الشخصيات: الجثّة، أمّا بقيّة الشخصيات من الطفل إلى المرأة إلى العجوز، فهي حالات تتلبّس الجثة في اعترافها الأخير. تغيّر الجثّة نبرة الصّوت وفق الشّخصية التي تتقمّصها: الطفل/ المرأة/ العجوز، بالإضافة إلى تغيير حدّة الصّوت بين الأسئلة والأجوبة التي تعرضها على نفسها.المكان: داخل القبر
الموسيقى: لا يوجد موسيقى! فالموسيقى، هي حركة الممثِّل، وصوته، وحفيف جسده، وهمهمات الجمهور أو سعالهم، أو رنين هواتفهم، أو صوت خروجهم نتيجة الملل من العرض، أو عدم فهمه. من الممكن الاستعاضة عن عدد من الجمهور بوضع «منكانات» لرجال ونساء وأولاد يظهرون بجسدهم البلاستيكي، بعضهم كامل الجسد، وبعضهم ممثَلاً بجذوع علوية، أو سفلية.
الفصل الأول والأخير/ المشهد الأول والأخير: تظهر مساحة مضاءة وسط المسرح، الإضاءة من الأعلى، والجثّة ملفوفة بكفن كأنّها مومياء، وخلفها في آخر المسرح من الجهتين اليسرى واليمنى يقف الملاكان، منكر ونكير، وتسلّط عليهما إضاءة خافتة مائلة، وهما يضعان رمزي المسرح: الوجه الضاحك والوجه الباكي.
تبدأ الجثّة بفضّ الكفن؛ لتخرج منه كما تولد الفراشة من الشرنقة. قماشة الكفن البيضاء ملصق عليها ورق أبيض. تخرج الجثة من الكفن تلبس لباساً أبيضَ، ووجهها مصبوغ باللون الأبيض، تلقي الكفن جانباً وتحاول أن تبدأ بالكلام، إلّا أنّ قلماً في فمها يمنعها من النطق، تبصقه وتبدأ بالثرثرة.

فرانسيس بيكون ـــ «دمٌ على الأرض» (زيت على قماش، 1986)

تسعل وتكحّ بشكل متكرّر، وتهرش جسدها بشكل ظاهر ومكثف.
الجثّة: الظّاهر أنّ رئتيّ مملوءتان بالغبار ككيس مكنسة كهربائية، حتماً هذا من عدم التنفّس لأنّه من النَفْسِ، ولقد غادرتني نفسي مع دمائي، فمن أنا؟ أنا الخزف الذي يعود تراباً والدليل الغبار الذي في رئتيّ! (تنفض جسدها من الغبار)، وما هذا القلم الذي كان في فمي؟ آه، إنّه حفنة التراب!
تصمت قليلاً وتدوّر رأسها في المكان، ومع الإضاءة السّاقطة من فوق تبدو حولها هالة من الغبار.
الجثّة: هذا القبرُ واسعٌ، فألٌ حسنٌ، فلو كان ضيقاً، ضاغطاً عليّ؛ لكنتُ في وضعٍ سيّئ. هل أستبشر خيراً لمرّة واحدة في حياتي؟! أوه، أنا ميّتُ، إذن لتكن الجملة: هل أستبشر خيراً لمرة واحدة في مماتي؟!
تنظر باتجاه الكفن، تقترب منه، تمسكه بيديها، وتبدأ بنزع الأوراق عنه وهي تهرش جسدها.
الجثّة: قلمٌ، أوراقٌ بيضاء للكتابة، بدأتُ أفهمُ، آه، أدركت المغزى تماماً، يجب أنْ أدوّن سيرة حياتي الذاتية هنا، فعلى ما يبدو أنّهم في الآخرة يحبون ذلك.
تنظر إلى الخلف، فتجد الملاكين منكر ونكير.
الجثّة: الملاكان العظيمان، منكر ونكير، يا أهلاً وسهلاً، أفهم أنّكما غير مخوّلين بالكلام؛ لكي لا تؤثرا على شهادتي، يحيا العدل.
يتكلّم أحد الملاكين: وليكتب كاتبٌ بالعدل.
