في سنة 1940، قبع أورهان كمال (1914-1970) وناظم حكمت (1902-1963) معاً في الزنزانة رقم 52 في سجن بورصة. كمال كان معجباً بـ«شاعر تركيا الأعظم»، وكانت له محاولات بدائيّة في الشعر، وهو سُجن لنشاطه السياسي، كما للعثور على أحد دواوين حكمت المحظورة في حوزته، أثناء أداء الخدمة العسكريّة. أمّا حكمت، فكان نزيلاً دائماً في سجون تركيا لأفكاره الثوريّة، ولمعارضته نظام أتاتورك (لو أنّه أيّد بداية حركته التجديدية ضد الإمبراطورية العثمانيّة)، لكنّه نُقل من سجن تشانكيزي إلى سجن بورصة الذي يحتوي على دورات مياه في الغرف لمعاناته من عرق النسا. انعكس تقارب الرجلين على كمال، الذي حاد عن طريق الشعر الذي كان ينظمه على وزن الهجا (وزن يعتمد على المقاطع الصوتية، ويُعتبر من العروض الخاصة بالشعر التركي)، وانتهج طريق القصّة والرواية عملاً بنصيحة معلّمه حكمت. الأخير الذي كان يكره الوحدة، كتب خلال هذه الفترة الجزء الأكبر من كتابه «مناظر إنسانية من بلادي» في الزنزانة، وتولّدت صداقة بين الاثنين، استمرّت حتّى مع انتهاء محكوميّة كمال من خلال الرسائل بين الرجلين.

في مذكرات «ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت» (منشورات المتوسط ــ 2020، ترجمه عن التركية أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير)، الكثير عن شخصيّة ناظم حكمت، الشاعر والرسّام في عينيّ أورهان كمال الذي يصفه بـ«ماكينة شعر عملاقة»؛ أفكاره السياسيّة وثقافته الواسعة ورؤيته لدور الفنّان وصَلاته الدائمة في اتّجاه قبلة الإنسان. في ختام الكتاب رسائل تبادلها الرجلان، توضح أن كمال بدأ مشروعه الروائي، فيما كان حكمت يتابع تسويق منتجات مشغل السجن من ملاءات الأسرة والفوط، وكتابه «مناظر إنسانية من بلادي»، الذي يتحدّث فيه شعراً ونثراً عن تاريخ تركيا منذ الدولة العثمانية وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية زمن الجمهورية التركية. إشارة إلى أنّ الرسائل المضافة إلى نهاية الكتاب، كان أرسلها محمد فؤاد ابن حكمت لإيشيق أووتشو ابن كمال الذي أدمج في الكتاب أيضاً مذكرات والده في السجن.
يوجز كتاب كمال الصادر أصلاً في اللغة التركية سنة 1965، وبأسلوب سهل يقترب من التبسيط، وبحميميّة، محطّات كثيرة تدلّ على أنّ السجن كان مختبراً حقيقيّاً لشعر حكمت المؤمن بمقولة «الشاعر مهندس الأرواح»، وتأثّره بماياكوفسكي، واهتمامه بتجديد المضمون الشعري أكثر من الأسلوب، وآرائه في التيّار الشعري التركي التجديديّ الصاعد آنذاك. كان الشاعر المرموق يعلّق على حركة هذا التيّار، قائلاً لكمال إنّها كانت تتناول الشكل بخاصّة (كسر القافية والوزن). صحيحٌ أنّ حكمت كان يستسيغ المنضوين تحت هذا التيّار الذين كانوا يستخدمون مفردات سهلة من اليوميّات في شعرهم، إلّا أنّ الشاعر التركي الثوري كان من الداعين إلى الإفادة من إمكانيّات تطوّر الشعر عبر العصور، بعيداً عن «التصفية». وكان يأخذ على شعر المجدّدين إهماله القضايا الإنسانيّة الكبرى، والانغماس في التغريب. حكمت الذي كان يعني له الكثير أن تفهم عامّة الشعب شعره حتّى يصبح «شعراً لهم»، كان دائم الحذف للعبارات التي لا يفهمها المساجين من كتابه «مناظر إنسانية من بلادي». شعره كان أصيلاً، مقترناً بآهات الكادحين وخوف المظلومين، ورؤيته أمميّة.
وفي جانب التشكيل، تفاصيل عن زيارات أمّ حكمت معلّمته الأولى للرسم في سجنه، وهي كانت ترسم أثناء هذه الزيارات بعد أن يُسمعها حكمت أشعاره، تحت دهشة المساجين الذين لم يألفوا مشهد امرأة عجوز ترسم، فتتحوّل الزيارة إلى حصّة في الرسم، على إيقاع نقاش الأم والابن الصاخب؛ الأمّ تركّز على أن يبدو رسمها برّاقاً وجذّاباً، فيما حكمت يشدّد على رسم جمال القبح الذي يعكس البيئة الاجتماعيّة. علماً أنّ حكمت رسم بورتريهات الكثير من المساجين.
أخذ على شعر المجدّدين إهماله القضايا الإنسانيّة الكبرى، والانغماس في التغريب


في الفترة التي تجاور فيها الرجلان، كانت الأخبار تتواتر عن حشد الألمان جيوشهم (الفيرماخت) في بلغاريا (1941- 1942). ومع ازدياد السجناء المؤيّدين للجيش الألماني (بدون سبب موجب) ضد الاتحاد السوفياتي (الجيش الأحمر)، وتقدّم الأول، كان حكمت يسخط بصمت، ثمّ يردّد على مسمع كمال أنّه «إذا انتصر هؤلاء الرجعيون (الألمان)، فسوف تعود الإنسانيّة وما اكتسبته حتّى اليوم من تقدّم، ألف سنة إلى الوراء! (...) لكن الألمان سيهزمون... لأنّ هذه حتميّة تاريخيّة (...)».
افتتن كمال بشخصيّة الرجل ذي القبقاب، الرومانسي، مدخّن الغليون؛ فقلّما يعثر القارئ في السرد على ما يعيب الشاعر المؤمن بالأمميّة الاشتراكيّة. استطاع المؤلّف نزع القشرة الخارجيّة عن حكمت أو رداء الشهرة، والدخول إلى أعماقه، واستفاض في الحديث عن خصاله، تنظيمه للوقت، وعن إيمانه بأبناء شعبه، وشيوعيته، وحبه لزوجته (السيدة برايا) وكيفيّة تأنقه لاستقبالها، ولو أنّ أحداً لم يعرف لماذا انفصلا عن بعضهما. لكن، بقدر ما يروي الكتاب الوثيقة، يبقى القارئ متعطّشاً للتعرّف إلى المزيد عن حكمت، ناظم الشعر الذي لا يزال يتذوقه القارئ، فيتبيّن طزاجته وحفره في قضايا الإنسان، مهما كانت جنسيته، فتنتهي الصفحات بدون أن تشفي غليله، ما يجعل شبكة الإنترنت ملاذاً لنهل المزيد عن حكمت، وأشعاره المترجمة إلى العربية وحياته المنقضية بين السجون التركية والمنفى (موسكو) وتأخر شعره ليبين للقرّاء الأتراك نتيجة حظره. تصادف العام الجاري الذكرى السابعة والخمسون لوفاة حكمت، وإلى كتاب كمال المترجم إلى العربية، صدرت مذكرات زوجته الروسيّة فيرا تولياكوفا، بعنوان «الحديث الأخير مع حكمت» عن «دار المدى».