ترجمة محمّد أوريا
1. صانع الساعات
أنا، سيِّد الساعة العظيمة، أكتب هذه الرسالة للأجيال القادمة. فلتعلمْ أن كل شيء قد تم إنجازه بشجاعة الدِّقة وضلال المرونة البريء. عندما أدركَ وقتنا الذي قارب على نهايته أنه ذاهب إلى حتفه، دارت الساعة بخطوات تدميرية. وتماماً بحب الأب الذي تعهّد بإصلاح لعبة ابنه الغالية عليه، شرعتُ بالعمل العظيم الذي أمضيت حياتي كلها في الاستعداد للقيام به.
الوقت قدرُنا، عِبْؤنا وحريتنا، لا يمكننا إلا أن نعيشه، أن نتبعه، وحين تشاء إرادتنا نغيِّره. لهذا، فإن إصلاح الأسلاك المقطوعة في فنِّ صناعة الساعات رحلةٌ أيضاً في غاية الصعوبة، مثل تغيير إرادة الإنسان، وخطيرةٌ مثل ترويض تنين مشتعل. ومع ذلك، فإنّ نظام الأشياء يفرض علينا أن ندعَ القدر المحتوم يعيش من أجل استنفاده على نحوٍ أفضل، لكي نشاهد ما يمكن حفظه عندما يحدث ما يبدو أنه لا يمكن التغلّب عليه. إنّ أحد أعظم الأسرار، منذ فجر وقت سادة الساعة، وفرحهم أيضاً، هو أن نعرف أن أصغر أعمال الإنسان الخيرية وأبسطَها، ناهيك عن الأعمال العظيمة، هديةٌ، قربان، مساعَدة للغد. وأن الانسجام الذي لم يكن موجوداً، ولكن من خلال خفّته، يعدِّل جانبُه العصيَّ على الكشف، مسارَ السيمفونية نحو نهاية غير متوقعة.
إِرِيكَا رَايو: شجرة الزمن، تصميم بالكمبيوتر، 2018.

حتى الأمل والحلم والطموح يؤثر على مستقبلنا. ولكن الأكثر إبهاراً، والأعجبَ بين العجائب، من دون أن ندرك ذلك، مثلما لا يعرف الأسد أنّ أم الخراف التي يأكلها تلد بالفعل نسلاً أقوى وأكثر جرأة، فإن أولئك الذين تسببوا في زعزعة صناعة الساعات، هم سبب الزمن الآتي وجزء منه. وعليه، فبعد أن باتت الساعة معطلة الآن، وليس أمامها أيُّ مصير آخر غير الانهيار، لا يمكنني الانتظار حتى أعلن أن نهاية هذا الوقت سوف تلد الأوقات التي كنّا نأملها، وأعددناها، في أعماق صمتنا ومخاوفنا وأفراحنا. أعلمُ أن اليأس السائد الآن لا يسمح لي بنشر أخبارٍ سارّة. وأنت، يا مَن تقرأ هذه الرسالة، سوف تبتسم، وابتسامتك الضاحكة على ظلامنا هي فجرنا.

2. المنفي
عندما فتحتُ الباب، علمتُ أنّ أمامي رجلاً لم أرَه من قبلُ، ولن أراه مرة أخرى. لا أدري ما الذي دفع به إلى بيتي، فأنا لست المحظية الأبرز في المدينة. عيناه المظلمتان، والأعمق من بئر، تحملان كل ما في هذا العالم من حزن وتعب. أنا التي أدرك بسهولةٍ عبء زوّاري، كنتُ أعتقد أن الهاوية السحيقة والسماء تنفتحان عند قدمَي في رجل واحد. بقي واقفاً أمام الرواق، وكانت نظرته صلاة مهيبة وصمّاء. أمسكت بيده وقدته إلى الداخل، فأضاءت وجهه شموع غرفتي. في عمر لا يمكن تمييزه، كان شعره ولحيته يحملان رمال الصحراء. دعَوته للجلوس على سريري، واستقر كما تفعل الطيور الكبيرة العائدة من صقيع الجبال. ملأت وعاء كبيراً بالماء العذب، وبأفضل أقمشتي تولّيتُ غسل يديه ورقبته ووجنتيه. سمح لنفسه أن يكون مثل رضيع طري. لم أجرؤ على التحديق في عينيه إلا عندما فتحت قميصه، ورأيت أنه لا توقعات له، ولا رغبات، ولا آمال. غسلت جسده بكلّ الاجتهاد والحب اللذين كنت أوليهما لأطفالي وأحبابي الضائعين، ووضعته على سريري. أخذته بين ذراعي فهدأ رأسه بين نهدَي كالشفق، أو كتفتّح زهور الصحراء. نمنا مثل عاشقين قديمين. غادر في الصباح الباكر، ولم يترك لي في الذاكرة سوى كلمات ثلاث نطق بها... «أنا اسمي قابيل».

