تتّجه سرديات الألفية الثالثة تدريجاً إلى أرشفة أوجاع الهجرة والمنفى. مكابدات الهروب من جحيم الحروب والكوارث بأمل النجاة وتنفّس هواء آخر. بلاد محكومة بالاستبداد، وبشر عالقون بين كابوس الوطن الأصلي وحلم عبور الحدود نحو الفردوس الأوروبي. قوارب مطاطية وغرقى بلا أسماء. ناجون يروون حكاياتهم المرعبة، وموتى منسيون.من جهته يلجأ الروائي التشيكي مارك شيندلكا (1984) في «تعب المعادن» (دار نينوى ــــــ ترجمة يارا عمران) إلى تحديقة أخرى في تلخيص معنى الشمال كجغرافيا معدنية في المقام الأول. يقطع مراهق لا يحمل اسماً مركز الحدود داخل محرّك سيارة بفجوة مفتوحة في أحشاء المحرّك بالكاد تختزن أعضاءه على أمل الالتحاق بشقيقه المهاجر. وإذا بأوروبا مجرد كتل معدنية على هيئة أسوار وجسور وأسلاك وسكك حديد، وحواجز كونكريت وجدران صفيح. جغرافيا عدائية تحوّله إلى رقم بلا اسم في مركز الاحتجاز. وفي المقابل، يواجه الجسد أقسى أهوال الطبيعة. أجساد على حافة الموت بأرواح منهوبة تستيقظ غرائزها لحظة الخطر الذي يحدق بها بين خطوةٍ وأخرى. يعتني هذا الروائي الشاب في تصوير حركة كل عضلة وارتعاشة كل عضو، وانتفاضة كل عصب في الجسد المهاجر، مستعيداً هويته الشخصية كلاجئ سابق من جحيم الشيوعية إلى أوروبا، ومديناً المواقف الأوروبية حيال اللاجئين وكيفية التعامل معهم كقوة عمل مادية لا أكثر.


جسد المهاجر هنا قطعة معدنية في آلة ضخمة من دون أيّ تعاطف إنساني. هكذا يفحص أحوال الجسد كمادة فيزيائية وحسب. الجسد الذي يتذكّر «خطت امرأة ما بقلم عريض رقماً على يده. كان الحرّاس ينادونه بذلك الرقم. لم يستطع أحد أن يلفظ اسمه هنا، جرّدوه منه تماماً. انتهى به المطاف في مكان يُدعى وحدة الحجز». على منوال العبث بحركة الجسد، يبتكر مارك شيندلكا سرداً موازياً، تبعاً لحركة الأعضاء في استعادة الألم «قضبان حديدية تحاكي تماماً شكل مقعد السيارة. قبضت الذراعان على الشاب، وبدأتا تحشرانه في القفص. نُفّذَ كل شيء بهدوء، كأنها مسرحية صامتة. كان يسمع صوت تنهد، وأحياناً صرير حديد، وخشخشة قماش».
لا زمن خطياً هنا في تسجيل وقائع الرحلة، إنما ارتدادات مشوشة نحو الأمكنة الأولى المهدّمة، والجذور البعيدة، والتأتأة اللغوية، واستجابات الجسد المعذّب لأحوال الخوف، وهو يجد نفسه داخل كبسولة معدنية لا تنجده في الصراخ. رحلة التفتيش عن عنوان الشقيق في إحدى مدن الشمال تزداد صعوبة، فالهواتف ممنوعة في مركز الحجز، ولا إنترنت للتواصل. جسد مرتبك بأعضائه بالتناوب مع حركة مكابس الأسطوانات ورائحة النفط المحروق وهي تعبق في أنفه. سيسلّي عزلته القاسية بقرب تنفيذ خطّة أخرى وهي امتطاء قارب إلى مكانٍ آخر، لكنه لن يرى الشمس أو أسراب الطيور أو رائحة الهواء، إذ سيبقى طوال الرحلة في جوف القارب يصارع وضعية جسده في الأقفاص المتبدلة بين اليابسة والماء والجليد. سوف يهرب من المستشفى التي أُسعف إليها، واستقل قطاراً إلى لامكان، ثم أضاف اسمه إلى صفحة الصليب الأحمر للمفقودين عسى أن يجتمع بأخيه. في القطار، سينصت إلى حكاية الفلسطيني الهارب من مخيّم اليرموك في دمشق، أثناء استجوابه من شرطي. لم يستوعب المحقّق كيف يهرّب فلسطيني إلى سوريا المشتعلة بحرب مدمّرة، حتى بعدما شرح له بأنه وُلد في المخيّم «إذاً هو ليس مخيّماً وإنما ضاحية. أنت من سوريا غير أنك لست سورياً. هل فهمتك جيداً؟» قال الشرطي. تتواتر الحكايات المتجاورة لتكشف عن جغرافيات منكوبة، وأجساد معذّبة، وهلوسات هاربين من جحيم إلى جحيمٍ آخر: «ازدحم بضع مئات في الردهة أمام خريطة أوروبا. أخذت المدن تختفي تدريجاً. اختفت باريس، ثم اختفت برلين واستوكهولم. اختفت دول كاملة، اضمحلت أوروبا تدريجاً من آلاف الأصابع التي لامستها: أصابع ملطخة بالفازلين، مغمّسة برائحة معدنية علقت بها من أجواف القوارب، أظافر تحمل أوساخاً من قارةٍ أخرى».