تجلس الجثّة على الأرض، تضع الأوراق أمامها وتجرّب أنْ تكتب.
الجثّة: هذا صحيح (تصمت قليلاً) لو كان هناك آلة تسجيل لكان الأمر أفضل (ثم تنظر إلى الأوراق وتصيح) إنّها مفاجأة سارة، فكلماتي قد كُتِبَت على الأوراق لوحدها (تضحك) أظنّ بيل غيتس لم يصل إلى هذه التقنية، وما دامت الكلمات تُكتب لوحدها، فهذا أمرٌ جيدٌ جداً؛ فلا يصاب القارئ بعدي بجلطة قلبية من كثرة الأخطاء الإملائية.
تعاود النّظر إلى الملاكين.
الجثّة: ألا تيْبس أجنحتكما من هذه الوقفة الطويلة؟ سأبدأ الآن، لا تقلقا، أعرف أنّ وراءكما أعمالاً كثيرةً، أعتذر أيّها المبجّلان.
تقف، تتمشّى حول كفنها والأوراق، تضع يدها على بطنها، تصرخ من الألم.
الجثّة: آه، أه، آخ ... إنّها الطعنات التي متُّ بسببها، لكن أين الدماء؟ بالتأكيد نزفتُ حتى الموت، وإلّا لم أكنْ هنا وعلى ما أذكر قبل أن ينطفئ ضوء عينيّ، رأيتُ فيما يشبه الكابوس قطةً تلحس الدّماء المتجمّعة تحتي ثم هربتْ بعدما سمعتْ صوتَ كلبٍ في الجوار، للحقيقة لا أعرف إنْ لعق الكلبُ من دمائي، كنتُ قد متّ وقتها.
تصمت وتتحسّس مكان الطعنات، مع استمرارها بالهرش والحكّ.
الجثّة: هذا الغبار يسبّب الحكّة، إنّه أشبه بالقمل والبراغيث (تصمت فيما تهرش جسدها مع تأوهات تشي بالمتعة) هذه الطعنات تشبه الشفاه ينقصُها لسان وتتكلّم أو تُقبّل، آه، نسيتُ، اللسان قطعته السكين، سكين قاتلي كانت حادّة، دخلت بسلاسة كأنّ بطني قالب من الكاتو، لم أحتفل يوماً بعيد ميلادي.
الجثّة تغني: happy birthday to you ،happy birthday to you.
الجثّة: هذا لا يعني أنّني لم أولد، فموتي دليل على ولادتي، الأفضل أن أرنّم: happy death to me، happy death to me، اللعنة! هذه الترنيمة تحتاج لترجمة.
تنظر إلى الصفحات الملقاة على الأرض، تبتسم.
الجثّة: هذا ما أسميه الترجمة الفورية (تقرأ): موتٌ سعيدٌ لي، موتٌ سعيدٌ لي.
تقف وتعاود المشي في المساحة المضاءة وهي تتلمّس بطنها.
الجثّة: يوم ولادتي كان تقديرياً، هكذا كتبوا ملاحظة في إضبارتي في الميتم، وتسميتي باليتيم تصحّ جوازاً في حالتي، فأنا لقيطٌ واللّقيط يعني أنّه ليس يتيماً وليس عجيّاً، المهم أنا يتيمٌ. هذا هو التوصيف القانوني، فالميتم بيت اليتامى.
توقفت في مكانها، وبدأت بتقليد صوت الطفل، تضع أصبعها في فمها.
الجثّة: لن ينجح الأمر، فلا ذاكرة شخصية لي من ذلك الزّمن والذّاكرة الورقية المسجلة في إضبارتي لا تذكر شيئاً عن طفولتي. يبدو عليها الشّرود والتحديق في نقطة ما خلف الجمهور.
الجثّة: كان عجوزاً، والعجوز يجب أن يكون جدّاً! يجلس على بوابة الميتم، واليتيم تستطيع أن تشتريه بقطعة حلوى، وما المانع أن يلعب العجوز قليلاً، فكما لعب العجوز قليلاً، لعبت أنا كثيراً عندما كبرت.
