ذهب حسن إلى المقهى الذي اعتاد مثقفو فرنسا الجلوس فيه والكائن في حي مونمارتر. وجد هوغو يجلس بصحبة شخصٍ عرّفه إليه بأنه الكاتب ألكسندر دوما. شاب في الثلاثينات من عمره يبدو مظهره مختلفاً عن الفرنسيين، لم يكن يشبههم. شعره مُجعد، وبشرته مائلة للسُمرة، نظر مطولاً إلى حسن.- يا الله، انظر يا فكتور. كنت أبلغك أني أريد زيارة الشرق وها هو الشرق بنفسه قد جاء إلي.
كان لـ «دوما» طبع خاص، مختلف عن ستندال الغامض، وهوغو الحالم. كان ثرثاراً يشيع في الجو بهجة وحياة. عندما كان يتحدث لم يكن يتحدث بلسانه فقط، كان يتحدث بكامل كيانه؛ يضحك فيهتز جسده كله. يتحمس فينتفض جسده كله، كان كتلة من الحيوية والنشاط. في الوقت الذي كان من المفترض أن يخبره حسن بقصة حياته كان هو من يقصّ عليه حكايته. أخبره أنه خليط غريب لأب فرنسي نبيل، وأم من الرقيق ذات أصول أفريقية تُدعَى ماري سيسيت. تمت ترقية والده إلى رُتبة جنرال في سن الـ 31، وهو أول شخص تنحدر أصوله من أفارقة الأنتيل يصل إلى تلك الرتبة في الجيش الفرنسي. ثم قهقه طويلاً وهو يقول: - والآن نحن متشابهان.
لم يفهم حسن ماذا يعني أنهما متشابهان!؟
هما مختلفان تمام الاختلاف؛ ألكسندر كاتب ذو أفكار حرة طليقة، وهو لا يستطيع حتى أن يُعبِّر عن رأيه!
- هيا أخبرني عن الشرق، عن طقسه، عن مدنه، عن نسائه، عن كل شيء فيه.
- كل ما يعنيكم هو القشرة الخارجية! ماذا تريد أن تعرف؟ الحقيقة أم ما تريد سماعه؟
نظر إليه ألكسندر باندهاش بينما واصل حسن بلهجة مائلة للعصبية.. - حسناً.. الطقس جميل ومشمس والسماء ذهبية، والمدن أسطورية ونساؤه أجمل الجميلات. هذا ما تريد سماعه أليس كذلك!؟
- أريد سماع الحقيقة لا أكثر.
- الحقيقة أن الطقس مشمس لكنه يبعث على البرد، والمدن التي تبدو أسطورية هي في الواقع سجون مظلمة، ونساؤه الجميلات قابعات في زنازينه.
أجابه هوغو: - ما يحدث في بلادكم تحت مسمع ومرأى الجميع هو دليل على غياب العدل في العالم كله.
لقط دوما من هوغو حبل الحديث: - والمؤكد أن حملة نابليون على مصر وبلاد الشام كانت دليلاً قاطعاً على ارتكابات الغرب الغاشمة في الشرق، أياً كانت دوافعه لهذه الحملة التي أطلق عليها أنها حملة تنويرية لاكتشاف الشرق! ولكنها في الحقيقة شكل فاضح من أشكال الاستعمار.
وصل ستندال، صافح الجميع ثم وجه كلامه إلى حسن:
- هيا بنا نحضر المعرض.
غادرا على أن يلحق بهما هوغو ودوما.
وفي إحدى صالات العرض في وسط باريس وقف حسن ضمن مجموعة من الجمهور مكون من الكُتَّاب والفنانين يتأملون اللوحات المعروضة، كانت لوحات مختلفة رُسِم أغلبها على نهج الرُّكوكو، فقد كان هو السائد في هذا الوقت. أغلب اللوحات كانت لنساء جميلات، مشاهد من الطبيعة، ولوحات الطبيعة الصامتة. عدا لوحتين لدولاكروا جسد فيهما فظائع ما ارتُكب في اليونان. أثارت حسن لوحة أطلق عليها «اليونان تنتهي وسط أنقاض ميسولونغي»، تتوسط اللوحة امرأة جميلة تقف بين حطام وتظهر عليها الدهشة غير مستوعبة ما حدث من دمار لمدينتها، جثة لرجل تظهر من تحت الأنقاض. وفي الخلفية جندي من جنود الإنكشارية يقف فوق جثث الضحايا مشرِّعاً رمحه بعلياء.
