يكاد اسم غالب هلسا (1932ـــــ 1989) أن يكون مجهولاً بالنسبة إلى معظم القرّاء الجدد، لالتباس هويته أولاً، فهل هو أردني أم مصري، أم عراقي أم فلسطيني؟ ولانخراطه بمشاريع ثقافية ونضالية ثانياً، وعدم استقراره في مكانٍ ثابت ثالثاً. لهذه الأسباب مجتمعة، بقي في الظلّ، بالمقارنة مع مجايليه من روائيي الستينيات، نظراً إلى إشكالية حياته الشخصية، وتعدّد مناخاتها البيئية. ذلك أنّ صاحب «السؤال»، و«الضحك»، و«الروائيون» كان أسير خرائط مختلفة، تبعاً للمدن التي عبرها مرغماً بوصفه منفياً ومطارداً، فأتت رواياته ترجيعاً لمشاغله الفكرية، وتطلعاته اليسارية، وربما سيرةً موازية للانتهاكات التي عاشها، من عمّان إلى بيروت، وبغداد، والقاهرة، وصولاً إلى دمشق التي انطفأ فيها، عائداً إلى مسقط الرأس (مأدبا ــــ الأردن) ليُدفن هناك.
تالا مدني «بحثاً عن الضوء» (زيت على كتان ــــ 40.6 × 36.2 سنتم ــ 2013)

داخل هذا القوس المفتوح إلى أقصاه، خبر صاحب «البكاء على الأطلال» معنى أن تكون شيوعياً مطلوباً، ويسارياً صلباً، فانضم إلى صفوف المقاومة الفلسطينية في بيروت إلى أن اضطر إلى مغادرتها إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982) مع المقاتلين الفلسطينيين على ظهر باخرة إلى عدن، لينتهي به المطاف بعد ترحال قسري في دمشق. اليوم، تتيح «دار أزمنة» في عمّان، طبعة جديدة من الأعمال الروائية الكاملة لهذا السارد المتفرّد في ثلاثة مجلدات. نحن إذاً، إزاء فرصة ثمينة لإعادة اكتشاف نكهة مفارقة في الرواية العربية، محمولة على تجربة حياتية ثرية بالإحالات المعرفية، وفضاءات تخييلية تعوّل على مغامرة الفرد في مواجهة مأزقه الوجودي، وتأثيث عزلته بمواد خام من حياته الشخصية بخلائط من أحلام اليقظة، وذلك من موقع الضدّ والمجابهة لخندق الخذلان: «كان اكتشاف الذات بالنسبة لي نوعاً من الفضيحة، إنني أخجل من التعبير عن نفسي بوضوح» يقول. لكنه، من مقلبٍ آخر، ما انفكّ يوسّع جهات الفضيحة، غير عابئ بالمرويات المستقرّة، كما سيعيد تشكيل الأمكنة والبيئات وفقاً لوقائع وتجارب ومغامرات عاشها عن كثب، سواء في المنفى أو المعتقل، أو المكان الأول، بعيداً عن صورتها العمومية. وهو بذلك يؤلف أرشيفاً ذاتياً للأفول والانكسارات والهزائم، والرغبات، على خلفية حارة من «جماليات المكان» في اشتباك محتدم مع نداءات الجسد، واللاطمأنينة، وحفريات التاريخ المراوغ. هكذا تهتزّ صورة المدينة من فضاءٍ سرديٍ إلى آخر، معتبراً إياها «كياناً مهدّداً باعثاً على الرعب وعدم الاستقرار وافتقاد الطمأنينة، أياً كانت هذه المدينة: القاهرة، أو عمان أو بغداد. وهذا ما يفسّر وفرة الأحلام وأحلام اليقظة التي تعيد الراوي، في معظم أعمال غالب هلسا، إلى مسقط الرأس، وفردوس الأمومة المفقود»، وفقاً لما يقوله فخري صالح. شخصيات متوتّرة وهامشية ومأزومة، لا تجد ملاذاً آمناً، يحميها من سطوة القمع والكوابيس المتلاحقة، فتنتصر لأحلامها للإفلات من فانتازيا اللامعقول التي أطبقت على أنفاسها بإحكام.

أعماله الروائية

الضحك (1971)
الخماسين (1975)
السؤال (1976)
ثلاثة وجوه لبغداد (1981)
سلطانة (1987)
الروائيون (1988)


حياة وانطفاء غالب هلسا، تراجيديا كاملة، سوف تتسرّب على دفعات، تبعاً لفداحة الخسارة واحتضار المشهد واندحار الحلم، فهذا الروائي المطارد من عاصمة عربية إلى أخرى، دوّن وقائع حياته بلغة عارية لا تنقصها الاعترافات، كأن لا مسافة فاصلة بين الراوي والروائي في توصيف وتفسير وتفكيك أسباب اغترابه وإخفاقاته وأحلامه الموءودة. فالكتابة هنا مكان إقامة ومنصّة للعب التخييلي تأتي كتعويض عن فقدان المكان الأصلي بما يشبه التوثيق السيروي. ربما لهذا السبب تتوارى عمّان التي غادرها باكراً لمصلحة القاهرة أو بغداد، عدا ما يخصّ فضاء الطفولة والحنين إلى شاعرية الريف والتشكّلات الأولى للمدينة. وسوف تحضر الأم كجدار استنادي متين يحمي الطفل من الضياع والتيه، فيما تغيب صورة الأب (!) مُعزِّزاً الفضاء الأمومي للسرد بتفريعات جانبية تنهض على تمجيد الجسد وتأجج الحواس، كما في «الروائيون» مثلاً، فالشيوعي المخذول، سيجد في الجنس تعويضاً عن صقيع الأفكار وفداحة الهزيمة وانهيار المثال. عدا «سلطانة» التي يستعيد فيها عمّان كفضاء ولهجة وسيرة أولى، ستهيمن قاهرة الستينيات والسبعينيات على مناخاته الروائية بوصفها الحقبة المتوهّجة في حياته رغم الندوب والطعنات التي أصابته، إذ انتهى مطروداً من «فردوسها» لمواقفه السياسية المضادة لعهد السادات. في «ثلاثة وجوه لبغداد»، سيشتغل على جغرافيا أخرى، مفكّكاً العمارة البغدادية وطبقات العنف والتبدلات التي أحدثها حزب البعث في البلاد لجهة الانتهاك والاستبداد و«البداوة التي ترطن بالماركسية» قبل انقضاضها على الرفاق.
هذه المرّة، سيتماهى الروائي مع الراوي باستخدام اسمه مباشرة، وتالياً، فإن «غالب» يروي مشاهداته ووجهة نظره الشخصية في كيفية تمزّق النسيج المعماري والطبقي في بغداد ما بعد الاستقلال، وانزلاق المثقف نحو موائد السلطة وورطته المعلنة في لعبة الغواية المتبادلة فوق خشبة مسرح اللامعقول. هكذا، تتداخل الأزمنة ذهاباً وإياباً لتسجيل درجات الهاوية، وأحوال الاحتقان، وقوة البطش. سوف تخبو صورة بغداد كمرآة معتمة تعكس انطفاء الحلم الشيوعي الذي ما انفكّ يطارده من روايةٍ إلى أخرى. ورغم الصفعات التي تلقّاها في القاهرة، إلّا أن هذه المدينة ستبقى مسرحاً مفتوحاً للسجال والرغبة وأحلام اليقظة، ووعاءً للتخييل الذي لا ينضب. أن تكتب الهزيمة بجرعات عالية، بتوتّر، بهوس، بشبق.

أتت رواياته ترجيعاً لمشاغله الفكرية، وتطلعاته اليسارية، وربما سيرةً موازية للانتهاكات التي عاشها

