بعد كتابَيه الوثائقيَّين «وقائع مسرح أبي خليل القباني في دمشق»، و«من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي خليل القباني إلى أمريكا»، يواصل تيسير خلف رحلته في نبش الأوراق المجهولة التي تتعلّق بمسيرة المسرح العربيّ في بواكيره الأولى، في كتابه «سيرة الأجواق المسرحيّة العربية في القرن التاسع عشر» (منشورات المتوسط)، مميطاً اللثام عن مذكّرات ممثّلَين لعبا دوراً مؤثراً في تأصيل الفرجة المسرحية هما عمر وصفي ومريم سماط وعلاقتهما الوثيقة بمسرح أبي خليل القباني في مرحلته المصريّة، وبقية الأجواق المسرحية التي كانت تتنافس في ما بينها على استقطاب الجمهور والممثلين في آنٍ واحد. تنطوي مذكّرات عمر محمد ميقاتي (عمر وصفي) على تراجيديا كاملة، إذ هجر عمله في المسجد والأوقاف للعمل في المسرح، بانتسابه سرّاً إلى فرقة ميخائيل جرجس، إحدى أشهر الجوق المسرحية في قاهرة القرن التاسع عشر، إلّا أنّ هذا الشغف ستواجهه مصاعب وعقبات لا تُحصى، إذ أرغمه أهله على هجر المسرح للعمل مع عمّه في مستودع للفحم الحجريّ، لكنّ خلافاً بينهما بسبب امتطاء حمار العمّ، أعاده إلى التمثيل مرّة أخرى، لكنّ فشلاً آخر، اضطره لافتتاح دكان لبيع السجائر وصولاً إلى الإفلاس التامّ. كان وصول فرقة أبي خليل القباني من الشام إلى الإسكندرية مركب النجاة لهذا الممثل الهزليّ المنكوب، وإذا به يُلقي عمامته في الماء، ويخلع قفطانه ليرتدي بدلة إفرنجية في انعطافة صريحة ستقوده إلى مغامرات جديدة.

يروي عمر وصفي في مذكّراته المنشورة على حلقات في مجلّة «الصباح» القاهرية (1931)، أحوال الممثّلين حينذاك والمكابدات التي عاشوها لتأصيل فرجة عربية، خصوصاً في ترحالهم بين المدن والقرى بما يشبه المسرح الجوّال اليوم، إذ كانوا ينتقلون بالمراكب العائمة في نهر النيل لعدم توفّر أجرة الركوب في القطار أو استئجار لوكندة. ومن المفارقات التي يرويها أن بعض الريفيّين أتوا التياترو أثناء عرض مسرحية «هارون الرشيد» بعريضة شكوى ضدّ العمدة، على أمل أن ينصفهم هارون الرشيد من استبداد العمدة! ويلفت عمر وصفي إلى أنّ فرقة أبي خليل القباني كانت الأكثر احترافيّة بين الجوق الأخرى باعتمادها على نصوص عربيّة مثل «ولّادة بنت المستكفي»، و«عنتر بن شدّاد»، و«مكائد الغرام»، على عكس ما تقدّمه الجوق المصريّة، بالإضافة إلى وجود مطربة تغنّي بين فصول العرض أو في ختامه. وهنا يحضر اسم الممثلة اللبنانية مريم سماط كورقة رابحة في الفرقة، كما يشير إلى أنّ منع التمثيل في ولاية سورية العثمانية، أرغم القباني على الهجرة إلى مصر، وتطوير أنماط الفرجة نصّاً وراء آخر. من ضفّة أخرى، تكمن قيمة هذه المذكرات في توثيق أحوال المجتمع، وقيمه المتبدّلة، وإذا بمعظم المغنّين والمشخصاتية ينتقلون من جامع الأزهر إلى خشبة المسرح، وأبرز هؤلاء الشيخ سلامة حجازي، بردم المسافة بين فنون الأداء. وسنتعرّف في رحلته الدمشقية بصحبة أبي خليل القباني إلى طرائف التقاليد الدمشقيّة في المأكل وطريق الاستقبال والشغف بالطرب. ويذكر عمر وصفي أنّ هذه الرحلة كانت بقصد التعاقد مع مطربة جديدة للفرقة هي ملك سرور. بتوقّف المركب في ميناء بيروت، كان على المسافرين القادمين من الاسكندرية الخضوع للحجر الصحيّ بسبب «الكورنتينه» أو انتشار الطاعون في الوجه القبليّ لمصر، فاضطر أعضاء الفرقة إلى الخضوع للأوامر مدة عشرة أيام قبل التوجّه إلى دمشق. لا تتوقّف مذكرات عمر وصفي على سيرته الذاتية، إنّما ترسم خرائط الجوق المسرحية التي أسّست لفن التمثيل الاحترافي في مصر مثل اسكندر فرح، وجورج أبيض، وآخرين.
عمر محمد ميقاتي هجر عمله في المسجد للعمل في المسرح


ولكن من هي مريم سماط (1889- 1914)؟ هناك إشارة أولى إلى اسمها في صحيفة المقطّم المصرية بوصفها الممثلة الأساسية في فرقة أبي خليل القباني، وقد فرّت من بيروت إلى القاهرة، وسيورد اسمها لاحقاً في فرقة سلامة حجازي بوصفها «زهرة دار التمثيل»، وستكتب صحيفة «الوطن» القاهرية عن براعتها في التمثيل وحجم التصفيق المتواتر لما ظهر عليها من التأثّر الذي «اتصلت شرارة كهربائه إلى نفوس المتفرّجين جميعاً». وسوف تجمع فرقة جورج أبيض العائد من باريس للتوّ أبرز ممثلي تلك الفترة، وكان بينهم اسم مريم سماط «أقدر ممثّلات الشرق»، و«فلترقص مراسح جورج أبيض طرباً، ولتهنأ بنت سماط بنبوغها». في مذكّراتها المنشورة في جريدة «الأهرام» (1915)، تروي مريم سماط وقائع من رحلتها مع التمثيل، وأثر أبي خليل القباني في بلورة موهبتها، مروراً بأصحاب الفرق الأخرى، والمشاحنات التي كانت تحصل بين الممثلات بسبب الغيرة، ما جعلها تبتعد عن هذه الفرقة إلى تلك «إن لم يكن وفاق ففراق». هكذا تتقاطع مذكّرات عمر وصفي ومريم سماط على أهمية أبي خليل القباني في ترسيخ التقاليد الاحترافية في المسرح العربي بابتكاره توليفة فنية استعراضية، وبأنّ المسرح في العقد الأخير من القرن التاسع عشر كان ظاهرة فنية تتمتع بشعبية واسعة. يقول تيسير خلف في تقديم كتابه «لقد بذلت جهداً مضاعفاً في تحقيق هذه المذكرات فلم أكتفِ بالتحقيق العادي للنص، بل لجأت إلى الطريق الأصعب وهو المواكبة التاريخية للنص، أي إثبات المعلومة أو نفيها بالوثيقة الحية. ولذلك فهذه المذكّرات تندرج في سياق التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام ومصر خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر»، كما يشير إلى جهود سيد علي إسماعيل من القاهرة، ومحمود الزيباوي من بيروت، ومكتبة جمعة الماجد في دبي بتزويده بوثائق نادرة عن هذه الحقبة من أحوال المسرح العربي.