يحظى ابن خلدون بمكانة استثنائية لدى علماء الاجتماع، شرقاً وغرباً، إذ يعده بعضهم مؤسس ذلك العلم حتى قبل اجتراح المصطلح. وهناك من أهل الاختصاص من بالغ، فادّعى أن مؤلفه «المقدمة» صالح حتى لأيامنا هذه. لقد أعطت رؤى ابن خلدون الرائعة في أعمال التاريخ مكانة أسطورية تقريباً بين العديد من العلماء المعاصرين. يرجع الفضل إليه في كونه أب علم الاجتماع قبل فيبر؛ ومقدم نظرية العمل للقيمة قبل كارل ماركس، وأنه أب فلسفة التاريخ... أي أنه يمكن استخدام ابن خلدون، الباحث العربي الرائع في العصور الوسطى، لدعم أي شيء تقريباً. لكن في كتابه «ابن خلدون: سيرة عقلانية» (منشورات جامعة برينستون ـ 2018)، يقوم روبرت إيروين بوضع النقاط على الحروف، من دون أن يقلل من عبقرية الرجل: ابن خلدون كان عبقرياً من المرتبة الأولى وهذا أمر لا جدال فيه، لكن ضمن سياق زمانه ومكانه، أي في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، وفي شمالي إفريقيا.

وفقاً للكاتب روبرت ايروين، فإن كل شيء في «المقدمة» يتم إخباره انطلاقاً من تصوف ابن خلدون وقراءته الدقيقة للقرآن. أما عالمه، فكان مختلفاً عن عالمنا اليوم. لكن مقياس عظمته العلمية أنه حتى الآن، يمكن أن يكون كل شيء للناس جميعاً. وهذا المؤلف يساعدنا في فهم لماذا وكيف يمكن أن يكون ذلك. ولا شك في أن «المقدمة» تعد أفضل دراسة للتاريخ بقلم أي عالم مسلم على الإطلاق، وهو رأي كثير من البحاثة. لكن ابن خلدون كان صوفياً وفضل حياة الرحل على سكن المدينة، وكان يؤمن بالسحر أو، كما يقول إيروين «حقيقة الخارق»، ولم يكن عالمه يشبه عالمنا على الإطلاق مهما حاولنا ملاءمته. يستمر إيروين في انتقاد عادة العديد من العلماء تحويل ابن خلدون إلى رجل «حديث» ويعيدون تشكيله في صورة تجعله أكثر شبهاً بنا وأقل شبهاً به.
كان ابن خلدون سياسياً ومؤرخاً وفقيهاً ولاهوتياً وطبيباً فيزيائياً وطبيباً نفسياً وعدداً من الأشياء الأخرى أيضاً، بل كان بالفعل شخصية فكرية مختلفة كثيراً عن عدد كبير من المتخصصين والخبراء في عصرنا. «كان ابن خلدون من نواح كثيرة، متميزاً واستثنائياً، لكن تفكيره كان مسلماً محافظاً تماماً» دوماً بكلمات الكاتب. إضافة إلى ذلك، فمن الصعب قبول رأي ابن خلدون بأن العصبية القبلية محرك للتغيير الاجتماعي! انظروا إلى مشيخات الخليج العشيرية وتخلفها في المجالات كافة.
يوضح الكاتب أنه خلال القرنين الماضيين، نوقش معنى ما كتبه ابن خلدون وأهميته؛ فهل كان أول عالم اجتماع في العالم؟ وهل كان عالم اجتماع على الإطلاق؟ وهل يرجع الفضل في تنظيره حول التاريخ إلى مبادئ الفلسفة اليونانية؟ وهل تمت المبالغة في أصالته؟ الإسلام يبدو محورياً في فكره التاريخي، لكن بأي طريقة بالضبط؟ أم أنه كان سراً عقلانياً وملحداً حقاً؟ وهل كان صوفياً؟ ولماذا صنع الكثير من الأعداء في المغرب العربي ومصر؟ وهل ينطبق أنموذجه للنهوض والسقوط الدوريين للسلالات خارج المغرب الكبير؟ وهل يعتقد أن ذلك الأنموذج فعل؟ وهل يعتقد أن البدو شيء جيد أم سيئ؟ وبقدر ما كان عالماً مستقبلياً ومؤرخاً، هل كان يصلح لأن يكون متنبئاً؟ (الكاتب يقول حرفياً: كنبي؟).
من القرن التاسع عشر فصاعداً، كانت هناك حملة واعية أو غير واعية لتغريب فكره وتقديمه كمقدمة لمفكرين غربيين طوطميين مثل مكيافيلي وهوبز ومونتيسكيو وفيكو وماركس وفيبر ودوركهايم. ثمة رغبة مفهومة في جعله مثيراً وملائماً، لكن عالم ابن خلدون كان مشتركاً مع عالم القرآن والألف ليلة وليلة أكثر من علم التأريخ الحديث أو علم الاجتماع. قد يكون ابن خلدون قد وضع القرود بعد الرجال بقليل في سلسلة الكينونة الكبرى، لكن هذا لا يفي كثيراً بقيامه بتجنب جدل تشارلز داروين عن أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي. قد يتم طرح نقطة مماثلة من خلال مقارنة فكرة ابن خلدون للربح على أنها تستند إلى العمل مع عرض كارل ماركس الدقيق لتداعيات نظرية العمل للقيمة.
كان عبقرياً لكن ضمن سياق زمانه ومكانه


