنّها تنفر منه بسبب «الرائحة الكريهة التي تسكنه مع مرور الوقت». تبدو محقّة، وأنا لا أعتقد أنّ مستخدمي الميكروفونات في بلدتنا فكّروا يوماً مثلها، وبأثر أنفاسهم وبقايا اللعاب المرافقة للكلمات الخارجة من أفواههم حتى على أقرب الأشياء إليهم.
اخترت العمل أستاذ لغة لصفوف الأعمار المتوسطة. جرّبت مرة أن أضع ميكروفوناً أمامي، سرعان ما وجدته أشبه بصنم قد يعبده المبشّرون، لا أنا. أقنعت نفسي بأنّ مهمتي لا تتعدى مساعدة التلامذة على متعة تتبع مفردات جديدة والعيش بينها. بيد أنّ ذلك لم يطل لأكثر من 12 سنةً، إذ انهار كلّ شيء فجأة.
انتهت مسيرتي التعليمية بسبب رصاصة واحدة أطلقت داخل قاعة التدريس. رماها تلميذ خرج من منزله برفقة مسدس، مقلّداً والده. لم تصبني، وهذا جيّد ربما، لكنّها سكنت في أعلى الحائط، في صورة أشهر خطباء البلدة.
سُجِنتُ سنة كاملة لأنني «تساهلت في إجراءات ضبط حصة تعليمية»!
كانت فترة قاسية، اعتراني في خضمها شعور الافتقار إلى الوجود. أدركت أنّ الأمل مملّ، وغالباً لا طائل منه.
لعلّ الشيء الوحيد المثير للسخرية يتمثّل في تأكدي من أنّ للسجن أيضاً ميكروفوناً. سمعت عن الأمر في الخارج، لكنني لم أتحدث أبداً إلى شخص غادر السجن.
من دواعي الرحمة أنّ مدير السجن الذي يتلو أوامره وبرقياته صباحَ مساءَ كان ترقّى ضمن هياكل شرطة الآداب قبل توليه المنصب. كانت كلماته باهتة وقميئة كعالمه. لا تحمل تطلعات وتعشّش في أطر بالية، ولكنّها بلا أدنى شك أقلّ خطورة من نظرائها في الخارج.
تعرّفت أيضاً إلى صاحب أشهر قضية في البلدة، إذ لا تزال عالقة أمام المحكمة تنتظر البت بها منذ عشر سنوات.
كان صيّاداً بسيطاً قد بلغ الستين. في الملابسات أنّه قُبض عليه في ليل على متن مركبه في الميناء يستمع إلى أغنية «أنا مجرّد صوت» الشهيرة التي كانت تحوّلت إلى جزء من الذاكرة الشعبية قبل هذه الأيام المشؤومة. أراد السخرية من العالم المحيط والاستهزاء به: وضع ميكروفوناً أمام المذياع وربطه بمكبّرات صوت، جاعلاً صدى الأغنية يتردد في أنحاء البلدة كافة مزاحماً خطباء ذاك الليل.
قضية قد تدفع نحو تبنّي العدمية التي صارت تبدو أنها، هي لا غير، الأمل والملاذ الأخيران.
حين تصادقنا، اعتبرت أنّ لقاءه رفيقتي في اليوم المخصّص للزيارات سيكون أجمل هدية أقدّمها لها. لا لتُظهر براعتها في حفر وجه هذا العجوز على حجر رسوبي من الأحجار التي تشتهر بها بلدتنا. إنّما لتكمل قطعة فنية بدأتها قبل أربع سنوات.
أرادت لمنحوتتها أن تؤبّد أحوال البلدة. لم ترغب في العمل على فكرة الميكروفونات أو تصوير مستمع هائج مثلاً. اختارت نحت وجه سمكة على حجر أملس تكون لها عينا وجبين رجل «عاصر التحوّلات كلها حتى صارت تجاعيده تروي أيامنا» كما تقول.
وجدَت في هذا العجوز ضالتها، وأخبرتني في زيارات قليلة لاحقة أنّها تتقدم في العمل وسط سريّة تامة. لكنّي أجهل كيف تسرّب الخبر وأطبقوا علينا في منزلنا بعد ساعات قليلة من مغادرتي السجن. دفِع الباب دفعة قوية ولم نعرف كيف صاروا بيننا بعصيّهم بينما كنّا قبالة النافذة والنصب أمامنا ننظر إليه بصمت.
الآن وأنا أستعيد الأحداث الممتدة على سنوات، أعتقد أنّ القدر وحده أتى بي إلى هذا المركب. نمت وأنا أختزل بعضها وأعيد تركيب أخرى وأبكي بكاء مريراً. رأيت وجوهاً أمامي، أغمضت عينَيَّ. سمعت صرخات وتنهدات، أطبقت على أذنَيَّ بيدَيَّ. شممت روائح صور عابرة، زججت بإصبعين بعنف في أنفي. شعرت بشلل، مررت يدي على القط الذي وجدته صدفة معي هنا حيث كان يرقد هانئاً بين شباك الصيد.
حين أفقت على صوت نوارس والقط يعبر فوق جسدي النحيل، لم أرَ سوى المياه (ونعم، كانت «كلّها بلون الغرق»). سرعان ما تذكرت الحلم الذي رأيته: أنا ورفيقتي في مركب يسيّره ذاك الصيّاد نفسه. نبحر في مياه، أو دخان لا أذكر، ثمّ ينقلب المشهد مراراً رأساً على عقب، فيصير أعلى الصورة أسفلها ونحن والمركب كذلك. يبرز النصب في الأثناء متحدثاً بصوت خفيض. لا أذكر ما كان يقوله، لكنّي سأكرر كلماته وحدها إذا ما هزمت النسيان وعادت إليّ.

* نقلاً عن مدونة «المراسل»

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا