17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019: بدأ اللبنانيون بالتظاهر ضدّ تردّي أحوالهم الاقتصادية وفساد الطبقة الحاكمة. امتلأت الشوارع بالهتافات والأعلام، ووصل بعض التظاهرات إلى حدّ الكرنفالات التي لم تخلُ من مناوشات هنا أو هناك. كلّ هذا تحت عدسات الكاميرات والقنوات والصحف الدولية والمحلية، فما كان يحدث، لا يمسّ بالسردية اللبنانية في مُخيلة المتلقي الخارجي أو حتى المحلي عن كونه بلداً مُنفتحاً وحرّاً إلى درجة أن زعماء الفساد والأغنياء المستفيدين من هذا الفساد وحتى المتّهمين بقضايا فساد تركوا مناصبهم وأعمالهم ويخوتهم ونزلوا إلى الشارع للتظاهر ضدّ الفساد!إلّا أنّ فجر يوم 15 كانون الثاني (يناير) 2020 كسر السردية الكرنفالية للحدث الانتفاضي «الراقي» أو «البورجوازي» في نظري. بدأت مجموعات من الشباب (رجالاً ونساءً)، بلحى وبدون لحى، بحجاب وبدون حجاب، بمهاجمة مجموعة مصارف وماكينات ATM للتعبير عن غضبهم ضدّ سياسات الطبقة المالية الحاكمة، على رأسها رياض سلامة الذي دفعت سياسته بالمجتمع اللبناني إلى حدود الإفلاس وسحق طبقة محددة.


منذ اللحظة الأولى لدكّ حصون البنوك في تخيل لسقوط سجن الباستيل، ظهر تناقض وطائفية الشارع اللبناني. غابت عدسات الكاميرات الدولية والمحلية، فالحدث الآن امتلكه الهامش الفقير الواعي بخصمه المتمثّل في رأس المال، ووجوه الفقراء ليست سينمائية للتصوير ولا يمكنهم تسجيل لقاءات منمّقة مع قنوات التلفزيون. خلا الشارع مِن دكاترة جامعات وأبناء طبقات ميسورة، ولم تعد الكاميرا ترى الوجوه المألوفة لفنانين وفنانات أو حتى شعراء أو روائيين. فقط أناس غاضبون. لذا حلّ الصمت التلفزيوني والصحافي، وبدأ التنظير على وسائل التواصل الاجتماعي مِن قبل فئة مُثقفة تحتكر كلّ حدث ثوري، فتكسير البنوك ليس عملاً ثورياً بل إجرامي في نظرهم.
يصلح المشهد العبثي السابق في الشارع اللبناني مدخلاً لتقديم كتاب «المثقف وجدلية القهر والاستبداد» (دار الانتشار العربي ـــ 2020) للباحثة اللبنانية الكويتية إيمان شمس الدين. بداية، يحاول الكتاب تقديم قراءة ومعالجة للفكر، وخصوصاً الفكر الثوري الذي طرأ على ذهنية المواطن العربي مع موجة الربيع العربي أواخر 2010. لا يحجز محتوى الكتاب الإنسان بين صفة مثقف أو لا، لكنّه يهتم بكون الإنسان واعياً أو لا. فالوعي هو الفيصل. أما قراءة الكتب وامتهان الثقافة كمصدر للرزق، فلا يعنيان بالضرورة وجود الوعي.
بين دفتي الكتاب، تشير إيمان شمس الدين إلى مفهومين قد لا يكونان جديدين، لكنهما مهمّان وهما: «الفكر المستعمَر» و«الفكر المُعسكَر». أهمية المفهومين أنهما سيشكلان البناء الذي ستقدم من خلاله مفهوم «المثقف المُستبِد»، والأخير هو ما رأيناه خلال الهجوم على المصارف في لبنان. صار بعض المثقفين و«التقدميين» و«الثوار» ــ أقول «بعض» حتى لا أتّهم بالتعميم ـــ يعمل على تطييف الشارع، واتّهام حزب أو حركة بعينها وراء الهجوم على المصارف لأن الفكر الحضاري التقدمي يعني فكراً رأسمالياً في نظرهم... فكراً غربياً يشكل فيه المال المحظور الأول والأخير الذي لا يمكن الاقتراب منه.
وهنا تكتب إيمان عن الفكر المُستعمر: «هو صراع هوية بين الداخل والخارج، سواء الجغرافي أو العقائدي أو الثقافي، صراع يفقد الإنسان مقوماته الإنسانية ويضعه أمام خيارات أحلاها مُر، فالمواجهة هنا ليست مثل المواجهات مع عدو واضح، وبأدوات معلومة، بل هي هنا متعدّدة الجبهات، ومختلفة الأدوات، تتطلب دراية لا رواية فقط. نتوقف عند الدراية أي الوعي، حيث عرف اللبنانيون الفقراء عدوهم وتوجهوا إليه مباشرة، فلماذا كل هذا الخوف من الوعي، أو من الحدث؟ هل لأن مُثقفينا الثوريين كما يكتب حميد دباشي صاروا تحت قيد صناعة «أيقونات» ثورية مُنمقة يجب أن تقدّم للمستعمَر السابق كوننا حضريين مثله نطالب بحقوقنا المنهوبة، ونحن نرتدي آخر صيحات الموضة الغربية»!
