ما زال بإمكان المرء أن يثير تساؤلات حول معنى آية سورة النحل:«وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون» (النحل 112).
وكما نرى، فلدينا في هذه الآية استعارة غريبة جداً: «فأذاقها الله لباس الجوع والخوف». والغرابة تكمن في أن اللباس صار محلّاً للذوق. فللجوع وللخوف لباس، وهو لباس يذاق! وهنا مكمن الغرابة. ولو أزحنا اللباس من الجملة، فسوف تكون لدينا استعارة عادية ليس فيها أي شيء غريب أو استثنائي: (أذاقها الله الجوع والخوف). لكن وجود اللباس يجعل الأمر غريباً، بل الأشد غرابة في ما يبدو لي. وهذه الغرابة هي ما انصبّ على محاولة تعليلها جهد جزء كبير من المفسّرين. يقول مفسر حديث: «ذلك أنَّ الإذاقة يلائمها الطعم للجوع والخوف؛ فيرد الكلام على نحو: «فأذاقها الله طعمَ الجُوعِ والخوف»، وأنَّ اللباس يلائمه لفظ الكساء؛ فيرد التعبير على نحو: «فكساها لله لباس الجوع والخوف». لكنه البيان المحكم المدهش لأرباب البلاغة والبيان؛ إذ خرج عن المتوقّع فكان «فأذاقها لله لباس الجوع والخوف». وذلك ليعرجَ البيان الإلهي المعجز فوق طاقات البشر البيانية في الدقة والإحكام... فلو قيل «فأذاقها الله طعم الجوع والخوف»، أو «فكساها الله لباس الجوع والخوف» لخفتَ بذلك بريق المعنى وانحسر نبع البيان وغار» (https://islamonline.net/31498).
وكما نرى، فالإذاقة لا تتوافق في الوضع العادي مع اللباس. لكن الحلّ عند أصحاب النموذج أعلاه يجري عبر ربط القضية بالبيان الإلهي المعجز، الذي «خرج عن المتوقّع» و«عرج... فوق طاقات البشر البيانية». أي أنه لا يجري حل المسألة بالمنطق اللغوي، الذي يجب أن تحل به القضايا اللغوية في القرآن أو غيره، بل عبر ربطها بالإعجاز الإلهي. وبناء على هذا الربط يصير ما هو مشكل لغوياً دليلاً على الإعجاز. وهذا أمر خطر. فحين لا تجد طريقة منطقية لتفسير الإشكال، فما عليك سوى جعله مظهراً من مظاهر الإعجاز الإلهي. لكن وراء هذا كله، من الواضح أن ربط الذوق باللباس مثّل صداعاً لم يكن سهلاً التخلّص منه.

من مجموعة «على طريق الحزن» للفنانة الأوكرانية نينا مارشينكو (زيت على كانفاس ــ 1999/2001)

على أي حال، فقد انتهى الاتّجاه السائد إلى العجز عن تفسير ارتباط اللباس بالذوق: «فاسْتِعمالُ الذَّوقِ مع اللَباسِ من أَجل أنّه أُرِيدَ بهِ التَّجْرِبَة والاخْتِبار... كأَنّه قِيلَ: أَذاقَها الجُوعَ والخوْفَ، وأَلْبَسَها لِباسَهما» (الزبيدي، تاج العروس). وكما نرى فبهذا التفسير يجري الفصل بين الذوق واللباس. فاللباس لا يُذاق بل يلبس لبساً. وحين لا يفصل نهائياً بين الذوق واللباس، يقال لنا إن المقصود باللباس إنما هو الشمول والتغشية: «أما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف» (الزمخشري، الكشاف).
أما أنا، فقد أثارتني الجملة القرآنية أعلاه كما أثارت غيري. وكنت أفكر في اللباس الذي يُذاق، ثم أنساه، ثم أعود إليه. وكان في ذهني دوماً أحد احتمالَين بشأن مسألة هذا اللباس:
الأول: وقوع تصحيف ما في كلمة (لباس).
الثاني: أن كلمة (لباس) هذه فُهمت خطأ، وأنها تعني شيئاً ليس له علاقة بالملابس.
لكنّني لم أصل إلى ما يتيح لي القول بأحد الاحتمالين. ظلّت القضية لغزاً بالنسبة لي، وظلّت الآية تراودني بين الحين والحين إلى أن بدا لي، أخيراً، أنني حللت أمرها. وهو حلّ أود أن أطرحه للجدال في هذه المادة.
يقوم هذا الحل على فرض وجود تصحيف بسيط جداً في كلمة «لِبَاس». فالأصل أنها «لَيَاس»، بالياء لا بالباء، من الجذر (ليس). بذا فالآية تقول في الأصل: «فأذاقها الله لَيَاس الجوع والخوف». وقد قرئت الكلمة بالباء بسبب عدم وجود التنقيط في البدء. والجذر (لَيَس) في القواميس يعطي معاني عدة. لكن المعنيين الرئيسيين له هما: اللزوم والدوام ثم الشدّة. وقد ورد تحت هذا الجذر: الّلَيَس والّلَيَاس:
«اللَّيَسُ: اللُّزُوم، والأَلْيَسُ: الذي لا يَبْرَح بيتَه. واللَّيَسُ أَيضاً: الشدة... وإِبِلٌ لِيسٌ على الحَوْض: إذا أَقامت عليه فلم تبرحه» (لسان العرب). ومن معنى الشدة صار الشجاع يدعى لِيساً، فهو قويّ شديد: «اللَّيَسُ، مُحَرَّكة: الشِّدَّة والصَّلاَبةُ... واللِّيسُ واللُّوسُ: الأَشِدَّاءُ» (الزبيدي، تاج العروس).
ظلت الآية تراودني بين الحين والحين إلى أن بدا لي، أخيراً، أنني حللت أمرها


