تنتمي سهام بوهلال إلى فئة الكتّاب الحالمين، الذين ينتظرون من المستقبل أن يحمل إليهم وإلى العالم ما يسرّ. غير أن الكاتبة المقيمة في باريس تحلم بعيون مفتوحة، بمغرب مختلف، لا يضطرّ مواطنوه إلى المغامرة بحياتهم من أجل المجهول، عبر ركوب قوارب الموت والرغبة في الوصول إلى القارة العجوز، حيث عالم آخر يبدو لهم أفضل. تؤمن بوهلال التي تعدّ أحد الرموز المعاصرة للأدب المغربي المكتوب بالفرنسية بأن الأدب يمكن أن يغيّر ويترك أثراً في المتلقّي، لذلك تأتي أعمالها مبطّنة بالكثير من الرسائل السياسية والاجتماعية والفكرية، هي التي سألناها إن كان بإمكان الرواية أن تصير لافتة احتجاج، فأكّدت ذلك. تملك صاحبة «أحلام ليلة بربرية» تصوّراً عميقاً عن الكتابة، ترجمته إلى أعمال أدبية وفكرية مهمّة. وقد حظيت قبل سنوات بجائزة «النجاح للمرأة» من «الجمعية الأورومتوسطية في فرنسا». كما أن أعمالها احتلّت مراراً قوائم أهمّ الجوائز الفرنسية كجائزتي «ألان بوسكيه» و«ماكس جاكوب». ولدت سهام بوهلال في مدينة الدار البيضاء، وهي تنحدر من عائلة فاسية، غير أنها انتقلت إلى فرنسا منذ بداية الثمانينات، حيث حصلت على دكتوراه في الآداب من «جامعة السوربون». فضلاً عن أعمالها السردية والشعرية وترجماتها، أصدرت كتباً مهمّة تعيد التنقيب في التراث العربي، وتقدّمه لقارئ الفرنسية بمقاربة معاصرة. يدور هذه الحوار حول مشاغلها بين الكتابة والترجمة، منها ترجمتها الجديدة لرواية محمد زفزاف (1945 ـ 2001) «محاولة عيش» (1985)، وترجمات لنصوص عربية أخرى، إلى جانب روايتها «ويتجسّد غيابك» ورواياتها السابقة، وعلاقتها بالمناضل ادريس بن زكري والبروفسور جمال الدين بن الشيخ، وقضايا أخرى عن الحبّ والأمّ والوطن.
سهام بوهلال: البحث في التراث هو إغناء لأعمالي الأدبية شعراً ورواية


