معروفة جيداً «قصة سنوهي» المصرية الفرعونية القديمة، التي أُلفت في حدود 1875 ميلادية كما يعتقد. ولدينا عدة نسخ من هذه القصة من أوقات مختلفة. فقد كانت قطعة أدبية واسعة الانتشار على مدى ألف عام. ويختلف حول طبيعة القصة. فهناك من يظن أنها عمل خيالي وليس تاريخاً. لكن الغالبية ترى أن العناصر التاريخية فيها أكيدة، وخاصة أسماء الأشخاص والمناطق.بداية القصة غامضة. لكن يبدو أن سنوهي الموظف عند الفرعون سمع مصادفة حديثاً ما يشير إلى مؤامرة ما لقتل الملك - الفرعون أمينيمهات، مؤسس الأسرة الثانية عشرة في بدايات القرن العشرين قبل الميلاد. وقد اضطرب الرجل بهذا الأمر المهول بالنسبة له، ولم يعرف الرجل كيف يتصرف. فحمل نفسه مسرعاً وهرب خارج مصر. قطع سيناء ثم وصل إلى ساحل الشام فمر على جبيل، ثم وصل إلى منطقة تدعى «قديم»، يعتقد كثيرون أنها «قطنة» في سوريا، حيث أمضى عاماً ونصف العام. ثم انتهى به المطاف عند زعيم منطقة يدعى «عموناشي»، وصفه بأنه «حاكم رتنو العليا». ويعتقد كثير من الباحثين أن سنوهي يتحدث هنا عن منطقة في سهل البقاع اللبناني. وقد احتضنه عمينيشي وأقطعه أرضاً تدعى «يا» وزوجه ابنته وجعله مساعداً عسكرياً له، حيث أقام عنده سنوات طويلة. لكن سنوهي عاد إلى مصر في النهاية بعدما استدعاه الفرعون، حيث روى له قصته المثيرة.
أما أنا، فأظن أن سنوهي اتجه، بعدما قطع سيناء، إلى منطقة ما بين فلسطين والأردن. أو لأقل إنها منطقة تقع جنوب خط بئر السبع- الكرك مع احتمال أن يكون مقامه النهائي في منطقة خليج العقبة، حيث كان قوم عموناشي في ما يبدو يسكنون. كذلك أعتقد أن «قديم» ربما كانت قبيلة «جذام» التي كانت تسكن حول الخليج العقبة في الإسلام.
على كل حال، وأياً كان المكان الذي بلغه سنوهي، فإن همي الأساسي أن أتعرض أساساً لاسم الزعيم، أو الشيخ القبلي، عمونّاشي cammunnashi الذي استقبل سنوهي وتبناه. ولم تقدم فرضية معقولة حول أصل هذا الاسم ومعناه. لكن هناك من اقترح أنه يعني «عمو بن ناشي». لكنني أظن أن هذا الاقتراح ضعيف جداً وليس مهماً.
أما فرضيتي، فتقول إن اسم الرجل هو «عم أنس». وهو اسم معروف جداً لصنم إله تعبده قبيلة خولان، أو بعض بطونها، قبيل الإسلام. وقد وثق ياقوت الاسم مشكلاً هكذا: عُمْيَانِس: «عُمْيَانِس: بضم العين وسكون الميم وياءٍ وبعد الألف نون مكسورة وسين مهملة. قال أبو المنذر: وكان لخولان صنمَ يقال له عميانس بأرض خولان، يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسماً بينه وبين اللَه عز وجل بزعمهم. فما دخل في حق اللَه من حق عميانس ردوه عليه وما دخل في حق الصنم من حق اللَه الذي سموه له، تركوه له. وهم بطن من خولان، يقال لهم الاذوم وهم الاسوم. وفيهم نزك فيما بلغنا قوله تعالى: «وجعلوا للهَ مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا اللهَ بزعمهم وهنا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى اللهَ وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون» الأنعام 136 (ياقوت، معجم البلدان).
وهكذا يبدو أن القرآن قد أشار إلى هذا الإله من دون أن يسميه. أما الرسول فقد سماه، وسأل وفد خولان الذي جاءه كي يعلن إسلام القبيلة عن هذا الصنم: «أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي قال حدثني غير واحد من أهل العلم قال قدم وفد خولان وهم عشرة نفر في شعبان سنة عشر فقالوا يا رسول الله نحن مؤمنون بالله ومصدقون برسوله ونحن على من وراءنا من قومنا وقد ضربنا إليك آباط الإبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل عم أنس؟ [وهو] صنم لهم. قالوا: بشرّ وعرّ. أبدلنا الله به ما جئت به ولو قد رجعنا إليه هدمناه» (ابن سعد، الطبقات الكبرى).
لفظة «عامو» كان تطلق عند المصريين على الآسيويين عموماً، وعلى سكان فلسطين وبلاد الشام


وقد ورد الاسم كذلك في نصوص المسند العربية الجنوبية: «وساعدهم في الحرب التي بينهم وبين «عم أنس بن سنحن» «عمى أنس بن سنحان»، وبينهم وبين قبيلة خولان» (جواد علي، المفصل).
