لا يمكن إهمال المجموعة القصصية الأخيرة لجويس كارول أوتس (1938) التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن «دار فيليب راي» تحت عنوان «سيد الدُمى». من خلال ست قصص، تتمكّن «سيدة الأدب الأميركي» من جرّنا إلى عوالمها المرعبة من جديد. صاحبة السرد المذهل في تنوعه وثرائه والمرشحة لنوبل منذ ثلاثين عاماً، ألّفت ما يزيد عن مئة كتاب وتفرّدت عن معاصريها، ليس فقط بغزارة إنتاجها ولكن بتشييدها عالماً خاصاً تتقاطع فيه المناخات القوطية الغامضة بالقدرة العالية على التحليل الاجتماعي والكشف عن الكوامن الخفية للطبيعة البشرية. تُرينا أوتس دائماً أن ثمة إمكانية لكتابة قصة أو رواية انطلاقاً من تفصيل أو حدث عابر لا يلفت النظر. تشمل موضوعاتها المفضلة: العنف وسفاح القربى والفقر والصراع الطبقي وشوائب النظام القضائي والصحي في أميركا، وكل ما يدفع الإنسان العادي إلى ارتكاب الأسوأ. غالباً ما تضعنا أمام مونولوغ شخصيات تتولى سرد حيواتها بدون مقدمات، وتستغرق في تشريح تفاصيلها النفسية ببرودة أقل ما يقال عنها إنها إكلينيكية. أسلوب استلهمته من هنري جيمس وويليام فوكنر.تلجأ أوتس إذن إلى وسائل أثبتت جدارتها في الماضي ولم تفقد شيئاً من نضارتها منذ مجموعتها القصصية الأولى «عند البوابة الشمالية» وحتى «سيد الدمى » الذي يأتي استكمالاً لخصوصيتها السردية وأسلوبها في اختيار أشخاص عاديين ليكونوا أبطال قصص تنضح بالعنف، جاعلة لعوالمهم الصغيرة حيزاً واسعاً في مخيلة القارئ. انطلاقاً من صبي يجمع الدمى المهملة في الحي أو امرأة تُشكك في نوايا زوجها، تجرنا صاحبة «زومبي» إلى تتبع إشارات تقدمها بأدنى تفاصيلها من دون أن تجعلنا مهيئين لتلك اللحظة التي تجرحنا فيها لننسحب وراء دم أبطالها أو ألمهم أو وحدتهم. اللغة البطيئة العصابية تلغّم السرد وتحوّل القصص إلى سيناريوهات مفكّكة وهذيانية تفشي حقيقة انهيار الحلم الأميركي.


أنا المرشحة الأبدية لجائزة «نوبل»، في رصيدي ما يزيد عن مئة كتاب نشأ معظمها عن مطاردة من نوع ما. رأسي شبيه بصالة سينما مزدحمة وفيها صاح أحدهم «حريق!» فاندفع الجميع نحو باب الخروج في نفس الوقت. لديّ ألف فكرة ولكن عشرة أصابع فقط وآلة كاتبة واحدة وفي بعض الأيام ـــ أنا لا أمزح أو أبالغ ـــ ظننتُ أن الأصوات الصاخبة في ذهني ستقودني للجنون.. فمن أكون؟

في البدء.. كان الأرنب الأبيض
قبل أن نلعب هذه اللعبة، من الضروري أن نُذكّر بأن كلّ شيء بدأ بأرنب أبيض أخرج ساعة من جيب صدريته واندفع راكضاً وهو يصرخ «يا إلهي يا إلهي لقد تأخرت!». لم يثر هذا فضول أليس وحدها التي اندفعت عبر الحقول مقتفية أثره ورأته ينحشر في جحر واسع منفتح تحت سياج من الأعشاب، بل أسرَ فتاة متّقدة الذهن تبلغ من العمر ثماني سنوات تُدعى جويس كانت تعيش في مزرعة هادئة في ضواحي نيويورك، أهدتها جدتها بطاقة اشتراك للدخول إلى المكتبة البلدية، لتكتشف «أليس في بلاد العجائب» للمؤلف البريطاني لويس كارول وتلجَ بدورها الجحر، غير منشغلةٍ بمعرفة السبيل إلى مغادرته.