لنبدأ من آخر ما أنجزتِه وهو ترجمتك الجديدة لرواية محمد زفزاف «محاولة عيش» إلى الفرنسيّة. الرواية متداولة في المغرب بشكل كبير، خصوصاً بعد إدراجها ضمن البرنامج الدراسي لطلبة الثانوي. ما الذي جعلك تختارين هذه الرواية تحديداً من بين أعمال أخرى لزفزاف؟ أسألك وأنا أعرف أنك من المترجمين الذين يعتمدون في اختياراتهم على المزاج الشخصي والميل الذاتي.
ــــ لقد قرّرتُ أن أترجم لزفزاف بطريقة عامة عندما اتّضح لي أن القرّاء من الشباب لا يعرفونه، حيث كنت أتردّد على جلسات «البوك كلوب» كلّما حضرت البيضاء، مع ثلة من الشباب في مقهى كازابلانكا الذي أقفل أبوابه للأسف في السنوات الأخيرة. كنت جدّ معجبة باختيارات الشباب للكتب المفتوحة للمناقشة، ولكن في المقابل كان يؤلمني أن نناقش نيتشه ولا نعرف زفزاف مثلاً. ففي هذه الحلقات، ولدت فكرة ترجمة زفزاف إلى الفرنسية. للأسف الكلّ يعرف أن الكتب المترجمة إلى لغة غربية يزيد الإقبال عليها، كأننا ننتظر ختم جودة من الغرب لكي نقرأ كتابنا. حينها أخذت موعداً في المكتبة الوطنية لعرض مشروع ترجمة مجموعة من روايات محمد زفزاف، في محاولة لتكريمه وتعميم الفائدة. كان اختياري لــ «محاولة عيش» أمراً واضحاً. عدا عن تنديدي، مثل كتّاب مغاربة آخرين من عشّاق زفزاف، بالمنع الذي تعرّضت له الرواية، كان من الضروري البحث عمّا أرعب المتطرفين في هذه الرواية القصيرة جداً. مثلاً بعد مرور سنوات على قراءتي لـ «الخبز الحافي» سرّاً، اتّضح لي أن النسخة العربية وترجمتها تم منعهما لأسباب ربما لا تتعلّق بلغة محمد شكري فيها، ولكن في نظري لتجسيد الفقر الذي يعمّ البلاد وتعريته. فأن يأكل أبناء البلد دجاجة ميتة هو أرهب من أن يتكلموا لغة ساقطة. كذلك الأمر في «محاولة عيش» التي تختلف لغتها تماماً عن لغة «الخبز الحافي»، إلّا في تجسيد الفقر وقهره لأبناء البلد. مثلاً عندما سيتهافت طفلان جائعان على بقايا سندويش رماه جندي أميركي، غير آبهين بأن فيه لحم الخنزير.

كيف تتوقّعين أن يكون تلقّي النسخة الفرنسية، سواء لدى القارئ الفرنسي أو العربي الذي اعتاد القراءة باللغة الفرنسية؟
ـــ والله لا أدري. القارئ المغربي بالفرنسية الآن لم يعد فقط ذاك الذي ينحدر من أسر برجوازية فحسب. هناك شريحة من الطلاب الذين يتوجّه هذا الكتاب إليهم أيّاً كانت طبقتهم الاجتماعية. قسم الأدب الفرنسي سيجد في هذه الرواية لغة زاخرة، قصة تفتح آفاقاً في البحث الأدبي وحتى جزءاً منسياً من تاريخ المغرب. وفي الوقت نفسه، هناك توثيق لما سأسمّيه سيرة الفقر في بلدنا، والصعوبات التي تلقاها الطبقة الكادحة لإيجاد لقمة عيش، وتكريس عادات وتقاليد تشدّ الخناق على المرأة، وما زال معمولاً بها حتى الآن. على الصعيد السياسي، نلتقي بشخصيات نعرفها كلنا ولا تخفى عنا طرقها في ابتزاز المواطن الفقير مقابل رخصة شرعية أو غير شرعية يغمض عنها العين. تفتح «محاولة عيش» نقاشاً هامّاً حول هامشية جزء من المجتمع، عبر طرحها قضايا العدالة الاجتماعية، والحق في السكن اللائق وفي مجالات شتى.

لنعد إلى آخر رواياتك «ويتجسّد غيابك» التي اخترتِ أن تصدر عن دار جديدة اسمها «يوفانا» ويديرها شابان. ألم تخافي المغامرة بكتابك أنت التي سبق لك أن نشرت لدى «دار غاليمار» و«سوي» و«آكت سود»؟
- طالما نتحدث عن الشباب وإعطائهم الفرص والإنصات إلى أفكارهم والاحتفاء بها، حيث إنهم ينظرون إلى العالم بعيون ليست في رؤوسنا، ولم تشاركنا نفس ثقل التاريخ، ولكن من منا يعطيهم الفرصة والثقة فعلاً؟ من هنا جاءت فكرة قبول المشروع. كان العمل ناجحاً ولكن تبقى المشكلة في التوزيع داخل المغرب، وتحديد ثمن يناسب القارئ المغربي، وهذا ما لا تستطيعه دار نشر مبتدئة. ويرجّح القول إن القارئ المغربي نفسه الذي يشتري كتباً قادمة من الغرب بأثمان باهضة، لكتّاب لا داعي لذكرهم، يتورّع عن شراء رواية عن دار نشر أقل شهرة أو كاتب لم يقرأوا له قبل. المشكلة تكمن في وجود جوائز أو لا، أياً كانت دار النشر. مثلاً «الكتاب الموشّى» لأبي الطيب الوشّاء البغدادي، الذي صدرت ترجمته عن «دار غاليمار»، وتطلّب سنوات من البحث والكدّ، لم يلاقِ نجاحاً في المغرب، ولا نجده في الجامعات، بيد أننا نجده في جامعات أميركية، إذ يعدّ من المصادر المهمة لمعرفة المجتمع البغدادي القديم تحديداً، والحضارة العربية الإسلامية عموماً.