فكر أنه كان يمكن أن يكون هو الجندي الذي رسمه «دولاكروا»، الذي يبدو لمن يراه قاسياً ومتوحشاً. وهو في الحقيقة عبد مأمور ليس أكثر. في الكثير من الأحيان لا يعرف هؤلاء الجنود وجهتهم، ومن سوف يواجهون.
وفي لوحته الأخرى «مذبحة في خيوس» رسم مجموعة من أسْرَى الحرب اليونانيين وأغلبهم من النساء ويظهر عليهم الهلع والخوف.
التف عدد من الجمهور حول هاتين اللوحتين اللتين تصوّران العنف البشري في أبشع صوره.
اقترب دولاكروا من حسن وأشار إلى اللوحة:
- هذا ما فعله جنود الوالي المصري والسلطان العثماني في أهل اليونان.
- وربما عليك أيضاً أن ترسم ما فعله نابليون في حملته على مصر والشام. لقد كان دماره يفوق ذلك بكثير.
قهقه دولاكروا..
- حديثك ذلك يذكرني بما قصّه علينا أحد المبعوثين الفرنسيين عندما كان الكلام يوجه لمحمد علي باشا بخصوص لوحة الفنان فيرنيت التي جَسَّد فيها مذبحة المماليك. كان الباشا يرد قائلاً: «كان يمكن للرسام أن يجد نظيراً للوحته، فليصور إبادة مماليك بونابرت في مارسيليا»، ويقصد المماليك الذين اصطحبهم نابليون معه من حملته على مصر واستطاعوا أن يصنعوا أثراً قوياً وفعالاً حتى (عام 1815) حيث حدث ما يسمّى بالذعر الأبيض وهي مذابح وحشية وقعت ضدّ مؤيدي نابليون والمماليك الذين جلبهم معه وتم ذلك بالتواطؤ مع السلطات الفرنسية. وقُتل وقتها الكثير منهم.
- أعتقد أن محمد علي باشا كان على حق في قول ذلك. نعم كان على الفنان أن يصوّر إبادة مماليك بونابرت.
- عزيزي أنا ضد الظلم في كل مكان.
- لو أنك حقَّاً ضد الظلم، كنت قبل أن ترسم هذا الجندي الذي يقف بشموخ على جثث الأبرياء، بحثت عن الظروف التي أوصلته لفعل ذلك! وما إذا كان راضياً عن عمله أم لا. وأؤكد أنك وقتها كنت سترسم لوحة تمثل الظلم الذي وقع عليه هو.
ضيق دولاكروا حدقتيه كمَن دخل في تفكير عميق. التف حولهم الجمهور يستمعون للنقاش الذي دار بينهما، وبشكل أو بآخر كان يبدو كمواجهة بين الغرب والشرق. يمثل الغرب الفنان دولاكروا الذي يبدو جنتلمان في بذلته ذات المعطف الطويل وصدرية بأزرار ذهبية، وحول عنقه وشاح من الحرير. والشرق في هيئة حسن الذي يرتدي زي المحاربين ويلف عمامة فوق رأسه.
لاحظ هوغو أن المناقشة احتدّت فاقترب من حسن وسحبه من ذراعه.
- هيا بنا يا حسن، سنذهب في جولة سياحية.
وطوال الطريق كان يفكر بالجندي في اللوحة، صورته لم تغادر ذهنه، يفكر أنه أُرْغِمَ مثله على فعل ذلك، وأنه مثله تماماً لا يعرف له أهلاً أو عنواناً!
أخرجه صوت هوغو من أفكاره.
- إنها كنيسة نوتردام.

(*) رواية بالعنوان نفسه للكاتبة المصرية رشا عدلي صدرت عام 2019 عن «الدار العربيَّة للعلوم ناشرون/ بيروت»، ووصلت إلى القائمة الطويلة لـ «جائزة بوكر» العربية دورة 2020. والروائية (مواليد القاهرة 1972) باحثة ومحاضرة حرة في تاريخ الفن. صدرت لها ست روايات: «صخب الصمت» (2010)، «الحياة ليست دائماً وردية» (2013)، «الوشم» (2014)، «نساء حائرات» (2014)، «شواطئ الرحيل» (2016) و«شغف» (2017).