نعم، هي الروائية والقاصة جويس كارول أوتس المولودة عام 1938. بداية الفانتازيا بالنسبة إليها ليست سوى بداية الرعب، فأليس تجد نفسها في عالم سريالي مشوّه تحكمه ملكة تلعب الكريكيت ببجعة وتأمر بقطع رؤوس جنود الكوتشينة تحت أنظار طائر ضاحك يقول إنها مجرد كائنات من ورق وستورق أشجار الغابة غيرهم. وفي تلك المنطقة السعيدة نفسها، ستهمس لك أوتس «تعال معي» لتدرّبك على اللهاث وأنت تركض في عالم مهدّد وعدائي، تملؤه مشاهد متعرجة وزوايا حادة وسلالم لولبية لا تؤدي إلى أي مكان وأشجار ذات أوراق مدببة وحشائش تبدو كالسكاكين، وستعرف أنك تسلك الطريق الخطأ حين تصرخ في وجهك فجأة «اقطعوا رأسه»!
وحين تُسأل صاحبة «زومبي» عن اكتشافاتها الأولى تقول: «أليس قلبت حياتي ووجّهتني نحو الكتابة، لأنها غيّرت نظرتي إلى العالم، ودفعتني لرؤيته مثل مشهدٍ غريبٍ وغامض ومع ذلك آسر.. حين نكون أطفالاً نخلق أشباحاً تطاردنا، وشيئاً فشيئاً خلال حيواتنا الطويلة، نصبح نحن هؤلاء الأشباح، نطارد طفولتنا المفقودة».

الكتابة: مفتاح صندوق باندورا
سرعان ما غزت أوتس الرهبةُ والحزن على ما تتوارى ذكراه وما يجب التخلي عنه مع مرور الزمن، رغم أن طفولتها كانت «منعزلة وسريّة»، قضتها في أحضان والديها ووالديّ أمّها بالتبنّي المهاجرين من هنغاريا إلى الولايات المتحدة. لم يكن يزعجها أن جدتها عدوانية دائمة الصراخ، تخنق دجاج المزرعة بيديها، وشقيقتها لين منكفئة على عالمها الخاص بسبب إصابتها بالتوحّد، وحتى الجيران الأكثر لطفاً تتصدر صورهم فجأة صفحة الحوادث في الصحف المحلية. كانت صاحبة «اغتصاب: قصة حب» (2005) تشعر بفضول جارف تجاه صمت البالغين الذي يغلّف بعض الأحداث العائلية في الأمسيات الباردة: انتحار جدّها من أبيها الذي كان حفّار قبور بطلقة في الرأس بعدما قتل زوجته بمطرقة، ومقتل جدها من أمّها في شجار في حانة ليتركها مع تسعة أطفال بلا معيل. تقول: «في سنوات شبابي، كنت مفتونة بالحكايات الخارقة للناس العاديين، ولعل كلّ كاتب كان طفلاً يسعى للبحث عن الأدلة ويفكّ الرموز».
الكتابة إذن هي الوسيلة المُثلى لفتح صندوق باندورا، ومتى شاءت تستطيع أوتس استرجاع أماكن الماضي والتقاط شخصياته بخفة المحترفة.. تُفلتهم كأنهم عصافير أُطلق سراحها للتو، ليطوّقوا حكاياتها بظلالهم النحيلة. تُعد مجموعتها القصصية الأولى «عند البوابة الشمالية» (1963) استهلالاً بليغاً لما سيتبع من رؤى قاتمة سيطرت على جلّ كتاباتها، تلتها بعد عام رواية «سقوط يبعث على الرجفة» التي تقترب من عوالم «القوطية» بما تستدعيه من برود الأقبية والسراديب والإضاءة الخافتة، وحِس المؤامرة ووشوك وقوع الجريمة.
اللهجة الخاصة التي ميزتها في بداياتها أفصحت لاحقاً عن تدرّجات وأطياف عدة. ورغم تخطّيها الثمانين، لا تزال أوتس تكتب باندفاع محموم: «أجبرت نفسي على الشروع في الكتابة عندما كنت أشعر بالإرهاق التام، عندما لم يعد أي شيء يستحق الصمود لخمس دقائق أخرى». وبنفس العزيمة لم تترك مجالاً إلا وجرّبت فيه، نشرت أعمالاً شعرية ومسرحيات وقصصاً للأطفال ويوميات وحتى كتاباً عن الملاكمة، فضلاً عن مساهماتها الأدبية والنقدية في أبرز الصحف الأميركية منها «نيويورك تايمز». ولا ننسى أنها كتبت أيضاً بعض الروايات بأسماء مستعارة من بينها: روزاموند سميث ولورين كيلي.