حسناً، لنعد إلى الرواية، إنها تحتفي بتيمة الغياب، لكن بشكل مختلف. تبدو للوهلة الأولى ذات طابع عاطفي، حيث الانتصار للحب، خصوصاً بعد موت المحبوب، لكنها في العمق رواية سياسيّة. أحب أن أعرف السرّ وراء هذا المزج بين حقلين سرديين مختلفين. هل الحب هو الجانب الحلو الذي يغطّي مرارة السياسة؟
ـــــ السياسة تشبه الحب في كثير من جوانبه وأحواله، ليس فقط في مرارته، فقد قيل قديماً: «الحب حلو لا تعدله حلاوة، ومرّ لا تعدله مرارة»، و«الحب أعزّك الله أوله هزل وآخره جِدّ»، والسياسة كذلك في أحيان نادرة، فمن الفكر أو التدبير السياسي ما يطرب غاية الطرب، ومن رداءته ما يغمّ ويحزن وتقوم له القيامة. كلاهما يبعثان في الحياة أماناً وفرحة، أو غضباً وإحساساً بالظلم، يؤدي إلى الثورات والانتفاضات وغيرهما عبر تاريخ الإنسانية. ورواية «ويتجسّد غيابك» معجونة بأحاسيس قوية ومرارات، بحب وبعنف وبعطف، مكتوبة بالدم واللحم والشرايين. الأجساد فيها مندفعة في الحب، في الرقص، في الموسيقى والشعر وفي الإبداع. تحاكي جسد اللغة التي هي إثبات لحريّتها ووسيلة للتعبير عن هذه الحرية والدفاع عنها. الغياب حاضر بشدّة لأنه هو المحرّك الرئيسي لذاكرة القلب والجسد والفكر. يحمل في طياته روائح الحب والنسمات البحريّة، يحيي الآمال بمستقبل أفضل، الحلم بالعدالة، بخبز وحليب للجميع، بمجتمع له حظّ من كل الثقافات التي تكوّنه والتي هي خارجة عنه، بغدٍ جميل لأبناء الوطن، لنسائه، لشبابه. الحلم بمغرب لا يضطرّ أهله لركوب زوارق الموت.
تفتح «محاولة عيش» نقاشاً هامّاً حول هامشية جزء من المجتمع، عبر طرحها قضايا العدالة الاجتماعية


