كنتُ في المستشفى وقد أزَفَت ساعة المخاض، أسكّن آلامي بالتفكير في حلمي الذي شارف على التحقّق. حلم لقاء ابنتيَّ التوأم اللتين انتظرتهما ١٧ عاماً.. كان صدى صرخاتي يتردّد في أرجاء المستشفى، وبين الصرخة والأخرى أهمس في أذن زوجي ــ غير مصدّقة ــ أنَّ الفرج سيأتي، وأنَّ حياتنا ستتزيّن أخيراً بِـ«أروى ومروى»!كان قدوم أروى ومروى حدثاً استثنائياً في بيت انتظر الأطفال زمناً طويلاً. أضفى هذا الوجود لمسة سحريّة على حياتنا، قبل أن يأتي اليوم الذي انقلبت فيه الأحداث رأساً على عقب!
من أين للطبيب أن يعرف كم لبثنا في انتظار هاتين الفتاتين، كي يتحرّى أسلوباً لطيفاً يخبرنا فيه عن إصابة أروى بالسرطان؟ هكذا قالها دون أن يتكبّد عناء البحث عن مفردات ملطفة من قبيل «المرض الخبيث» أو «ذاك المرض»! وحين انتبه متأخراً إلى صدمتنا، حاول طمأنتنا بالقول إنَّ المرض لا يزال في بدايته، فلم يتغيّر الأمر كثيراً. كان اسم المرض ينحت كإزميل مجتهد في عقولنا وقلوبنا.
كانت أروى قد بلغت السادسة عشر حين بدأت رحلة العلاج، أحطنا بها بحنان راسمين على وجوهنا ابتسامات كاذبة تخفي حزننا المبكر. وإن كان الأمل يتّقد ويخبو في نفوسنا تبعاً لتحسن حالتها أو تراجعها، إلا أن اسم المرض كان يخفف دوماً من نور شعلة الأمل.
وكأنَّ القدر قرَّر أن يرمي مصائبه في وجوهنا دفعة واحدة. ففي حادثة زرعت الهلع في قلوب الجميع، وجدنا مروى مغمى عليها في غرفتها. كان آخر ما نودّ سماعه هو انتكاسة صحيّة لابنتنا الثانية!
أفاقت مروى بعد برهة، ولكن الحالة تكررت كثيراً، وصارت الفتاة تميل إلى الكآبة، وتشكو من ضيق في صدرها، ولا تنفكّ تردّد أمامنا أنّها تشعر باقتراب الموت! كانت سعادتنا كبيرة إذ تأكدنا من خلوّ جسدها من المرض الخبيث، ولكن نتيجة التحاليل السلبيّة حيرتنا، فحالة الفتاة تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وجسدها بحسب التحاليل والصور بريء من كلّ علة!
أصبحت الحياة لا تطاق. تغيّرتُ كثيراً حتى شعرتُ أنني قد كبرت مئة عام.. أهذه هي ضريبة انتظاري ١٧ عاماً كي أنجب أطفالاً يا رب؟
لكن الله كان معنا، فهذه أروى قد بدأت بالانتصار على المرض الخبيث بفضل إصرارها وصلابتها واحتضاننا لها، ومتابعتها العلاج على يد أمهر الأطباء. بات لدينا الآن ما يكفي من الوقت كي نجد حلاً لمشكلة مروى العصيّة على الفهم.
قلتُ لزوجي يوماً: سأذهب إلى «الشيخ»، لقد سحروا ابنتنا يا عدنان. لا بدّ أنَّ أحداً يضمر لنا السوء ويريد أن يعاقبنا بفلذات أكبادنا. لم يجد زوجي ما يقوله فاكتفى بهزّ رأسه كأنّه يسلّم زمام الأمور لي معلناً عجزه.
في الواقع، لم يكن «الشيخ» شيخاً، كان «كاتبَ حجابات» و«ضارب مندل» و«جامع أرواح»، وحين ذهبتُ إليه، لم يحتج إلى وقت طويل قبل أن يخبرني أنّها مسحورة ويعطيني حجاباً أكد لي أنّه سيحميها وستتعافى بفضله بعد مدّة وجيزة. مضت مدّة طويلة، ولم تتغيّر حال مروى!
