كتاب «رامية بتاريخها وتراثها وعلاقاتها من الجذور حتى الحاضر المنظور» للكاتب عبد الحميد حيدر (أبو حمزة)، قدّم له الأستاذ المربي حسن دياب الإسماعيل الذي شبهه بمارسيل بروست في قوة ذاكرته وقدرته على استرجاع الزمن الماضي الضائع في كتابه «بحثاً عن الزمن الضائع». كما شبهه بأسامة بن منقذ في كتابه «الاعتبار» الذي روى سيرته الذاتية وقتاله الصليبيين (ص 11-12). كتاب طبعة خاصة (256 صفحة)، من يقرأه، سيجد سيرة ذاتية لقرية رامية (قضاء بنت جبيل في محافظة النبطية) بأحداثها وتواريخها الخاصة، وفي بساطتها وتقاليدها وعاداتها وطبيعة علاقات الناس في ما بينهم. يعيش الكاتب مع قريته بالتواضع السردي، تاركاً فيها بصمات جهاده طيلة سني المقاومة منذ عام 1948، وهو المعاصر للنكبة والنكسة وما تبعهما من ويلات مرت على الأمة منذ بدء الصراع ونشوء المقاومة الفلسطينية وصولاً إلى المقاومة الإسلامية في لبنان.يأخذنا الكاتب إلى الواقع، أبعد من المكان والزمان، إلى تاريخ سكن وجدانه في ذاكرة القرية فيُدخلنا إليها من بابها الواسع، لنتعرّف إلى ما لم يكن في ذاكرتنا نحن الأجيال التي تلت جيله وما بعد ما بعد جيله، ولنحسّ بنبض العالم كلّه يخفق خلف باب رامية والقرى المحيطة بها، كأنّها تقف الآن أمامنا تحدثنا عن حدودها وقلاعها وحصونها وعلمائها (ص 15-18). يعرض عناء أهلنا وأجدادنا في القرية والقرى المجاورة، ليبيّن قيمة العمل والجهاد والأرض، ليبين كم دُفع ثمنها من عرق جباههم (ص 160- 162). يعود بنا إلى الأمس البعيد والقريب معاً، إلى زمان كان فيه فداء الناس بالمال والممتلكات يعدّ كرامة ومرجلة وفضيلة تُترك للتاريخ (ص134- 137).


كتاب يذخر بصدق تراب الأرض الذي لا يغش ولا يُغش، فكانت أحداثه وأخباره ونوادره مؤثّرة، وتشبهه بكلّ صورة وحرف وحكاية ووجع. يذكر السياسة والمواقف والولاء في جبل عامل وتأثر أهله بالعمل المقاوم في المنطقة منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين، بدءاً من المقاوم ناصيف النصار (ص 18) ومؤتمر وادي الحجير بقيادة السيد عبد الحسين شرف الدين والمقاومين أدهم خنجر وصادق حمزة (ص 84) مروراً بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكيف أن العرب دفنوا إنجازاته قبل دفنه (ص251- 175) وصولاً إلى أبي عمار وشعاره «البندقية وغصن الزيتون» (ص 239).
يسلّط العمل الضوء على دور النساء في ذاك الزمن كفاعلات في المجتمع ويُظهر دورهنّ الإيجابي، ويرى هذا البعد التاريخي لدور المرأة على أنّه من صميم المحافظة على الذاكرة الجماعية للمكان المرتبط بالزمان حتماً. ويعطي مثالاً عن زينب جرادي التي كان لها باع طويل في إبداء الرأي ووضع الحلول للأزمات، فكان لها الدور الفعّال في إقناع الحاكم العسكري في تبنين بأخذ الفدية عن عدد من المقاومين من رامية الذين حكمت عليهم سلطات الانتداب الفرنسي بالإعدام لرفضهم التقسيم والانفصال، فذهبت بنفسها لدفع مئتي ليرة ذهبية مقابل صك براءتهم (ص 87 و88).
ونظراً إلى أهمية الذاكرة الجماعية في تشكيل الهوية وتحديد عناصر الانتماء والارتباط بين أفراد المجتمع، فإنّ البعد التاريخي يكتسب أهمية خاصّة في هذا الكتاب وفي إبراز دور أفراد المجتمع من نساء ورجال. ويسرد الكثير من العلاقات التي كانت تسود بين أهل قرية رامية والقرى المجاورة، وكذلك «العونة» وصنع المونة على أنواعها والتبادل والتزاوج بين القرى وإقامة الأفراح والدبكة على صوت المجوز والقصب من دون أن ينسى ذكر أهم مشاهير «الدبيكة» في رامية وعيتا الشعب وطربيخا وصلحا وبيت ليف (ص 187- 191)... وكذلك العلاقات بين أهل قريته رامية وقرى فلسطينية أخرى مثل حرفيش التي يقول بأن أصل سكان أهل رامية منها (ص 20). ولا ينسى ذكر سهرات الشتاء وقراءة السير الشعبية (ص 171). إنّ التذكر الفردي في الكتاب هو تعبير عن الهوية الثقافية الجمعية، وهو نقل تواصلي نتيجة الذاكرة التواصلية الفعّالة بالرموز الثقافية. «رامية» كتاب يدخل في الانثروبولوجيا الشعبية من خلال وضع الذاكرة الجماعية في التواصل بين القديم والحديث، موثقة وغنية بالنقل التواصلي القبلي والبعدي.
توثيق للتراث والموروث ليبقى حياً في الذاكرة العامة


يبرز الكاتب الحنين للمكان، للروح والعطر والذاكرة، حنين لجماعات ولصداقات عابرة تركت آثارها ربّما بشكل أعمق من صداقات دائمة، حنين للوجوه التي ما زال الكاتب يذكر ملامحها سواء كانت وجوهاً طيبة أم حاقدة. تركيز دائم على المكان وربطه بالأشخاص، كأنّه يقول من خلال كلماته تأكّدوا من نبضات أماكنكم قبل أن تتركوها، فهي تشعر بفقدكم وغيابكم عنها.
في الحنين للمكان انتصارٌ على بعد المسافات؛ فكم من أماكن ابتعدنا عنها أو أُبعدنا ولكنها بقيت في قلوبنا شاهدة على حنيننا لها، وكم من أماكن ظلّ الحنين يشتدّ إليها حتى ونحن بين أحضانها. فالأماكن كالبشر؛ لها خصوصياتها وأحضانها، وهي ذاتها التي تزرع فينا القدرة على تفقّد قلوبنا حين نفقدها ذات غفلة، أماكن بعواطف بشر تهبك حميمية تشعر بها صارخة كلّما زرتها أو مررت عليها.
وما كلمة الإهداء إلا دليل على روح انتماء الكاتب والموثِّق سيرة قريته رامية التي تتشابه وكثير من قرانا وحكاياهم. لقد جسّد في هذا الإهداء مهمة مؤسسة المحفوظات الوطنية وفيه أنه «اكتمالاً للرؤية وتوثيقاً للتراث والموروث ليبقى حياً في الذاكرة العامة المستمرّة عبر الأجيال».

* دكتوراه في العلوم الاجتماعية