لا مياه راكدة في تضاريس روايات صاحب «الضحك»، ذلك أن الخرائط التي يرسمها هنا تقف على براكين وزلازل، تمنح الكتابة مادةً كثيفة ومثيرة، ومتعة مازوشية في تعرية الذات المنكسرة وهي تكتب نفسها بلا مناورة أو شعور بالإثم. كتابة تعمل على تدوين اليومي في الحوار المكتوب بلهجة مصرية غالباً، وعلى سرد تخييلي يمتح من ثقافة عميقة بخلائط تراثية وميثولوجية ونفسية، في صراع محتدم بين ماركس وفرويد فوق منصّة واحدة، ناعياً البراءة في مدن مرتهنة للجشع والقمع والزيف، هو الذي عاش ما بين الإقامة الجبرية والاعتقال وتيه المنافي وأوهام الأحزاب الثورية والكوابيس. «كانت الكتابة عاريَ السرّي. لم يعلّمني أحد الكتابة، ولم يشجعني أحد على المضي فيها. كنت أقرأ لأكوّن أفكاراً خاطئة لم يُعنَ أحد بتصحيحها... وحين قرأت كافكا، انفجرت عوالم الحلم في داخلي» يقول.
هناك إذاً، كافكا من نوعٍ ما، يستبدل الكوابيس بأحلام اليقظة بقصد إزاحة طبقات العفن عن الأسطح، وتربية مشتل آخر لأسباب العيش وتنفّس هواء آخر يعينه على النجاة، لكنه في لحظةٍ مباغتة يخلخل الأزمنة المهزومة كمن يتأرجح بين القلق والطمأنينة. سيفكّر بطل «السؤال» بالانتحار، من دون أن يفعل، فيما سينتحر بطل «الروائيون» فعلاً، كمن يغلق القوس على اللاأمل. الآن، حين نستردّ سيرة غالب هلسا ومأزقه الوجودي، ومطبخ الكتابة لديه، سنلحظ بأنه استثمر فضاءات المدن التي عبرها بالكتابة عنها، وتشريح طبقاتها، سواء القاهرة أم عمّان أم بغداد، لكنه لم يكتب عن دمشق التي عاش فيها سبع سنوات متواصلة وتوفي فيها، يوم ولادته (18 كانون الأول/ ديسمبر) تماماً.

ستهيمن قاهرة الستينيات والسبعينيات على مناخاته الروائية بوصفها الحقبة المتوهجة في حياته

سيكتب في دمشق روايته الأخيرة «الروائيون»، مستعيداً مناخات القاهرة، مثلما استعاد بغداد في بيروت إثر ضياع مسوّدة الرواية، كأن دمشق مكان زئبقي يصعب تدوينه بالنسبة إلى الغريب، فهي بالمقارنة مع القاهرة مجرّد شارع طويل ومستقيم يمتد من حي المهاجرين إلى حي الميدان، وفقاً لما يقوله فيصل درّاج. كما أن هذه المدينة مغلقة على أهلها، طبقاً لعمارتها القديمة المفتوحة على الداخل لا الخارج، وسيفكّر هذه المرّة بالانتحار فعلاً، فما أن أنهى كتابة «الروائيون» حتى دخل في مزاج اكتئابي طويل أودى بحياته، فهل كانت دمشق ضيّقة على روحه إلى هذه الدرجة؟ في قراءة جديدة لأعماله، سنقع على خصائص تجربة غالب هلسا وأسباب انغلاقها على النخبة، فهي تتكئ على التجربة الشخصية في المقام الأول، التجربة المحمولة على السجال والفكر والجنس، في ثنائية الذكورة والخصاء، من دون أن تعبأ بالحبكة الحكائية التي وطّنها روائياً نجيب محفوظ والجيل الذي تلاه، في مغامرة تجريبية تتطلّع إلى خطاب روائي مضاد يمتح من الواقع ولا يعيد إنتاجه، معوّلاً على مشاغل الفرد لا الجموع في تطلّعه نحو حرية غير منقوصة.