تجثو على الأرض.
الجثّة/ الطّفل: (تغيّر صوتها كصوت الطفل) لا يا جدّي لا تفعل ذلك، أمّي ستضربني.
الجثّة/ العجوز: (تغير صوتها كصوت عجوز) لن تعرف، اصمتْ، كُلْ الحلوى واخرس.
الجثّة: أوه، عليّ أن أنتبه من الرّقابة، فلن تجيز ذلك؛ سأتحول إلى التلميح، وهنا خطأ تسلسلي وغير منطقي، الأمّ غير موجودة، فكيف ذكرتها؟ أنا مجرد لقيط كنت أعيش في ميتم! إذن، واضحة جدّاً أيّها الأحمق (مخاطباً نفسه!) كلّ طفلٍ يفترض وجود أمّ له حتّى لو لم تكن موجودة، وكان يجب عليّ أنْ أخيف البوّاب العجوز/الجدّ بأحدٍ ما، والأمّ هي الأنسب.
تغيّر الجثّة نبرة الصّوت بما يتلاءم مع صيغة السّؤال والجواب.
تحرّك قسمها الأوسط بطريقة موحية جنسياً.
الجثّة: (تتكلّم بصيغة الحكواتي) كان طفلاً أسود الشَّعر، بني العينين، ضعيف البنية، يثير الشّفقة والشّهوة بآنٍ واحدٍ. للشّهوة جذر في الشّفقة. يشبهني عندما كنتُ في عمره، أجده دوماً على سلّم الدرج في انتظار أن تعود أمّه من العمل، فهي مطلّقة، هكذا أخبرني، وحدّثني أنّها تجلب رجالاً آخرين بدلاً من الــــ بابا إلى البيت، يعطونه الحلوى، ويغلقون عليه الباب، ويتركونه وحيداً، وسألني: لماذا لم تجلبكَ أمّي إلى البيت!؟ لم أجبه وقلت له: أنتَ الآن عندي ونستطيع أنْ نلعب دون أن يغلقوا عليك الباب.
تتلمس قفاها، وتبدو علامات الوجع على وجهها، وتستمر بهرش جسدها، وحكّه كالمصاب بالجرب.
الجثّة/ الطّفل: عمّاه، لا تفعلْ، توقفْ، هذا يؤلم آخ، آخ، هذا عيب، آخ!؟
تنهار على الأرض وتبدأ بالنشيج، ثمّ يرتفع صوتها ليصل حدّ الصراخ، فينتفض جسدها انتفاضات متتالية كأنّه يتلقى ضربات سكين.
الجثّة: توقّف عن الشّكوى أيّها الطفل، وإلا لن أكون لك عمّاً، ولن أجلب لك الحلوى ولن ألعب معك، لا تخف، سأعود معكَ إلى البيت عندما تأتي أمّكَ.
تستدير، تمثل أنّها تفتح باباً وتغلقه خلفها.
الجثّة: كلّنا نعرف ماذا تفعلين أيتها العا...!
الجثّة/ المرأة: ماذا تريد وما شأنك أنتَ؟
الجثّة: أريد حصتي، وإلّا لن تجدي نفسكِ إلّا مطرودة من هذا البيت.
يحصل كلّ ذلك أمام الطفل، يظهر ذلك من نظرات الجثّة، وحركات يديها التي تبدو كأنّها تلعب بشعر طفل شبح.
الجثّة: ها قد جئتُ معكَ والآن أمّك لن تضربك! لن تفعلي، أليس كذلك؟
الجثّة/ المرأة: (تغيّر نبرة الصّوت كأنّها امرأة) لا، لا، لن أفعل، ولكن دعني أدخله إلى الغرفة الثانية.
الجثّة/ الطّفل: ألم تخبرني أنّكَ لن تدخلني إلى الغرفة!؟
الجثّة: نعم وعدتكَ بذلك ولكنّ أمور الكبار لا يجب أن يشاهدها الصّغار؛ عندما تكبر ستعرف! هيا إلى الداخل.
الجثّة/ المرأة: هيا يا أمّي، ادخلْ إلى الغرفة.