ابن خلدون كان قادراً على التفكير في تعقيدات السياسة وعدم القدرة على التنبؤ بها ودمويتها كما يمارسها الميرينيون والحفصيون والنصريون وغيرهم، وبعد النظر في ذلك كله كان قادراً على التعميم والإفادة من القوانين التي تحكم تشكيل المجتمعات وحلّها. روايته للتاريخ كانت سياسية أعطت وزناً لعوامل مثل الاقتصاد والمناخ وروابط القرابة والعمليات الخارقة وكان يعتقد أن القوانين التي اكتشفها ستشرح ليس فقط ما حدث، لكن ماذا سيحدث. كما وجد أن عرضه لعلم وظائف الأعضاء وعلم النفس والحلم والكآبة غامض إلى حد ما.
يقول الكاتب إنه وجد صعوبة أحياناً في فهم قصد ابن خلدون؛ حتى عندما يبدو ما يقوله واضحاً تماماً، فإنه لا يزال صعباً. وإلا لما كانت هناك العديد من التفسيرات المختلفة لرسالة «المقدمة».
لمن كتب ابن خلدون؟ بالتأكيد ليس لنا. ولا للأكاديميين في عالم القرن الحادي والعشرين. علاوة على ذلك، على الرغم من أنه خصص نسخاً من «المقدمة» لحاكم تونس وسلطان مصر، لا يبدو أنه كتب المؤلف من أجل توجيه الحاكم. من غير المحتمل أن يكون ابن خلدون يبحث عن قراء بين زملائه الفقهاء والمدرسين الذين كان لديه رأي فيهم متدنٍّ إلى حد ما. وكان شكاكاً في التجار وأصحاب المتاجر. أما معظم رجال القبائل الذين كان يتعامل معهم، فلم يكونوا قادرين على القراءة.
يقول الكاتب إن الوجهة المثالية لابن خلدون كان هو نفسه وأنه كتب لتوضيح رأسه بكل تلك الأفكار والرؤى التي تغلي وتغلغلت فيه.
ثمة نقاط كثيرة يمكن إضافتها إلى قراءة هذا الكاتب لابن خلدون، لكن المساحة المحدودة لهذا العرض لا تسمح لنا بالاسترسال عن هذا المؤلف المثير.

* Ibn Khaldun: An Intellectual Biography - Princeton University Press - (2018). 268 Pages. Robert Irwin