الوقوف عند سنوات الرصاص في المغرب، ثم العودة إلى إدريس بن زكري المناضل السياسي، والتركيز عليه كدعامة للرواية، هل مردّه الحنين إلى زمن أيديولوجي معيّن؟
- أن يكون لك الحظ في معاشرة رجل من عيار إدريس بن زكري وتلقّي الحب والوفاء منه، ولا يفضي إلى عملية تاريخ وتوثيق، يكون من الوضاعة وعدم الوفاء والأمانة. كان طبيعياً أن أتوقف أولاً عند تجربته المريرة في السجن وفي درب مولاي الشريف بكلماتي أنا، وما تلقيته منه سواء في كلامه أو صمته. وبات من البديهي أن يكون شخصية داعمة للرواية. ليس ذلك حنيناً إلى زمن ماض لم يترك لنا سوى الخسارات، بل تطلّع إلى مستقبل أفضل كما كان يريده هو للمغرب. فهو قد حاول قصارى جهده أن يطفئ سنوات الجمر، وأن يطوي ملفاً ذا جروح عميقة. كان يؤمن بقضيته ويحملها بقوة، قوته الهادئة كما هو معروف عنه. الرجل كان يريد للمغرب أن يتقدّم إلى الأمام، أن يجد استراتيجيات جديدة ورائدة لإعادة بناء الدولة بناءً يعود على الوطن بالإنصاف والوفرة. لم يكن يعتقد قطّ في عمقه أن سنوات الجمر سوف تطوى صفحاتها، بل عمل على فتحها وإعطائها الكلمة أمام المغرب كله، وأمام العالم. فقد تم فتح الملفات وتوثيقها كتابةً وتصويراً. وبعد ذلك، تم تحرير توصيات من شأنها أن تنهض بحقوق الإنسان في المغرب. كان يرى المستقبل من دون أن يفوته أن الجمرة لا تنطفئ تماماً.

هل تؤمنين بأن الرواية يمكن أن تكون لافتة احتجاج؟ هل تتشبثين بالوظيفية النقدية للأدب وباستمرار قدرته على تفكيك التاريخ والمجتمع والبنى الفكرية؟
- إنها لافتة احتجاج عريضة وطويلة. أؤمن بأدب قريب من الناس، له دراية بمشاكل المجتمع ومشاغله، بأدب سياسي بالمعنى النبيل للسياسة. يفكّك التاريخ ويتعلّم منه كيف يقفز إلى الأمام، كيف نتجنب ونعالج مآسي المجتمع. ينصت إلى الآخر ويصيغ مخاوفه وأحلامه بأوفى طريقة ممكنة. يضع الإصبع على ما يؤلم ويفتح آفاقاً واسعة للتنظير ولجديد الفكر ويطرح قضايا مجتمع معين في بلد معين، مع إدماجها في القضايا الإنسانية عامة. الرواية قصة موت يفتح على الأمل. طرحت «ويتجسّد غيابك» قضايا متنوعة أحياناً بطريقة تفاجئ بكونها مباشرة جداً، وأحياناً بسبر داخلي انطوائي. وطبعاً الطرحان مقصودان. كيف نكون واقعيين إذا لم تكن لدينا جرأة القول؟ وكيف سندافع عن قضية الفقير أو المرأة أو المعتقلين أو غيرهم إذا لم نكن واضحين؟ وكيف سنفهم الواقع إذا لم نتعلم هبوط الأودية وقطع الصحارى ولم نعرف كيف نأخذ المنعرجات وكيف نتسلق الجبال، ونؤاخي الأشجار ونكلّمها، ونستنشق البحر أو نفاجئ انفتاح الزهرة؟