بناء عليه، يمكن للمرء أن يفترض أن اسم الزعيم القبلي المذكور في قصة سنوهي يجب أن يكون «عميأنس». لكن من المحتمل أن يكون الاسم بالنسبة: «عم أنسي»، أي العمأنسي، وبمعنى الذي يتعبد للإله «عميأنس» ويتبعه، أو الذي يتعبد له ويكهن. وإن صح هذا، فهو يؤكد فرضيتي أننا في منطقة بين جنوب فلسطين وشمال الجزيرة العربية. ولا يخفى أن جنوب فلسطين كان دوماً أقرب إلى الجزيرة العربية.
يؤيد هذا أن نص القصة يحدثنا لاحقاً عن شخص يدعى «مكي من قديم». والاسم مكي يذكر بالنقوش الصفائية، وهي نقوش بلهجة عربية مكتوبة بالأبجدية القديمة التي اندثرت. فقد ورد في هذه النقوش الاسم «عبد مك». كما ورد «عبد مكة» بالتأنيث. ومن الصعب أن لا يربط المرء بين «مكي» في سنوهي وبين «مك» النقوش الصفائية. ومن الواضح أنه كان هناك إله يدعى «مك، مكي، مكو» يسمي الناس أبناءهم باسمه. لكن علينا أن نشير إلى أن في قصة سنوهي أسماء صعب الوصول إلى أصلها مثل «خنتيوش» من «خنتيكيشو» كما وصفه النص. ولعل مثل هذه الأسماء تعرضت للتصحيف من قِبل النساخ المصريين.
وهناك من يعتقد أن عموناشي مرتبط بـ«قديم» بناء على نص القصة. لكن النص لا يقول هذا في اعتقادي. إذ أن زعيم قديم، التي افترضنا أنها جذام، هو مكي كما تقول القصة «مكي من قديم». وفي النص يطالب سنوهي فرعون بأن يحضر مكي القديمي هذا إلى مصر، ويصفه شاب يعتمد عليه ويحب الفرعون. أما عمّونّاشي فهو حاكم «رتنو العليا» وليس قديم. والمشكلة أن إجماع بين الباحثين الغربيين على أن «رتنو العليا» هي اسم لشمال بلاد الشام، أي عملياً لسوريا ولبنان. وهذا يتناقض بشدة مع فرضيتي. لكن هذا قد يحل من واقع أن إحدى نسخ قصة سنوحي تحذف الراء من بداية كلمة «رتنو». وهذا يعني أننا مع «تنو» وليس مع «رنتو». ومن المحتمل أن تكون هذه النسخة تصحيحاً لخطأ النسخ الأخرى التي استخدمت «رتنو». والحقيقة أن هذا أكثر منطقية. فكيف يمكن لعموناشي أن يحكم غالبية بلاد الشام ثم يكون مجهولاً عند الدول والإمبراطوريات في المنطقة؟ بناء عليه، فالرجل كان حاكماً لتنو العليا، وليس لرتنو العليا. وإذا صح هذا، فهو يدعم أن مسرح أحداث قصة سنوهي يقع بين جنوب فلسطين وشمال الجزيرة العربية.
وهناك شيء آخر مهم في النص وهو تعبير «حقا خاسوت». وهذا التعبير وهو التعبير الذي صار لاحقاً اسماً للهكسوس الذين احتلوا مصر عند المصريين. وقد حرف اليونان هذا الاسم إلى «هكسوس». وهو يترجم على أنه يعني «حكام البلاد الأجنبية». والغريب أن هذه الترجمة طبقت على الاسم في القصة. فكيف يكون هذا؟ كيف يكون قوم عموناشي الذين يسكنون في بلادهم حكاماً للبلاد الأجنبية؟ هذا غير ممكن، وغير معقول. وهو يشير إلى أن ترجمة تعبير «حقا خاسوت» على أنها «حكام البلاد الأجنبية» ترجمة خاطئة هنا في القصة ولاحقاً أيضاً. وهو ما يعني أن هذا الاسم «حقا خاسوت» اسم محلي في هذه المنطقة، وليس اسماً مصرياً في الأصل. ويجب تحليل هذا الاسم وفهمه على هذا الأساس. أضف إلى ذلك أنّ عدداً من ملوك الهكسوس، مثل خيّان الشهير، وضعوا لاحقاً هذا اللقب على أختامهم «حقا خاسوت». فهل يعقل أن يقبل حاكم هكسوسي أن يكون حاكما لمصر ثم يشير لنفسه بأنه «حاكم البلاد الأجنبية»؟ أظن أنه لا يعقل، لأنه يعني أنه غريب وغير شرعي.
ولعلني أعود إلى حقا خاسوت هذه في مادة مقبلة.
* شاعر فلسطيني