الجثّة: هذه المرأة كالخرقة من كثرة ما عبثت بها الأصابع، إنّها لا تصلح لمسح بصاقٍ وما أنا إلا بصاق.
يبدو أنّ الجثّة تذكرت شيئاً.
الجثّة: لم يدفع العجوز ثمن المشروب منذ زمن، وعطشي يزداد. أنت أيّها العجوز، يا حارس الميتم، أمازلت تخبئ نقودك عنّي، أولادك تركوك هنا، وحيداً، أليس هذا صحيحاً؟ هم لم يتركوك (تضحك بسخرية) أنت لم تنجب، لذلك تبنّيت يتيماً، بالأحرى لقيطاً؛ هو أنا، لتقضي شهوتك به. زوجتك الشّمطاء لم تستطع تحمّل وسخك، فهربتْ! لكنّني من بقي، وتحمّل حقدكَ على الدنيا، هيا ادفعْ لابنكَ المُتبنى بعض النقود، هيا أيّها العجوز عندما تموت لن تأخذ معك إلّا عملكَ الصّالح (تقهقه) هيا، عليك اللّعنة.
تصفع الهواء أمامها بيدها وكأنّها تضرب العجوز.
الجثّة: اللعنة لقد متّ قبل هذا العجوز، أوه، وليس لدي أعمال صالحة.
تلتفت نحو الملاكين وتكلّمهما.
الجثّة: لن ألعن قاتلي، هو لم يكن يقصد ذلك، هو سارق وليس قاتلاً، لكنّه قتلني قبل أن أتمكّن من ممارسة التّوبة، آه، لقد حرمني من التّوبة وهذه أكبر جريمة، نعم! وهذا أشدّ من القتل، يجب أن يُشنق ويتدلّى كلسان القطّة التي لعقتْ دمي.
تبدو وكأنّها ترفع كأساً وتشرب.
الجثّة: أحتاج إلى كأسٍ من المشروب وسجائر لأنهي هذه الأوراق، لكن يبدو من عدم وجودها أنّ هناك مرسوماً يقضي بمنع التدخين وشرب الكحول في القبور، لكن ما ضرر التدخين والكحول؟ ما أنا إلا جثّة ستتفسخ بعد أن تنتهي من كتابة هذا التقرير.
تصمت وتهرش رأسها، فيتساقط الغبار.
الجثة: نعم، لقد فهمت، لا تبتئسا أيّها الملاكان الكريمان. إنّ منع التدخين والكحول وُضع بسبب الخوف على الديدان من القطران والكحول وهذا حقّ. لا ريب أنّ أفكاري هذه نوع من التّوبة، أليست التّوبة هي المعرفة الحقّة؟
تقف منتصبة، تشدّ على رقبتها، تُخرج لسانها وترتفع على أصابع قدميها.
الجثّة: هكذا سيكون مصير السّارق، الشّنق. سارق وقاتل؛ نحن أمام عوامل مشدّدة اجتمعت مع بعضها البعض، لكنّ هناك أسباباً مخففة تقديرية تشبه يوم ولادتي. كنتُ سكراناً عندما هاجمني، أنا من تعلّق به معترضاً هروبه كي أدعوه إلى كأس، كنتُ أريد نديماً، فأنا أشعر بالوحدة، أمّا هو، فقد كان على عجلة من أمره، والمستعجل يهرب من المستوحِد. يا له من غبيّ، كنّا سنصبح صديقين، ولن أمانع أن يسرق العجوز الأخرق. كنت سأعرّفه على جارتي المطلّقة، أمّا ابنها فلي وحدي، ومن يقترب منه سأقطع رأسه. أيّها السّارق الأحمق لم أكن أبتغِ منك شيئاً، كنتُ سأموت من كثرة تناولي للكحول والآن أنتَ تتحمّل وزر قتلي، يا لِحظّك التّعس، ألم تكفِك السّرقة حتّى خضت في القتل!؟

(*) مقتطف من رواية «جريمة في مسرح القباني/ الحدّ والشبهة»، تصدر قريباً عن «دار ميم» في الجزائر.
(**): سوريا