تبدو الأنفاس التراثية حاضرة في الرواية، ألا تستطيع سهام بوهلال الروائية أن تتخلص من سهام بوهلال الباحثة في التراث؟ أم أنك ترين في ذلك إثراءً للتجربة الأدبية؟
- الكاتب لا يتخلّص من جزء منه أو من عمق فيه. هو يكتب بكلّ ما فيه، وهذا أضعف الإيمان. طبعاً أرى أن البحث في التراث هو إغناء لأعمالي الأدبية شعراً ورواية. وهذا شيء يأتي بطريقة طبيعية، إذ لا أفكر عند الكتابة في أنه يلزمني أن أرجع للكتب التراثية، لأن فكرتها حاضرة فيّ ككاتبة وكإنسانة. هي صارت من طبائعي التي لا أستطيع أن أنسلخ عنها، ولأن الكتب التراثية مفعمة أيضاً بطريقة مختلفة بالقضايا الإنسانية والفنية والتاريخية وغيرها. وكما قلتُ مراراً: لكي يكون لي مستقبل يجب أن أفهم الماضي. ربما نقول ما شأن الشيخ المسكين، الذي يجرّ عربته في الخامسة صباحاً في البيضاء وعليها قناني البلاستيك أو نفايات أخرى يتمنى أن يبيعها في اليوم ويرجع بقوت يومه، بالتراث القديم؟ الفقر اليوم يشبه الفقر سالفاً، ليس هناك فقر راقٍ وفقر بئيس، كلاهما يحطّ من قيمة الإنسان ويجلب عليه المذلة. انظر إلى شخصيات «محاولة عيش» لزفزاف مثلاً، وكلّها فقيرة، كيف تتعرض للؤم «المقدّم» مثلاً وجشعه. وتيمة الحب تجد مرعى خصباً في التراث القديم، في الأشعار وقصص العشاق والمحبين، وقد أُلّف فيها ما لا يعد ولا يُحصى من الكتب، فلم نطرحها جانباً؟ أليس الحب هو هو، ونشوته هي هي.

أؤمن بأدب قريب من الناس، يفكّك التاريخ وينصت إلى الآخر ويصيغ مخاوفه وأحلامه


عنوان الرواية مقتطف من جملة شعرية للنمساوية إنغبورغ باخمان عاشقة الشاعر الألماني بول تسيلان. هل كان اقتباس العنوان بمثابة تميمة تبارك قصة الحب التي تحفل بها الرواية؟
_ «ويتجسّد غيابك» هو عنوان بالأحرى مستوحى من جملة شعرية لتلك العظيمة، الشاعرة، الروائية، الباحثة، صاحبة كرسي مادة الشعر في الجامعة، المدافعة عن حقوق المرأة، بغضّ النظر عن علاقتها الحزينة ببول تسيلان التي أودت بها إلى حتفها. أنا أردت بهذا العنوان إبراز أن الأمل مكوّن أساسيّ للحب في الحضور أو في الغياب. فإن كان البيْن يفرق الأجساد، فللحبّ سراج منير يُشعله في كنه الروح. الحبّ لا ينقطع بموت المحبوب.
الحب الحقيقي لا يحتاج إلى تميمة ولا إلى شيء يباركه، بل إنه هو التميمة التي تحمي الكون من الخراب والاندثار. عالمنا لا يطاق إلا بإمكانية الحب.

معظم الكتب التي قمت بترجمتها تنتمي إلى التراث العربي، إلى القرون الوسطى تحديداً. هل جاء هذا الاختيار امتداداً لدراستك الجامعية أم أن هناك أسباباً أخرى؟
- نعم هو امتداد طبيعي لدراستي الجامعية، وهاته الأخيرة أتت من هاجس ماضي الحضارات، والحضارة العربية الإسلامية بالذات، والذي كان وما زال يسكنني. كما قلت سابقاً أرى أن لا مستقبل لي إذا لم أفهم الماضي، أفهمه، أسائله، أؤوله، أجوب فيه، أزعزعه و أبتعد عنه. نحن المنتمين إلى هذه الحضارة لدينا مشكل مع الزمن، لا نعرف لغوياً سوى الماضي والحاضر والمستقبل. وما دامت لدينا لغة قوية عريقة، ننسى أحياناً أن هناك أزمنة أخرى وإمكانيات أخرى وطرقاً مختلفة للتعايش. أنا أبحث في تجاعيد اللغة ومنحدرات الحروف وسهولها وجبالها وأشجارها و أنهارها... عن عالم يستيقظ فيه الموتى ويقولون: ها قد غفرنا لكم، فافعلوا خيراً.

