يراهن ج.م. كويتزي (1940) في روايته «سيد بطرسبورغ» (1994) التي صدرت ترجمتها أخيراً عن «دار ورد» (ترجمة ربا زين الدين) على ثراء حياة دوستويفسكي في تشييد عمارة روائية متينة، متكئاً على حادثة شخصية تتعلّق بانتحار أو موت «بافل ألكسندروفيتش». تتوقّف عربة دروكشي ببطء في أحد شوارع سانت بطرسبورغ، من خريف 1869، ويترجّل منها رجل خمسيني غامض. سنكتشف لاحقاً أنه دوستويفسكي الذي اضطر للمجيء من ألمانيا بجواز سفر مزوّر للاطّلاع عن كثب على تفاصيل موت ابن زوجته. مناخ روسي قاتم وضبابي ومريب، يستعيره صاحب «في انتظار البرابرة» من مناخات دوستويفسكي الروائية، بعدة الشغل نفسها، كما لو أنه يشيد رواية لم يكتبها صاحبها أو أنها مسودة رواية مجهولة. ذلك أن كويتزي يستنفر أدواته بحدودها القصوى، لالتقاط روح روسيا القرن التاسع عشر التي كانت تعيش مخاض ثورة على وشك أن تُطيح عصر القياصرة.

يستأجر دوستويفسكي غرفة ابنه المجاورة لشقة الأرملة آنا سرغييفنا وابنتها ماتريوشا، على أمل أن يستعيد شبح بافل في لحظاته الأخيرة. سوف يلجأ إلى الشرطة لاستعادة أوراق ابنه المنتحر، لكنه سيعلَق في متاهة بوليسية لم يتوقعها. إذ تنطوي هذه الأوراق على معلومات خطيرة واتّهامات مؤكّدة عن انضمام بافل إلى عصبة متمرّدة تخطّط لاغتيال شخصيات محدّدة، يقودها الثوري الفوضوي سيرغي نيكاييف. هكذا يدخل دوستويفسكي في متاهة أخرى، وحيرة وجودية تتأرجح بين الإعجاب بهؤلاء المتمردين من جهةٍ، والنكوص نحو ذات مضطربة وقلقة ونرجسية، منكفئاً إلى الخلف خشية الغرق في مؤامرة تُحاك ضدّه أيضاً، من جهةٍ أخرى.
إنه صورة ضبابية مصغّرة عن روسيا ما قبل الثورة، عزلة الفرد وجموحه، النقاء الروحي، ودنس العيش، وصولاً إلى أحوال الكاتب ومخاضاته الذاتية، طهرانيته وأمراضه النفسية، مكابداته ووعيه لمحيطه. شخصية عالقة بين العتمة والضوء. الشك واليقين، الإفلاس والشفقة وأشلاء أمل شحيح بالنجاة من فخاخ مُحكمة. رواية معقّدة ومتجهمة تحتشد بالألغاز والمتاهات، إلّا أنّ كويتزي المشبع بعوالم روايات دوستويفسكي يجذبنا بمغناطيس خفي إلى خرائط سردية تحفر على مهل في أرض صاحب «مذلون مهانون» لجهة الأسلوب أولاً، وطبائع الشخصيات ثانياً، بقصد تظهير سيرة ذاتية مبهمة. بلطة راسلينكوف في «الجريمة والعقاب» تكاد تطيح رأس صاحبة الغرفة التي يستأجرها دوستويفسكي بسبب شكوكه نحوها، وشكوكها نحوه. لكنه، إثر مواقف ملتبسة، يُنشئ علاقة حميمة معها استكمالاً لما كان يفعله الابن، كأنّه يستحضر شبحه
الغائب.
