يقول أبو العلاء في بيتين معروفين له:وَالحتف أيسر والأَرواح ناظرة
طلاقَها من حليلٍ طالَما فُرِكا
وَالشخص مثل نجيب رام عنبرة
من المنون فلمّا سافها بَرَكا
البيت الأول يتحدّث عن الموت باعتباره طلاقاً، فض زواج، بين الروح والجسد. فالأرواح تنتظر خلاصها من سجن الجسد، كما تنتظر امرأة طلاقاً من قرينها الذي طالما خانها وتركها، أو طالما أنها هي من فركه.
أما البيت الثاني، ففيه أن الشخص، أي الجسد أو الإنسان ككل، يشبه جملاً نجيباً يبحث عن عنبرة المنون، وحين يشمّ هذه العنبرة تنتهي رحلته ويبرك عندها. فقد وصل إلى مراده وغايته. والبروك هنا هو الموت في الحقيقة.


ولا يمكن فهم استعارة أبي العلاء عن العنبر ما لم نفهم قصة العنبر واصطياده أو جنيه. والعنبر مادة صمغية صلبة تتصنّع في أمعاء حوت محدّد يُدعى «حوت العنبر»، وهو يقذفها كما يقذف القيء، في كتل ضخمة، فيستخرجها الناس من البحر. وهو يكون على عدة ألوان، وكان أفضلها ما جاء من الشحر في عمان وسواحل الصومال في ما يبدو. وكان لهذه المادة اعتبار كبير جداً في الماضي. إذ كانت مادة طبية رئيسية، كما أنها كانت أساساً قاعدياً لصناعة العطور. لكن حكايات كثيرة خرافية أسطورية كانت تروى عن هذا العنبر وأصله. وخذ مثلاً على ذلك ما جاء عند النويري:
«قال محمد بن أحمد التميمي: حدثني أبي عن أبيه عن أحمد بن أبي يعقوب أنه قال: العنبر أنواع كثيرة، وأصناف مختلفة، ومعادنه متباينة، وهو يتفاضل بمعادنه وبجوهره، فأجواد أنواعه وأرفعه وأفضله وأحسنه لوناً وأصفاه جوهراً وأعلاه قيمة، العنبر الشحري، وهو ما قذفه بحر الهند إلى ساحل الشحر من أرض اليمن. وزعموا أنه يخرج من البحر في خِلقة البعير أو الصخرة الكبيرة. قال التميمي: والأصل الصحيح فيه أنه ينبع من صخور في قرار الأرض ومن عيون، ويجتمع في قرار البحر، فإذا تكاثّ وثقل، جذبته طبيعة الدهانة التي فيه، واضطرته إلى الانقطاع من المواضع التي يتعلق بها عند خروجه من الأرض، وطلعت إلى وجه الماء، فطفا على وجه الماء وهو جار ذائب. ومنه ما تقطعه الأمواج فتخرجه إلى السواحل قطعاً كباراً وصغاراً. قال: وحدثني أبي عن أبيه عن أحمد بن أبي يعقوب قال: تقطعه الريح وشدة الموج فترمي به إلى السواحل وهو بفوره لا يدنو منه شيء لشدة حره وفورانه فإذا أقام أياماً وضربه الهواء جمد، فيجمعه الناس من السواحل المتصلة بمعادنه، قال: وربما أتت السمكة العظيمة التي يقال لها: اليال [حوت العنبر] فابتلعت من ذلك العنبر الصافي وهو يفور، فلا يستقر في جوفها حتى تموت وتطفو، ويطرحها البحر إلى الساحل، فيشق جوفها، ويستخرج ما فيه من العنبر، وهو العنبر السمكي ويسمى أيضا: المبلوع. قال: وربما طرح البحر قطعة العنبر فيبصرها طير أسود شبيه بالخطاف، فيأتي إليها ويرفرف بجناحيه، فإذا دنا منها وسقط عليها تعلّقت مخاليبه ومنقاره فيها فيموت ويبلى، ويبقى منقاره ومخاليبه في العنبر، وهو العنبر المناقيري» (النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب).
يضيف الدميري: «قال الشافعي: سمعت من قال: رأيت العنبر نابتاً في البحر، ملتوياً مثل عنق الشاة. وقيل: إن أصله نبت في البحر وله رائحة ذكية. وفي البحر دويبة تقصده لذكاء رائحته، وهو سمّها، فتأكله فيقتلها ويلفظها البحر، فيخرج العنبر من بطنها» (الدميري، حياة الحيوان الكبرى).


وهكذا، فقد بدا لبعض القدماء أن العنبر ليس مادة من جوف الحوت، بل مادة لا علاقة لها به، يأكلها فيموت.
أما ما قاله السيرافي عن العنبر فهو الذي له علاقة ببيت أبي العلاء: «زعم الحسين بن يزيد السيرافي أن الذي يقع من العنبر إلى سواحل الشحر شيء تقذفه الأمواج إليها من بحر الهند، وأن أجوده وأفضله ما يقع إلى بحر البربر وحدود بلاد الزنج وما والاها، وهو الأبيض المدور، والأزرق النادر. قال: ولأهل هذه النواحي نجبٌ يركبونها مؤدبة [مدربة؟] يركبون عليها في ليالي القمر على سواحلهم، وهذه النجب تعرف العنبر، وربما نام الراكب عليها أو غفل، فإذا رأى النجيب العنبر على الساحل برك بصاحبه، فينزل ويأخذه» (النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب).
هدف رحلة الإنسان هو العثور على الموت مثلما أن رحلة الجمال هي العثور على العنبر العطري


وما نقله النويري عن السيرافي فيه بعض التصحيف. فنص السيرافي يقول: «فأما العنبر وما يقع منه إلى سواحل هذا البحر، فهو شيء تقذفه الأمواج، ومبدؤه من بحر الهند. على أنه لا يُعرف مخرجه. غير أن أجود ما وقع إلى بربرا [مدينة بربرة في الصومال] وحدود بلا الزنج والشحر [منطقة في عمان] وما والاها وهو الأبيض المدور الأزرق. ولأهل هذه النواحي نجب [جمال] يركبونها في ليالي القمر ويسيرون بها على سواحلهم قد ريضت [دُرّبت]، وعرفت طلب العنبر على الساحل. فإذا رآه النجيب برك بصاحبه فأخذه» (رحلات أبي زيد السيرافي).
وهكذا، ففي المناطق المذكورة أعلاه تستخدم الجمال لجني العنبر. وهي من طول مراسها معه صارت تشمه وتتعرف عليه، وتبرك قربه حين تصل إليه. بالتالي، فقد بدا كما لو أن رحلتها تنتهي به.
وقد استخدم أبو العلاء هذه الحقيقة كاستعارة. فشبه الإنسان، أو جسده، بنجيب من هذه النجب يظل سائراً حتى يشم العنبر، فيبرك بجانبه. لكنه ليس العنبر العادي، بل عنبر الموت. عليه، فهدف رحلة الإنسان هو العثور على هذا الموت مثلما أن رحلة الجمال هي العثور على العنبر العطري. الموت هو العنبر. هو الغاية. هو الهدف، وهو المطلب.
هذا ما قصده أبو العلاء. وهو بهذا أعطانا استعارة مدهشة ومخيفة حقاً. وهذه هي طريقة أبي. فهو يضرب بالحجر جباهنا.
على أي حال، فإن العنبر كان، وما زال، سبباً في تنكيل البشر بحيتان العنبر، فهي تقتل من أجل الحصول على قيئها، أي عنبرها.

* شاعر فلسطيني