قريبٌ لزوجي يدرس في الخارج، نصحنا حين عاد لقضاء إجازته الصيفية بزيارة استشاريّ نفسي، مؤكداً أن مرض الفتاة نفسيّ حتماً ما دام جسدها سليماً. لم أقتنع بكلامه كثيراً ولكن ضمير زوجي لم يكن ليحتمل ترك باب واحد دون طرقه، بعدما جرّبنا كلّ شيء دون جدوى.
لم يكن تشخيص الطبيب النفسي لحالة مروى سهلاً.. استغرق الأمر عدّة جلسات، وبعض التحاليل والاختبارات، والكثير من البوح أيضاً.. ليخلص أخيراً إلى أنَّ مرض مروى هو «اضطراب الوسواس القهري المزمن»!
وسواس قهري! صرختُ بالطبيب دون أن أعي، كما لو كنتُ أنهره..
هدَّأ الطبيب من روعي، واندفع شارحاً لي أسباب المرض وعوارضه، قائلاً إنَّ الأمراض النفسيّة في بعض الأحيان قد تكون أخطر من تلك العضويّة، إن لم يتم تداركها في الوقت المناسب.
لم أتقبّل كلام الطبيب. كان تشخيصه صفعةً لي: ــ أتعتقد أنَّ ابنتي مجنونة؟ ما هذا الهراء؟ أنتم تتلاعبون بعقول الناس! ليس لدى ابنتي مشكلة في عقلها وهي ليست مريضة نفسيّة، وسأعلم سبب مرضها قريباً. وفّر تحليلاتك واستنتاجاتك..
بقيت هذه الكلمات في جوفي ولم أنطق بحرف واحد منها.
شكرتُ الطبيب على مضض وهممتُ بالمغادرة، وكان آخر ما تناهى إلى مسامعي كلامه وقد وقر في ذهنه أننا لن نعود إليه ثانية: ــ ولكن.. ضروري جداً أن تخضع الفتاة للعلاج النفسي.. والدوائي.
تقلّص منسوب قلقنا على مروى بعد تلك الزيارة. صرنا نحمّلها وزر تعبها، ونرمي في وجهها تلك الجمل التافهة التي يحفظها الجميع: ــ أنتِ دواءُ نفسِك يا مروى، ــ كوني قويّة، ــ لا تستسلمي لليأس..
وكنا نعطي كلّ اهتمامنا لأروى التي أصبحت قريبة جداً من الشفاء بحسب تقرير الطبيب المعالج.
وفي يوم خميس بشَّرَنا الطبيب أنَّ أروى شُفيَت تماماً وبات بإمكانها العودة إلى البيت وممارسة حياتها الطبيعيّة، مع إجراء فحوصات طبيّة للاطمئنان كلّ ثلاثة أشهر.. عدنا إلى البيت ونحن نتحدّث في شأن الحفل الذي ننوي إقامته احتفاءً بالمناسبة. ولكن الفرحة لم تتم! فما أن وصلنا حتى وجدنا مروى مرميّة على الأرض بلا حراك!
كنتُ في المقبرة مع أروى أضع باقةً من الزهور على قبر مروى، والدمع يهطل كالشلال على وجهي، وصرخة مكبوتة في أعماقي تجهد للخروج، حين اقتربت مني عجوز سبعينية لتضع يدها على كتفي مؤاسية: ــ العمر إلك يا بنتي.. مبيّن من دموعك إنها دموع فقد الضنى! طأطأتُ رأسي متمتمةً: ــ بنتي! ــ الله يرحمها ويصبّرك.
وكالصدى الطالع من مكان سحيق وصلتني بقيّة العبارة، أو لعلي تخيّلتها تسأل: كيف ماتت؟ ــ بِسَرَطانِ الوسواس القهريّ!

* فريتاون/ لبنان