يشكل كتاب «إيران وفلسطين: الماضي والحاضر والمستقبل» (دار Routledge البريطانية ــ 2019) للباحث في «مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية» التابعة لـ «جامعة لندن» (SOAS) الإيراني سيد علي علوي أهمية استثنائية في هذا التوقيت، لسببين: أولاً يستعرض الكتاب تاريخ العلاقات السياسية بين إيران ــ وخصوصاً ما بعد الثورة الإسلامية عام 1979 ــ وفلسطين.

وقراءة الماضي تجعلنا نفهم العلاقات الحالية المعقدة بين إيران وفصائل المقاومة الفلسطينية على اختلاف توجهاتها إسلامية أو يسارية، ومحاولة التنبؤ بمستوى التعاون المستقبلي بين إيران والمقاومة الفلسطينية. ثانياً وبشكل ثانوي، قد يوضح لنا الكتاب موقف حركة «حماس» الذي وصفه البعض بالانتهازية السياسية بعدما حضر رئيس المكتب السياسي للحركة اسماعيل هنية تشييع الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في إيران الذي اغتيل في العراق في عملية تبنتها الولايات المتحدة بمشاركة إسرائيلية. وبالتزامن مع تشييع الجثمان، أقامت فصائل فلسطينية عِدة في غزة بيت عزاء للجنرال سليماني، فيما امتنعت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية الممثلة في حركة «فتح» عن إصدار أي موقف بشأن عملية الاغتيال.
يعتبر العنوان العريض لقراءة علوي التاريخية للعلاقات الإيرانية - الفلسطينية أن الجمهورية الإسلامية ترى في دعمها للقضية الفلسطينية قطعاً تاريخياً وسياسياً وفكرياً مع النظام القديم للشاه محمد رضا بهلوي (1919-1980) الذي ربطته علاقات وثيقة مع الكيان المحتل. إذ اعترف الشاه رسمياً بإسرائيل في آذار (مارس) 1950، كما سمح عام 1961 بوجود مُمثلية سرية لتل أبيب في طهران. وقد تحولت في ما بعد إلى قنصلية دائمة ثم سفارة إسرائيلية ذات مُلحق عسكري صهيوني. وقد تم الإفراج في 2019 عن وثائق تابعة لخارجية الكيان المُحتل تخصّ العلاقات مع إيران البهلوية منذ عام 1953 حتى الإطاحة بالشاه عام 1979. وكُشف أن تل أبيب ساعدت الشاه في قمع معارضيه، وقدمت له العديد من المعلومات المخابراتية حول سخط الشعب على طبيعة حكمه. وتوضح الوثائق أن العلاقات التي جمعت الدولتين آنذاك وصلت إلى مرحلة استراتيجية على الأصعدة السياسية والدبلوماسية كافة.
ولهذا مع اندلاع ثورة 1979 والإطاحة بالشاه، شكلت فلسطين وقضيتها وسياسة التعامل معها مِن قِبل الإيرانيين بمثابة إعلان عن مولد نظام جديد، حيث اتفق كلا الطرفين الإيراني والفلسطيني على الإطاحة بالكيان الصهيوني، ورفض الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط، خصوصاً أن العلاقات الإيرانية مع الأخيرة اتّسمت بفترة من التوتر شهدت حصار السفارة الأميركية في طهران إبان الثورة واحتجاز العاملين فيها مخافة حدوث أيّ انقلاب وإعادة الشاه إلى الحكم، مثلما تم مع الحكومة الوطنية للإيراني محمد مصدق في الخمسينيات بترتيب أميركي - إنكليزي، ثم قطعت العلاقات الإيرانية - الأميركية إلى الآن.