ولماذا الدفع بماكينة بطش الدولة اللبنانية والتعتيم المتعمّد عليها مِن قبل «الثوار» المُفترضين منذ أكتوبر؟ هل لأن الفقراء محطمي البنوك من أنصار «حزب الله» وهذا غير صحيح؟ أم لأن القادمين إلى صدارة المشهد يملكون القوة أي أنهم سيعيدون بناء سردية خاصة بهم لتعريف العالم الغني وثوريي الشاشات بأنفسهم بصورة جديدة؟ تشير إيمان في كتابها إلى الارتباط الوثيق بين «المعرفة والقوة»، وكيف أن المعرفة صارت ميداناً لعملية عسكرة من أجل توحيد سردية خطاب المُنتصر القوي على أيّ خطاب معرفي آخر.
ولهذا استعان المثقفون التقليديون والثوار حسب الظروف بماكينة الدولة كي تعيد لهم كفة القوة، وتمكّنهم أجهزة الأمن من السيطرة على الشارع والظهور مرة أخرى. هذا موقف يربح فيه كِلا الطرفين: أولاً الدولة ومصارفها وأجهزتها حصلت على تصريح من قوى ثورية بالبطش، فحفظت صورتها ومصالحها، والمثقفون على الجانب الآخر أزاحوا هؤلاء الفقراء غير المتحضرين لفرض خطابهم الأوحد واحتكار الخطاب الفردي والاجتماعي على السواء وتحديد المطالب التي تحتاج لها الدولة اللبنانية، فهم كمثقفين ثوار صاروا أوصياء على المجتمع وأدرى بمصالحه.
وبهذا تكون اكتملت صورة إيمان شمس الدين عن عسكرة المعرفة عبر ممارسة الإقصاء لكلّ الأطراف الأخرى عبر التحالف مع الجهات النافذة في الدولة من أجل فرض قراءة أحادية للمشهد الثوري/ الثقافي يتم تمريرها عبر خطابات عاطفية وشعارات طقوسية بشكل مكثف. (لبنان للكل، كلن يعني كلن... إلخ).
معالجة الفكر الثوري الذي طرأ على ذهنية المواطن مع موجة الربيع العربي


وبعد اكتمال صورة العسكرة والاستعمار الفكري، نجد المثقف المُستبِد يطلّ علينا برأسه بداية بتوزيع الاتّهامات حسب وقوعه في أي معسكر. فلو كان مع المعسكر الغربي الليبرالي، سيقوم بشيطنة المعسكر الديني واليساري. ولو كان مع المعسكر اليساري، سيقوم بشيطنة المعسكر الديني والليبرالي، ولو كان مع الإسلامي سيكفّر الجميع. لكن هذا لا يمنع أن يكون للمثقف موقف ناقد وحازم تجاه خصومه، على عكس فرضية إيمان شمس الدين التي توصي بحيادية المثقف في كتابها، بعيداً عن كل عصبوية، وهذا في نظري فكرة مثالية. وكان يمكن أن تسأل: متى يلعب المثقف دور الحكم بين المتخاصمين؟ ومتى يدخل اللعبة السياسية/ الثقافية كطرف وخصم؟
لكن بما أنّه أُعطي مبرّر لفكرة الحيادية التي طرحتها الكاتبة، فالمثقف العربي صار مُغترباً عن واقعه، ومنقطعاً عن تاريخه، وغير مُلمّ بذاكرة بلده الثقافية وليس منطقته ككل. يتعايش على مسخ الهويات، ويرفض أي أصالة فكرية تذكره بالماضي الخاص بنطاق دولته. صار المثقف في أقصى طموحه يريد الذوبان مع المجتمعات الغربية. لا يهم في أي مرتبة سيكون، نداً، أم شريكاً أم مُستعبداً. في الغالب، كثيرون لا يعرفون الجواب، لكن ما حدث ويحدث وسيحدث وبقراءة كتاب «المثقف وجدلية القهر والاستبداد»، نكتشف أننا أمام أزمة جديدة تتجلى في بلد ذي تركيبة سكانية شديدة التنوع. مع هذا، تسيطر عليه مجموعة من وكلاء للغرب والشرق لا يعرفون أي أصالة، ولا يعون للأرض من أقدامهم. لا تتعجب... إنه لبنان.
أخيراً، إن تأطير الأحداث الثورية في قالب من السِلمية المُصطنعة، والتحالف غير المباشر مع ماكينة البطش للدولة، ومُغازلة الغرب بوعي أو بدون وعي، ونزع كل راديكالية من قِبل الشعب لصالح حِفنة إعلاميين ومحللين وسياسيين، لن تؤدي إلى تغيير حقيقي. بل إن هذا الإجراءات وطريقة التفكير ما هي إلا فعل «تهميش» وليس «تهميش قلة» بل «تهميش الأغلبية». وإن كان البعض يخشى الحرب الأهلية، فجرب أن تخنق غضب الفقراء وسترى الجحيم قبل أن تحل عليك الآخرة. أخيراً، فإسقاط مقتطفات مِن كتاب «المثقف وجدلية القهر والإستبداد» ما هو إلا لتوضيح وضبط بعض المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالمثقف والثورية التي صارت تفقد معناها مع كل تجربة عربية ثورية حقيقية للفقراء والهامش. ولحسن الحظ أن الكاتبة تنتمي إلى البيئة اللبنانية وتدركها، وقد تركت في كتابها حزمة كبيرة من المفاهيم حول الحرية والأمة والحزب والنخب والإرهاب والقيم والحرية... من منظور إسلامي يحتاج في نظري لاشتباك فكري أكبر مع الكتاب لإعطائه حقه في السرد والنقد.