السيرة كملاذ حكائي
«إن غالبيّة الروايات الجيدة، هي، على نحو ما، سيرة ذاتية»، بهذه العبارة التي ترد في «الروائيون» يؤكد غالب هلسا على أهمية السيرة كملاذ حكائي، مثلما يعوّل على المخزون الروائي العالمي في تدعيم بنى السرد، كاشفاً عن مشغله الروائي ومرجعياته الثقافية التي تتسلل إلى متن رواياته بغزارة. هكذا يستدعي «مدام بوفاري» لفلوبير في «سلطانة»، الرواية التي سترافق البطل إلى مقهى وادي النيل وشوارع عمّان متماهياً مع مصائر أبطالها، ومدفوعاً بقوة الغريزة. وسيدور حوار نقدي عميق بين بطلي «البكاء على الأطلال» حول المحرّمات التي تحتشد بها روايات غراهام غرين. كما سيحضر تشارلز ديكنز في رواية «الضحك»، وفي «الخماسين» ينتقد مفهوم جيمس جويس للمونولوج الروائي. وفي «ثلاثة وجوه لبغداد»، يذكر روايته «السؤال» واستعداده لكتابتها، وكيفية التماهي ما بين الروائي والراوي. وفي «الروائيون»، يكشف عن طقوسه في الكتابة: الجلوس إلى المكتب أمام الورق مثلما يفعل همنغواي، أو التوقّف فترات طويلة عن كتابة جملة واحدة. و«كان عندما يداهمه إحساس الكتابة ينسى علاقته بمن حوله، ويستمر على هذه الحالة ساعات طويلة» تأتيه الصور والكلمات بطيئة، تتولد بمجهود يشعر خلال ذلك أن الرواية هبطت في مطب. لكنه عندما يعود إليها في الكتابة الثانية يدهشه نفاذها وتركيزها. فههنا يتشارك البطل والبطلة كتابة الرواية باختلاف الأسلوب: «يجلس للكتابة، فيجد المشهد جاهزاً. يكتبه ببطء محاولاً أن يجعل كل عبارة استجابةً للهفة داخلية تسعى للتجسُّد بكلمات». ويشير محمد عبد الله القواسمة في كتابه «الخطاب النقدي في روايات غالب هلسا» إلى المخزون النقدي الذي يتسرّب إلى متن الروايات كقماشة لتطريز أفعال الشخصيات ومرجعياتها الثقافية، وتالياً، فضح المشغل الروائي وأسراره المكشوفة طالما أن البطل هو الروائي نفسه، مهما تبدّلت الأسماء. وإذا بشبق الكتابة يتوازى مع الشبق الجسدي كفضيحة مزدوجة. وزيادة في اللعب، ستحضر الأسماء نفسها في أكثر من رواية، كما لو أن الروائي يرغب بأن يؤكد مرّةً تلو مرّة على أن الرواية الجيدة هي ضرب من السيرة الذاتية، وأن التمرّد على الأشكال السردية هو الضفة الثانية للتمرّد الشخصي.
■ ■ ■

من فوكنر إلى ابن المقفع
في كتابه «أدباء علّموني، أدباء عرفتهم»، يضيء غالب هلسا سيرته قارئاً، وكيف استثمر قراءاته لاحقاً في بناء عالمه السردي الخاص، بعدما كانت قراءة أعمال مثل «جزيرة الكنز» و«أرسين لوبين» و«ألف ليلة وليلة» ضرباً من التسلية. يعترف بأنه تعلّم من حكاية «الزير سالم» درساً بليغاً وهو خلط الأزمنة والأمكنة واعتبار التاريخ واقعاً يومياً يدور حولنا، كما سيتعلّم من قراءة همنغواي أسرار التقنية الأدبية عن طريق نظرية «جبل الجليد العائم». أما دوس باسوس، فقد أهداه وصفة سحرية تتمثل في كسر رهبة الشكل الروائي وإزالة الحاجز بين التجربة الحياتية والرواية، بتحطيم سياقات الحديث والكتابة. وسوف يوجه تحية خاصة إلى وليم فوكنر الذي علّمه كيفية استعادة الحس الأصيل للبيئة بتدوينها من الداخل، وأن الرواية الأصيلة هي تلك التي تعمل على دمج التاريخ الحقيقي في الأسطورة، وهذا ما سيقوم به في روايتيه القصيرتين «وديع والقديسة ميلادة وآخرون» و«بدو وزنوج وفلاحون» ثمّ «سلطانة» متعقباً تشكّل تاريخ الأردن: «لقد كان أثر فوكنر قويّاً عليّ إلى حد أنه تسلل إلى لا وعيي» يقول. وسيتوقّف بإسهاب عند شخصية ابن المقفع وتأثير «كليلة ودمنة» عليه لجهة فتنة السرد وجلاء اللغة «وتلك القفزة غير المتوقعة بين الفكرة المطروحة والحكاية»، بالإضافة إلى إعجابه بشخصيته كمثقف دفع حياته ثمناً لأفكاره. وفي الجزء الثاني من الكتاب، يستعيد علاقته مع شخصيات ثقافية عرفها عن كثب مثل إميل توما، وأحمد فؤاد نجم، ويحيى الطاهر عبد الله، وعبد الرحمن الأبنودي، وتيسير سبول.