شكل الدعم السياسي المقدّم مِن قوى إيران الثورية الجديدة للقضية الفلسطينة تجسيداً لشعارات الثورة لدى جماهيرها العريضة. رفعت أغلب الطوائف الثورية ـــ ليبرالية ويسارية وإسلامية إيرانية ـــ شعار التحرر من الإمبريالية والنفوذ الغربي وتصدير الثورة. هذا قبل التحول الكامل للثورة الإيرانية واتخاذها الصبغة الإسلامية، لترفع شعار الوحدة للأمة الإسلامية، وتحاول رفع الصبغة الطائفية عنها كون الطبقة الحاكمة الإيرانية صارت تمثل المذهب الشيعي في الإسلام.
وبهذا، صارت فلسطين توفر لإيران البيئة الملائمة لتصدير ثورتها عبر فكرة التحرر من الإمبريالية ومحاربة الكيان الصهيوني. ثانياً، يرفع الدعم المقدم من إيران للفصائل الفلسطينية ذات الأغلبية السُنية ـ سواء كانت إسلامية أو يسارية ـ تهمة الطائفية عن إيران وثورتها، ثالثاً وهذا أمر مهم، أن إيران تسوق موقفها من القضية الفلسطينة كقائدة للأمة الإسلامية بعدما تخلت مصر عن دورها في عهد السادات بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني في السبعينات ثم تبعتها الأردن. وفي أواخر 2010 حين حدثت الهزات الشعبية العنيفة في كل مِن تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والتقارب الخليجي - الصهيوني، صارت إيران القِبلة الوحيدة المُتاحة أمام الفصائل المقاومة سواء لدعم سياسي أو مادي أو عسكري.
دعم القضية الفلسطينية هو قطع تاريخي وسياسي وفكري مع نظام الشاه


وهذا ما يؤكده علوي، فقد نمت الكتابات الأدبية الإيرانية حول فلسطين وآليات التعاطف والتضامن مع الفلسطينيين، وامتد الأثر الإيديولوجي للقضية إلى العلوم الاجتماعية والسياسية وعلم النفس، أي أن النظام الإيراني ما بعد الثورة الإسلامية، استخدم القضية الفلسطينة بقصد أو بدون قصد لصُنع هوية مستقلة للنظام وللفرد الإيراني تختلف عن سابقتها في عهد الشاه المتصهين.
لكن في الوقت نفسه، بُرر باسم القضية ومساندتها الكثير من تجاوزات النظام الإيراني في الداخل في مجال حقوق الإنسان تحديداً. كما بُرّرت عملية صدام النظام الإيراني المتواصل مع الغرب. صدام تحول إلى ضرورة بقاء للنظام، وليس بناء على خياره بمواجهة الإمبريالية، ما جعل كل مُطالبات المواطن الإيراني حول الاقتصاد والصحة والتعليم والحرية والنظام السياسي ـــ وإن تحسن الوضع عن زمن الشاه ـــ لها رد واحد هو أن أي تعديل أو تحسين في طبيعة إدارة البلاد، يعني سقوطاً في أحضان الإمبريالية وتخلياً عن القضية الفلسطينية وهي أهم قضايا التحرر المتعلقة بمصير الشرق الأوسط.
هل هذا يعني أن دعم إيران للقضية الفلسطينية يقع في نطاق الانتهازية؟ ينفي علوي هذا الاتهام، فالقضية الفلسطينية عادلة تضامن معها كل معارضي الشاه تقريباً، وانتقلت بعد الثورة لتشكل عقيدة وركناً أساسياً لدى النظام الإسلامي الحاكم لإيران التي دخلت حيز المساعدات السياسية والعسكرية والمالية لفصائل المقاومة الفلسطينة. كما لا يمكن نكران دور إيران الحاسم في محاولة ضبط موازين القوى العسكرية بين العدو وفصائل المقاومة الفلسطينية عبر تطوير منظومات صاروخية قليلة الكلفة ولكن مزعجة وقادرة على تكبيد العدو الصهيوني خسائر فادحة. ما جعله يعيد التفكير مرات قبل إقدامه على أي هجوم على الأراضي الفلسطينية وخصوصاً قطاع غزة. فمنذ فترة وجيزة مثلاً، عُقدت اجتماعات مكثفة داخل تل أبيب لمنح قطاع غزة المحاصر امتيازات عدة مقابل توقف القصف الصاروخي من داخل القطاع على الأراضي المحتلة. وهذا إن دل على شيء ـــ رغم قلة الدول الداعمة لخيارات المقاومة الفلسطينية أو انعدامها تقريباً ـــ فهو على أنّ إيران ظلّت ما بعد ثورة الـ 1979 داعماً وفياً ومخلصاً وفعالاً للمقاومة الفلسطينية.