شهية لقول المزيد
الكتابة تحطّ على كتف جويس كارول أوتس كغراب وديع. ومهما يكن، فهي لا تواجه أي صعوبات في العثور داخل العادي على غير العادي، وتحويل أي فكرة أو حادثة عابرة إلى حكاية متماسكة وجذابة. في رواية «هم» (1969) التي نالت جائزة الكتاب الوطني، تأخذنا إلى عمق ديترويت حيث اندلعت أعمال الشغب في ستينيات القرن الماضي وتصف آثارها على عائلة من البيض تتعرض لبصقات السود ونظراتهم الدونية. وفي «شقراء» (2000)، تفاجئنا برواية تخييلية مترامية عن حياة مارلين مونرو التي تعتبرها أهم من مدام بوفاري. فهي امرأة قوية كرّست حياتها لعملها وواظبت على أخذ دروس في التمثيل والرقص وقراءة كتب جادة حتى بعدما نالت شهرة واسعة وتزوجت من جو ديماجيو. وفي المقابل، فإن إيما بوفاري لا تفعل شيئاً.. هي مجرد امرأة كسولة، تقرأ الروايات وتقيم العلاقات العاطفية.
صرنا نعرف أن أوتس لا تخاف أن توغل في الماضي وتقلّب تفاصيله. كتابها «المشهد المفقود» (2015) بمثابة لملمة لنثار الذاكرة، تستعرض فيه حوادث طفولتها منذ الأربعينيات متنقلة بين الذكريات من دون أن تشعرنا بأن ثمة قطعاً أو التفاتات صعبة. وحين توفي زوجها ريموند سميث في 2008 عقب مرض مفاجئ لم يمهله أكثر من أسبوعين، سلّطت على تجربة الحداد ضوءاً يلسع بقدر ما يسطع في يوميات حملت عنوان «دليل الأرملة» (2012) وهي لعبة في غاية الذكاء، إذ يُمضي القارئ وقته في توضيب المنزل معها والاستماع إلى الرسائل الصوتية التي لم تكن تجيب عليها وهي تغرق في الشعور بالذنب وأدوية الاكتئاب. نقرأ: «من بين الواجبات التي لا تحصى للأرملة تجاه الموت، ثمة واحد مهم جداً، في الذكرى السنوية الأولى لوفاة زوجها، على الأرملة أن تقول لنفسها: أبقيتُ نفسي على قيد الحياة».
كاتبة العزلة والماضي الهارب والحب الصعب، تجرّ المخيلة إلى الأجواء المريبة والغامضة، بحبكات تقارب عالم ما وراء الطبيعة والعنف وسفاح القربى والفقر والصراع الطبقي وشوائب النظام القضائي والصحي في أميركا. كثيرٌ من عوالمها مرتبط بأهوال العيش في المدينة المعاصرة حيث الإنسان معرّض لموجات متعاقبة من العنف. لكن الحكايات عندها لا تسبق المعرفة، فهي مثلنا تراقب باهتمام طريقة تكيّف شخصياتها مع مآسيها وتخطّيها نحو مستقبل مختلف. ولا شكّ في أنها قدّمت مفهوماً مختلفاً في المعالجة الدرامية، سواء من ناحية الأسلوب المكثّف أو ضغط الزمن أو توزيع الحدث على شخوص عدة بدلاً من اقتصاره على بطل أساسي، خاصة في روايتها «الشلالات» (2004) التي تصدرت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً وحازت «جائزة فيمينا»: فمنذ الصفحة الأولى، نقف شهوداً على حادثة انتحار مدوية لشاب يختار أن يضع حدّاً لشهر العسل، يُلقي تحية ساخرة على حارس بوابة جسر مُعلّق ويجتازه ليرمي بنفسه في شلّال هورس شو.