في تشرّده بين الغابات والأكواخ المهجورة، سيقع في ورطة جديدة، أو بدقّة أكبر، كيف تورّط جسده الهش بصلابة المعدن، هارباً من مطاردة مجهولين له في صراع غير متكافئ: «أحسَّ الفتى كيف تشنجت عضلة ساقه مباشرة تحت الأصابع التي قبضت كمخلب على العضلة المنهكة». كأن مارك شيندلكا يروي ذاكرة الأعضاء بتنقلات مدروسة تنطوي على احتجاج أكثر منها سيرة لاجئين. الاحتجاج على العنصرية الأوروبية ونظرة الازدراء للآخر من نوع «عد إلى بلادك/ لا مكان لك في أوروبا/ لا للإسلام». سيروي الفلسطيني حكايته للفتى، وكيف اضطر إلى بيع كليته كي يدفع للمهرّب ما يكفي لرحلة اللجوء، وما تبقى من المبلغ سيصرفه ثمناً للأدوية، وسيكمل الفتى طريقه وحيداً بشاحنة لنقل الأغذية المجمّدة، قبل نقله إلى المستشفى: «نفد الهواء في الشاحنة بعد عشرين دقيقة. ضربوا الجدران المصمتة بجنون يائس، ثم تهاووا واحداً بعد الآخر على الأرض» (سنتذكّر هنا ما رواه غسان كنفاني عن اللاجئين الفلسطينيين الذين اختنقوا في خزّان ما تحت شمس الصحراء). شمس الجنوب يطفئها جليد الشمال، هذا ما يخلص إليه مارك شيندلكا برهافة غنائية تنتصر على صلابة المعدن، في كل حركة وردة فعل لا إرادية، وكل وميض من الألم يجتاح الأجساد المنهكة، معتبراً أن قضية اللجوء هي أحد أهم وشوم القرن الحادي والعشرين، مراقباً أحوال الجسد المهاجر كلغة بديلة، فنحن نتكلم بأجسادنا بعدما نهبت همجية السلطة أرواحنا جنوباً وشمالاً.
تتواتر الحكايات المتجاورة لتكشف عن جغرافيات منكوبة

يقول مارك شيندلكا في حوارٍ معه حول اهتماماته السردية بما يسمى «البدنية»: «نعيش صدمات تاريخية، وقصصاً كتبتها الحياة. مصائر مضطربة على خلفية الأهوال التاريخية. تتذكّر اليوم الحرب العالمية الثانية، بطريقة أو بأخرى. أشعر بأن كل هذه القصص المفجعة تسهم في كسوف كلّي للتاريخ والقتل الرومنسي على يد مصاصة دماء تدعى أوروبا». ويضيف: «يتم تنظيف كل شيء من حولنا بشكل فائق ومبطن وآمن. نشعر أننا يجب أن نكون هنا إلى الأبد. الشيخوخة ببطء مفهوم مبتذل، ربما لم يعد الموت موجوداً، على الأقل وفقاً لاستراتيجيي التسويق. نحن نعمل في منتصف الطريق على الشبكة، حيث نعلق صورة واحدة من أصل مليون على الملف الشخصي في الزاوية الممكنة التي نقوم بضبطها أمام المرآة لفترة طويلة، ثم نمررها عبر أكثر من خمسين مرشحاً قبل أن نكون راضين أخيراً عن صورتنا مما نحن عليه في النهاية. ولكن بعد ذلك هناك الواقع، وهو في النهاية الجسد الذي سُرقت منه صورنا الذاتية المصقولة».