هذا في ما يخص «الّلَيَس».
أما الّلَيَاس بألف بعد الياء، فتعطي معنى مشابهاً لمعنى «الليس»: «اللَّيَاسُ... الزُّبُون لا يَبْرَحُ مَنْزلَه، كما نقلَه الصّاغَانِيُّ» (الزبيدي، تاج العروس). و«لَيَاس» هذه هي التي صُحِّفت إلى «لِبَاس» في الآية حسب افتراضي. فعند غياب التنقيط، يسهل قراءة «لياس» على أنها «لباس». وهذا ما حصل في ظني.
وإذا صح هذا الظن، فالآية تتحدث إذن عن «لَيَاس» في الأصل. وهي كلمة يجب أن تعني أحد المعنيين الرئسيين للجذر: الدوام والزوم أو الشدّة. وفي حال أن المعنى الأول هو المقصود، فسيكون منطوق الآية أن الله أذاقهم جوعاً وخوفاً دائمَين لا يبرحانهما. بذا فالذوق مرتبط بزمن الجوع والخوف لا باللباس. أمّا في حال المعنى الثاني، فإنّ الله أذاقهم الجوع والخوف في شدتهما ومشقتهما وسوئهما. وعليه، فالذوق مرتبطٌ بالشدة لا باللباس. والاحتمالان ممكنان. ولكل واحد نقطة قوّته. فالاحتمال الأول يقويه أن المعنى الأصلي للجذر (ليس) هو اللزوم والدوام في ما يبدو. أما الثاني، أي معنى السوء والشدة، فتؤيّده آيات عديدة في القرآن تربط التذوق بالشدة وسوء الحال:
- «وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» (الأنفال: 51).
- «أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» (آل عمران: 106).
- «ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون» (يونس 52).
- «فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا» (الزمر: 26).
- «فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم» (التغابن: 5).
ولا أستطيع أن أحسم رأيي بشأن أيّ معنى هو المقصود بينهما، فالاثنان يصلحان للآية.
وإذا صح ما أقول، فإنّ الاضطراب الذي أحدثته الآية لدى أجيال من المفسّرين نبع من نقطة زائدة لا غير. أي من قراءة الياء على أنها باء. ومثل هذا التصحيف وارد جداً، وممكن جداً. فالياء عند عدم وجود التنقيط قد تقرأ ياء أو تاء أو ثاء، كما هو معروف لدى من اهتمّوا بالتصحيف في الكتابة العربية.
على أي حال، يجب علينا الانتباه إلى أن الآية آية تقابل. فهي تضع شيئاً طيباً في مواجهة شيء سيئ ومعاكسته: فهناك الرغد الذي هو الوفرة ولين العيش (يأتيها رزقها رغداً) مقابل اللياس، الذي هو الشدة أو تطاول زمن الجوع والخوف (لياس الجوع والخوف). أي الليونة مقابل الشدة. وهناك أيضاً الأمن والاطمئنان (آمنة مطمئنة) مقابل «الخوف» ولياسه، أي شدته أو استطالته. فالعطف في الآية يعني: لياس الجوع ولياس الخوف. وهذا التقابل الواضح يؤيّد اقتراحي بأن الأمر لا يتعلق باللباس بل باللياس، أي بالشدة والسوء.
بناء عليه، فالاستعارة التي بدت غرائبية، بل وسريالية، والتي تجعل اللباس يُذاق، ليست من القرآن، بل من مصحّفيه. أما الحبر الذي هُدر على تفسير ما أتى به هذا التصحيف، فقد كان يمكن توفيره لو أنّ أحداً ما فكر في أن الأمر كله قد يكون نتاج تصحيف بسيط. وفي النهاية، فإنّ كلّ كشف عن تصحيف في القرآن إنما يأتي في سياق «الحفظ» الذي تحدث عنه القرآن ذاته: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لحافظون» (الحجر 9). فالله يحفظ بجهد من يستعيد قراءته الأصلية من دون تصحيف.

* شاعر فلسطيني