صورة ضبابية مصغرة عن روسيا ما قبل الثورة


وعلى ضفة موازية، تبرز شخصية المحقّق ماكسيموف بوصفه رمزاً لروسيا البوليسية بكلّ عنفها وبيروقراطيتها واستبدادها. ننزلق تدريجاً إلى اقتفاء شخصيات كويتزي التي تبدو كما لو أنها دوستويفسكية بامتياز، وفي طبقة أخرى من السرد يعمل على تفكيك الشخصية الروسية إلى حدّ الإشباع، بالوصفة نفسها، لجهة فحص دواخل النفس البشرية المعذّبة وسعيها إلى الانعتاق من آثامها وعجزها و«شياطينها». هنا تتدفق هواجس دوستويفسكي بجرعات مدروسة، يبثّها الراوي في ثنايا السرد، قبل أن يمزجها في مرجلٍ واحد، مقتفياً مناخات رواية «الشياطين» التي كان دوستويفسكي يتهيّأ لكتابتها حينذاك (1871). يلخّص دوستويفسكي روايته هذه بالفكرة التالية «الشياطين أولئك الذين يتصارعون على روسيا وليس من أجلها». وهذا ما سعى كويتزي إلى تأكيده في الحوارات الملغّزة بين دوستويفسكي وماكسيموف ونيكاييف، والصراعات المحتدمة والضارية حول الأفكار الجديدة مثل الاشتراكية، والديمقراطية، وسلطة الكنيسة، والاستبداد، والأدب «نحن لا نكتب من الوفرة، نكتب من الألم، من العوز» يقول. دوستويفسكي هنا، شخصية حائرة بين الاندفاع الثوري نحو روسيا منافسة للأمم الأخرى، والشك بأفعال المتمردين وسلوكياتهم إلى درجة اتّهام نيكاييف بقتل ابنه: «كان موت بافل مجرّد طعم أغراه بالرحيل من درسدن إلى بطرسبورغ. لقد كان فريسة دائماً».
ومن ضفة أخرى، نتعرّف إلى دوستويفسكي المتناقض والمتردّد والمُثقل بالتعاسة: «إنها حياة لا تساوي ثمناً أو عملة، إنها شيء أدفعه مقابل الكتابة. حياة بلا شرف، خيانة بلا حدود، اعتراف بلا نهاية». محاولة أخيرة للخروج من شوارع روسيا الموحلة، من خزيّها وجنونها.
لكن كيف تمكّن كويتزي من التماهي والاشتباك مع شبح دوستويفسكي إلى هذه الدرجة في استعارة معجمه المعقّد؟ لعله كان يستدرج أرشيف صاحب «الأخوة كارمازوف» بكامل طاقته، مدفوعاً بنشوة الاكتشاف، والمقامرة في استعمال حبر الآخر، رغم قتامته، ومن ثم تقطيره بروح تأملية تنطوي على مهارة استثنائية في قراءة تراث دوستويفسكي، ليس كعالم متخيّل بقدر ما هو سيرة ذاتية تتوزعها شخصياته المضطربة على الدوام. وإذا بنا إزاء سرد متشعّب ومعقّد وغامض، ينطوي على حسّ معرفي عميق بأجواء روسيا القرن التاسع عشر أولاً، والشيفرة السريّة لأدب دوستويفسكي ثانياً، مثلما هو رهان سردي على إذابة سطح الجليد وهتك الروح الجوانية القلقة التي تعوم بها شخصياته، في إحدى أكثر الفترات قسوةً في تفسير العلاقة بين السلطة والتمرّد، وأحوال الهياج السياسي. مقاربة صعبة وشاقة، بالمقارنة مع سرديات روائيين آخرين استلهموا دوستويفسكي وأدبه في مناوشات متباينة.
سنتذكّر رواية عتيق رحيمي «ملعون دوستويفسكي» بوصفها النسخة الأفغانية من «الجريمة والعقاب» التي استدعى خلالها فوضى الحرب وانعكاساتها على القيم في مدينة قندهار. يقول: «ما كادَ رسول يرفع الفأسَ كي يضربَ رأس المرأةِ العجوز حتّى عبرتْ رواية «الجّريمة والعقاب» في ذهنه، صعقته، ارتعشتْ ذراعاه، تمايلتْ ساقاه، أفلتت الفأسَ من يديه.. فاخترقت جمجمة المرأة وانغرزت فيها». ومن مقلبٍ آخر، يقتحم الإيراني مرتضى كربلايي لو في روايته «جهة العربة» مطبخ دوستويفسكي في وصف أحوال الجنون والفوضى في شوارع تبريز، مستلهماً وقائع صريحة من رواية «الأبله» كنوع من «أداء دين مؤجل للأدب
الروسي».
في اشتغالات صاحب نوبل (2003)، لا مكان للبهجة. هناك حالة اعتام لغوي تام، حتى في أكثر اللحظات حميمية، ما يستدعي تفعيل استراتيجية العزلة، ليس في هذه الرواية فحسب، وإنما في معظم أعماله الأخرى.