أما الانقسام حول تعزية إيران باغتيال الجنرال سليماني بين صمت «فتح» وحداد «حماس» وحركة الجهاد، فالأمر يعود إلى 1980 وقت فتح العراق أبوابه ليسار عرفات ومنظمة التحرير. ورغم العلاقة الطيبة التي جمعت عرفات والإمام الخميني في بداية الأمر، لكن سرعان ما رفض الخميني طريقة تعامل يسار عرفات السياسية كالتدخل في الشأن الإيراني وتوسطه في أزمة رهائن السفارة الأميركية التي أشرنا إليها سلفاً. وقد قطع الخيط الأخير مع عرفات وقت اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية حين اصطفّ عرفات ومنظمته ضمنياً مع صدام حسين حتى لا يخسر الدعم السخي من دول الخليج النفطية التي كانت مساندة للعراق آنذاك. ولم تنسَ القيادة الإيرانية هذا الموقف. وقد بدأت الانتقادات الإيرانية للمواقف والسياسات الفلسطينية الرسمية وصولاً إلى حرب الخليج الثانية عام 1990 حين دعمت السلطة الفلسطينية العراق لغزو الكويت، ثم بدء مفاوضات التسوية الفلسطينية بقيادة عرفات، وقد انتهت باتفاق أوسلو في التسعينيات.
أما «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، فقد بقيتا على مواقفهما من الكيان الصهيوني. إذ تشكّل حركة «حماس» ذراعاً عسكرية لجماعة الإخوان المسلمين، إحدى أهم وأكبر الجماعات الأممية السنية في العالم وليس فقط في الشرق الأوسط. لذا، فالعلاقات معها استراتيجية وجيوسياسية في وسط عربي سُني معاد لإيران وعلى استعداد لأن يتحالف مع الصهاينة للتخلص منها. أما حركة «الجهاد الإسلامي»، فقد كانت أفكار ومبادئ الثورة الإسلامية الإيرانية، وأفكار الخميني وتبنيه للقضية الفلسطينية قد أثرت تأثيراً هاماً في الحركة، بخاصة من ناحية المنهج الثوري الذي اتبعته الثورة في التغيير، وفي المواقف السياسية تجاه الغرب وإسرائيل، والنظم العربية المُطبع في أغلبها، ودعوة الخميني للالتحام بالجماهير، ودور علماء الدين الثوري وضرورته، ومواجهة وعاظ السلاطين، والاهتمام بالتعليم الثوري لمواجهة الاحتلال.... كل هذه المفاهيم قربت الحركة مِن إيران إلى أن صارت أحد حلفائها في المنطقة العربية.
في الأخير، يعد كتاب علوي مرجعاً أساسياً لأي دارس لتاريخ العلاقات الإيرانية -الفلسطينية، ومحلل يحاول أن يتنبأ بمستقبل هذه العلاقة، وخصوصاً أن علوي أشار في أحد لقاءاته إلى ندرة تناول العلاقة الإيرانية - الفلسطينية بشكل أكاديمي، إذ لم يتم البحث في التواريخ والأحداث التي جمعت الإيرانيين والفلسطينيين أمام هدف مشترك، وهذا ما يجعل للكتاب أهمية ثالثة.