تقولين عن المفكر المغاربي الراحل جمال الدين بن الشيخ: «لقد علّمني كل ما أعرف». من النادر أن نسمع من كاتبة أو كاتب عربي جملة كهذه. هل تراجعت ثقافة الاعتراف والتقدير في أوساطنا الثقافية العربية؟
- الاعتراف شيء جميل، لا تكتمل شخصية الإنسان من دونه بالنسبة إليّ. إنه إحساس رقيق يجعلك تحافظ على الكنز الذي وضع بين يديك ويساعدك على الاستمرار في الطريق. أقول إن جمال الدين بن الشيخ علمني كل شيء، لأنه علمني كيف أصطاد السمك، ولم يهبني سمكة فقط. الحديث عنه مؤلم. لقد مر أربعة عشر عاماً على رحيله، لكنه حاضر دائماً لديّ لأنه علمني على طريقة الشيوخ. أعود دائماً إلى توجيهاته ونصائحه وحتى لفورة الغضب فيه عند عمل غير مكتمل. هذا رأيي. ولا دراية لي بهذه النقطة على صعيد عام.

قلتِ مرة: «أحببتُ اللغة العربية من أجل أمي». كيف ذلك؟
- هل هناك شيء لا نفعله من أجل الأم؟ وأي أم؟ خريجة «القرويين»، تلميذة الباحث أحمد شفيق والمؤرخ عبد الهادي التازي، عاشقة للغة العربية. كانت نافرة من لغة المستعمِر كما كانت تقول وتفعل. كانت تحيطني بنفحات لغة الضاد، وتغني برجع قصائد الحب وحكايات العشاق، وتترنّح وهي تلقي كما كانت تفعل أمها قبلها: «لم يخلق الرحمن أحسن منظراً/ من عاشقين على فراش واحد/ متعانقين عليهما حلل الرضى/ متوسدين بساعد وبمعصم/ وإذا تألفت القلوب على الهوى/ فالناس تضرب في حديد بارد»، وغيرها من روائع الشعر العربي القديم. وكانت تحفظ منه ما لا يعدّ ولا يحصى. تنشده بالقلب والجسد والعيون الملأى والصوت الجهوري والآهات. فكيف لا ينبت في فؤادي حبّ لغة سقتنيها أمي في أبهى الحلل؟

لنتوقف عند عناوين بعض كتبك: «أمازيغ أو سفر في الزمن البربري»، «الأميرة الأمازيغية»، «أحلام ليلة بربرية». أسألك هنا عن سرّ الانشغال بالمكون الأمازيغي؟
- أنا أحترم فيَّ الأصل الأمازيغي، وأبحث عنه بجهد جهيد. هذا الأصل الذي تفرّعت عنه جذور كثيرة تكاد تنطق. من منا لا يحب أن يملك لغة ثانية أو ثالثة تدخله في مناخات جديدة، تتحف نفسه بألحان أخرى غير تلك التي ألفها؟ من منا لا يطربه الحاج بلعيد، إيزنزارن أو رويشة أو الشريفة ومن لم يرقص على غناء تحيحيت أو تشينويت؟ المكون الأمازيغي بحضارته العريقة، بشعره، وزرابيه، وحليّه الفضية المعروفة في كلّ مكان وطبخه وآملو وزيت أركَان... لم ندرك بعد مدى غنى المكوّن الأمازيغي، ومدى أهميته للدفع بوطننا إلى أرقى الدرجات على الصعيد العالمي. من ينصت إلى محاضرات طلاب شعبة الأمازيغية في «جامعة ابن زهر» في أكادير مثلاً، تحت إشراف الدكتورة ليلى الرهوني، سيضرب برجله طرباً لما يتعلمه، رغم أن الطريق مازال طويلاً لأن معظم المراجع المعتمدة هي لباحثين أجانب. واختلاساً لجملة من صديق عزيز: «إنني كلّما وطئت أرض الوطن لا أشك بأنني أمازيغية، بيضاوية، رباطية، فاسية، دكالية... مغربية عربية».