شهادات في التجربة

◄ الشيوعي التراجيدي

فيصل درّاج

مزج غالب هلسا، وكما فعل دائماً، بين السيرة الذاتية وسيرة جماعية. كتب ما عاشه في زمن، وكتب إحساساً بالفجيعة صدمه في زمن لاحق. رسم الروائي عطب الإنسان في النظام القمعي بشكلين: الثنائيات العاطفية التي يبنيها الحب ويهدمها الجلّاد، إذ لكل سجين حب ينتظره، ولكل عاشقة مسجون تحنّ إليه. أراد الرومانسي المهزوم أن يرجم «رفاقاً» هزموه حين خذلوا قضيتهم. هكذا أنتج صاحب «الروائيون» نموذجاً شيوعياً تراجيدياً، يحلم بالثورة ودفء العائلة، ويريد أن يجمع بين المفاهيم النظرية ووقائع الحياة البسيطة. وفي المقابل أنتج غالب هلسا شكلاً فنياً مخلخلاً، يحيل على مناضلين مغلوبين، اطمأنوا إلى «بعض الحقائق»، أو لم يطمئنوا إلى شيء واطمأنوا، في الحالين، إلى قدرة السلطة على ابتلاع ما خارجها.

◄ الحلم والهزيمة

علي حسن الفواز

رهاب المدن المُستبَدة، هو الوجه الآخر لرعبه الشخصي، ولأسئلة وعيه «الشقي» ولرغبته في الكتابة عنها، ليس بوصفها مدناً تاريخية أو سياسية أو أنثروبولوجية، بل بوصفها مدناً تضيق فيها التفاصيل، وتتسع فيها الرمزية الفائقة للرصيف والمقهى والغرفة والملجأ والحانة، وهو ما عاشه فعلاً من نقائض في يوميات مدن كبرى مثل بغداد، والقاهرة، وعند متاريس الحرب في بيروت التي عاشت رعب الاجتياح الإسرائيلي بتفاصيله الدامية والطاردة، مثلما عاش معها وفيها الحلم والهزيمة والرحيل. سرديات المدن هي سرديات البحث عما تحمله الرموز من تفاصيل ضدية، ومن علائق حميمة انغمرت فيها شخصياته، وهي تواجه فوبيا السلطة، ووحشة الاغتراب، واستلابات الرعب الدوستوبي في المدينة العربية، تلك التي تطارد المثقف الملعون، وتوهمه بالخوف اليساري، والتوحش الأيديولوجي.

◄ الحياة مجرد بروفة

إدوار الخراط

العالم الروائي عند غالب هلسا عالم واحد، متنوع وعميق، لكنه محدّد ومتواتر القسمات، يدور أساساً حول شخصية الراوي التي تأتينا أحياناً بضمير المتكلم، وأحياناً أخرى بضمير المفرد الغائب الذي ينبثق العالم الروائي منه. وفي أحيان كثيرة، تبدو شخصية الكاتب سافرة، بملامحها المعروفة من حياة الكاتب. وفي أحيان أخرى، يتخذ اسمه صريحاً. والشهوة الحسية في كتاباته ليست بهيجة ولا فرحة، بل هي ليست تحققاً، إذ يستخدمها الكاتب في التعبير عن الخذلان والفشل والسقوط. إن الكتابة عند غالب هلسا هي الحياة الحقيقية، بينما الحياة مجرد بروفة.

◄ ترميم الذات بالكتابة

إبراهيم نصر الله

كان يحاول أن يرمم نفسه بالكتابة ويرمم الواقع بالكتابة، ولكن عذاب غالب الحقيقي كان قائماً في إدراكه بأنه كان يدرك أنه «يرمّم» وأن الحقيقة غير ذلك، وأن أحلام اليقظة التي احتلت في الرواية مكان الأحلام في الطفولة، هي أحلام يقظة لا غير. وهكذا، ظل معذباً، داخل الكتابة بقدر ما هو معذب خارجها.

◄مذكّرات شخصية

نزيه أبو نضال

لقد انعكست حياة غالب هلسا الحافلة على إنتاجه الفكري خاصة الروائي، بل إنني أعتقد بأنه من الصعب فهم أدب غالب من دون فهم هذه الحياة ومعرفتها، ذلك أن العديد من رواياته يمكن اعتبارها مذكرات شخصية صيغت بقالب روائي.