حبكات تقارب عالم ما وراء الطبيعة والعنف وسفاح القربى والفقر والصراع الطبقي وشوائب النظام القضائي والصحي في أميركا


وفي «قربان» نفس المذاقات والإيماءات من أسلوب أوتس الذي يذهب نحو إتخامك بالألم، من خلال سكبه في مخيلتك، قطرة خلف أخرى. لن تلعب الكاتبة لعبة الغميضة، حين تصف إحدى الأمهات بـ «إوزة فقدت بركة» وهي تبحث بجنون عن ابنتها المفقودة في شوارع ريد روك: «هل رأيت ابنتي؟ صغيرتي؟ ابنتي سابيلا أشاهدها أحد؟». ثمة دائماً ما يُحاك بعناية خلف الأبواب المغلقة للبيوت المتشابهة للطبقة العاملة الأميركية. وهذا البلد الذي يتأرجح بين البوريتانية وسفك الدماء، بيئة صالحة تماماً لاختبار رؤى أوتس الكابوسية التي تلتفّ في الرواية على قضية المراهقة تاوانا براولي، وكانت قد احتلت عناوين الصحف المحلية حين عُثر عليها وقد تلطخ شعرها بالبراز وجسدها بكتابات عنصرية بعدما جرى اختطافها واغتصابها من قِبل مجموعة من البيض بمن فيهم رجال شرطة في بلدتها. لكن بعد مرور سنة تقريباً، تقرر هيئة المحلفين أنها كاذبة في إفادتها لتبقى القضية معلّقة حتى اليوم تقسم الناس حول: العرق، الطبقة، العنف الجنسي والخلل المتأصّل في النظام القضائي الأميركي. صحيحٌ أن العنف المادي والمعنوي يتمدّد ليحتل المناخ العام، لكن القارئ يجد نفسه أمام عمل روائي متمهّل حتى في بناء الأدوار، بغض النظر عن مدى تطابقه مع الأرشيف، وبدل أن يكون مُشاهداً للحدث الروائي، يُحال إلى متلصّص، أو كائن يقف على عتبة هذا الحدث، ويتجسّس على كلّ من فيه. والحدث سوف يأتي على دفعات، أو جرعات صغيرة، قبل أن تتفكك المواقع المُفترضة لكلّ من أبطال العمل، وقبل أن تفضح الظروف غير المتوقعة والمؤثرات الاجتماعية وعامل الزمن ضعف كل منهم.
تقبض كتابة جويس كارول أوتس على الأنفاس لأنها تقوم على النقص والغياب واستحالة القول إلا عبر مسالك معقّدة. جملها عارية، مينيماليّة، توحي، تقترح، تهمس، تفكّك، وتشحن الصور بمعان غير متوقّعة. وما يثير الفضول، أنها تتعمّد دائماً تخليص رواياتها من أيّ شخوص رئيسية مهيمنة، وتوزع الحياة وإن بشكل غير متكافئ على الشخصيات، وهو توزيع ذكي، بحيث لو أخذنا أي شخصية من العمل، فإنه يمكن الانطلاق منها لكتابة الرواية بصيغة أخرى.
هذه الشهية لقول المزيد والاندفاع لالتقاط الموضوع التالي، جرّت على الكاتبة كمّاً لا بأس به من النكات الدبقة، كتلك التي تقول إنها أشبه بامرأة عجوز عاشت في بؤس، ولديها الكثير من الأطفال، إلى درجة أنها لا تعرف ماذا تفعل بهم. كما أثارت سخط العديد من معاصريها مثل ترومان كابوتي الذي اعتبرها: «أكثر المخلوقات إثارة للاشمئزاز في أميركا، ومسخاً مضحكاً علينا قطع رأسه في قاعة عامة».. ومن مكتبها الهادئ في جامعة برنستون حيث درّست الكتابة الإبداعية حتى 2014، ومن ثم من بيتها الريفي الصغير، تبري أوتس طويلاً أقلام الرصاص وتواظب على الكتابة بشكل يومي غير آبهة بالأصوات التي تقول إن كتابتها هي حالة من الريمكس، فما كان يُؤخذ عليها بالأمس كتكرار، يُحسب لها اليوم كمشروع متكامل.