3. يوم صعود دون كيشوت إلى السماء
ما إن خمد دون كيشوت حتّى صاح ملك قرية المجانين: توقفي أيتها الشمس. فتوقفت الشمس. موكب من بهلوانات مرحين، وظُرفاءَ محنّكين لا يرجى إصلاحهم، ومهرِّجين أشقياء، ودُمى مهيبة، ولاعبي توازنٍ جَسورين، ومضحكين عنيدين، ومَهَرة شجعان يمشون على الحبال، ومسلّين غير قابلين للشفاء، ينحدرون من مملكة الجنون الجامحة ومن الإسراف المتهوّر، أحاطوا جميعاً بالفارس المتسامي. وبالدموع والآهات شكّلوا حلقة، فرقصوا، وتقلّبوا، وقفزوا، وصرخوا وغنوا بصوت عالٍ، كل على إيقاع أغنيته وصراخه بـ إلى اللقاء، فقط إلى اللقاء. ثم أتى ملك المجانين رسمياً وأسكتهم. واقفاً على درع في غاية الصغر، يحمله أربعة أقزام أشداء ويهمسون نحن أركان العالم، فضحك: أصدقائي، قدّيسُ قدِّيسي بذور الجنون القديمة غادر للتو هذه الأرض المضحكة. نحن نعلم أنه كان أكبر من أن تتحمّله قلوب الناس، وتافهاً بالنسبة لعقلهم الأخرق. نحن هنا في حداد عظيم. لكن الحقَّ أقول لكم، لقد فتح لنا فارسنا طريقاً للجنون، وأخاديد للهذيان، يرتفع إلى سماء الفوضى المثلى. كان يتحدث، ومن بين الغيوم ظهرت دولثينيا، على عربة رائعة، يجرّها بجَعٌ وبطّ. برفق وهيبة هبطت وسط الحشد، حضنت كيشوت بين ذراعيها، ووضعته على العربة بتعالٍ. في تلك اللحظة فتح دون كيشوت عينيه، ونظر حوله، ثم توقف عند وجه حبيبته. هتف: بحصاني وسيفي، أنا حيّ أكثر من أحشاء الله. بدأت دولثينيا تصعد ضاحكة، وتبعها موكب المجانين. انشقّتِ السماء للسماح لهم بالمرور، ثم أغلقت، تاركة قوس قزح لم يختفِ إلّا بعد حلول الظلام. كل ما تبقّى هو ريشة إوَزّة، كانت لكيشوت. مكثت هناك في ذلك اليوم وبقية الأيام. حتى بعد أن التقطها أحد المارة، حتى بعد أن عصف بها البرق، حتى بعد مرور الوقت من هناك. وفي كل مرة تلمس فيها يداً، تحفِّزها رغبة جامحة: ــــ سوف أعيد بناء العالم من جديد.

4. المرأة التي فقدت اسمها
ذات صباح استيقظتْ ولم تجد اسمها. بحثتْ عنه في كل مكان، لكنها لم تجده. لاعتقادها أن لصّاً قد يكون دخل وسرقه منها ليلاً، ذهبت إلى أقرب مركز شرطة للإبلاغ عن الجريمة. استقبلها الضابط برقة، واستمع إلى شكواها، لكن اسمها لم يكن موجوداً في السجلات، فلم يتمكن من تحرير أي شيء. وَفقاً للضابط، كان عليها أن تصل إلى مركز الأشياء المفقودة في أسرع وقت ممكن، لأنهم هناك قادرون على تسجيل السرقات بدون اسم. وبدأت رحلة عبور المدينة. لكن اسمها المفقود جعلها تفقد طريقها، وبافتقادها أيَّ سبب للذهاب إلى أي مكان، ضاعت في متاهات الشوارع، وانتهت بعد بضع ساعات من المشي إلى حديقة كبيرة لتشاهد أطفالاً يلعبون. اقتربت منها أمٌّ شابّة، وسألتها إن كان لها أيضاً طفل بين أولئك الأطفال. ردت المرأة: ربّما. عندما رأيت كل هؤلاء الأطفال، اعتقدت أنهم أبنائي. ويمكن أن تكوني أنت أختي. لم يعد لي اسم، لكنني وجدت أسماء الآخرين.
(*) شاعر وقصاص من تشيلي، مقيم في مونريال.