«سيّد الدُمى»
في مجموعتها القصصية الأخيرة «سيد الدمى» (2016) التي تُرجمت حديثاً إلى الفرنسية، تثبت لنا جويس كارول أوتس أنها لا تزال مفتونة بـ«العفن الكامن خلف واجهة الحلم الأميركي». وهذا الكتاب شبيه إلى حد ما بسهرة أمام مسلسل Stranger Things على نتفليكس، مع فارق أننا لن نستطيع ابتلاع البوب كورن، فالعنف الذي تنضح به كتاباتها عادة أصبح أكثر خفية، أشدّ فتكاً، وشخصياتها التي لم تكن تتردّد في تفجير رأس أحدهم على الحائط أو الاغتصاب أو الانتحار أصبحت ممسوسة بمرض خفي، تشكّل مسبحة من حبات الدواء ببطء.
اللافت هنا في الحبكات الدرامية أنها لا تعرض ولا تقول ولا تحكي ولا تصف بقدر ما تبدع في أخذك من مكانك لتضعك في الصورة شاهداً ومراقباً ومتابعاً لمصائر الشخصيات، ثمة صبي يتبنّى الدمى التي تركتها ابنة خالته التي أخذتها اللوكيميا. حتى يبدأ هوس غريب يدفعه لجمع دمى من نوع آخر تبدو شبيهة جداً بالبشر. هنا تقنعنا أوتس بدخول لعبة المراوغة بين ما هو مُتخيّل وما هو يقيني، وقد استلهمت هذه القصص من الفيلم الوثائقي «في الطابق السفلي» للنمساوي أولريتش سيدل، الذي صور الحياة السرية لسكان ضواحي فيينا والهوايات الخطرة التي ينغمسون فيها في الطوابق السفلية لمنازلهم. يصبح القبو هنا معادلاً للأنا السُفلى التي تخفي كل أنواع السلوكيات الشاذة وتصل إلى حد العبث المضحك. ننزل درجات السلم مع رجل سبعيني يمارس هواية غناء الأوبرا وحيداً، وآخر يستعيد أمجاد النازية ويشرب مع أصدقائه نخب «الفوهرر»، وزوجين يفاخران بما جلباه من رحلات صيد إلى جنوب أفريقيا وقد علقا على الجدار كلّ ما يمكن تخيله من رؤوس الحيوانات الرائعة... ثمة امرأة تتسلل كلّ ليلة إلى أسفل، إلى غرفة مليئة بالصناديق الكرتونية التي تحتفظ داخلها بدمى على شكل أطفال، تداعبهم وتهدهدهم بحنان الأم كي يناموا.

ترومان كابوتي اعتبرها «أكثر المخلوقات إثارة للاشمئزاز في أميركا، ومسخاً مضحكاً علينا قطع رأسه في قاعة عامة»


كل شيء يبدو على ما يرام في قصص أوتس، لكن في لحظة ما تنزلق الأرض من تحت أقدامنا وننجرف إلى رعب خالص، ليس بسبب انقضاض مباغت لزومبي أو مصاص دماء، بل لأنّ كل شخصية تذكرنا بملامح مألوفة لجار أو زميل أو بائع مكتبة في الحي. نتعرف إلى فتاة تتعرّض للإهمال من قِبل والديها، فتجد العزاء والرعاية عند عائلة أخرى، لكنها تبدأ في تلقي جرعات زائدة من الحب! ونقابل أيضاً رجل أعمال على استعداد لفعل أيّ شيء لضم مكتبة صغيرة غامضة إلى مجموعته، وسيّدة تعيش حياة زوجية هانئة تكتشف في أحد الأيام أنها موضوع رسومات يخفيها زوجها.
سقف العمل يقوم على بورتريهات مقلقة ولا يشترط بناؤه تطوّراً سياسياً عاماً، ولا يستقدم تعقيدات اجتماعية أو دينية أو ملابسات فكرية عميقة مثلاً. وبالتالي، فإن هذا الكتاب لا ينوي تأجيج إشكاليات وقضايا كبرى ولا يتجاوز البنية البسيطة والمشوقة لمصائر شخصياته. إنها كتابة الفردية، الأنا الملتصقة بحاجاتها، والمعرّضة للتصدّع والهذيان والصدمات التي تحرّف الواقع، لكنها تصلح هدية لمن لا يجد عذراً للأرق، فكل مرة تفرَغُ من قصة، تصير غرفة غادرها الضيوف ولا بدّ من إعادة ترتيبك.