بقي كتاب «آلام الحلّاج» ( La Passion de Hallaj) الذي أنجزه المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون (1883ـــــ 1962)، بطبعات منقّحة، قرناً كاملاً خارج اهتمام المكتبة العربية، على الأرجح نظراً لضخامته وصعوبة ترجمته، إلى أن تصدى لهذه المهمة المعقّدة شخص يحمل الاسم نفسه، هو الحسين الحلّاج، ترجمةً وتحقيقاً. هناك من يعيدهما إلى شجرة نسب واحدة، رغم اختلاف المكان والمسافة، إلا أن طريق المعرفة لطالما كانت مفتوحة ما بين بغداد ودمشق: قوافل رحّالة ومخطوطات وورّاقين. بصرف النظر عن هذه المفارقة، فقد صرف مترجمنا 21 عاماً في تحقيق هذا العمل الموسوعي، وها هو يرى النور أخيراً، بطبعة أنيقة تحمل دمغة «دار نينوى» في دمشق. أربعة أجزاء تنطوي على جهد استثنائي في توثيق حياة الحسين بن منصور الحلّاج (858- 922)، أحد أشهر المتصوّفة العرب، الذي انتهى مصلوباً في إحدى ساحات بغداد، زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله، بتهمة الهرطقة والإلحاد والزندقة. رواية تعذيب الحلّاج ستبقى لطخة مظلمة في التاريخ السياسي الإسلامي، لكن نصوصه الروحانية ستتجاوز محنته الجسدية بعد قرنٍ على إعدامه، وستبزغ من تحت التراب مثل معدنٍ نفيس «لا يمكن فصل رخامها عن النغم الذي تحدثه». المطرود من الجماعة، وفقاً لتوصيف ماسينيون للحلّاج، شقّ طريقه منفرداً في تعميق الحفريات الصوفية، وتقليب تربتها بما يتجاوز الأعراف، إذ جهر بأفكاره بين العامة، ثم خلع خرقة الصوفية، منتقداً الأوضاع السياسية السائدة في عصره، فدفع حياته ثمناً لكشوفاته الصوفية ذات الحواف الحادة. تكمن أهمية هذا السِفر الضخم في أنه لا يكتفي بسرد سيرة الحلّاج وحدها، إنما يضيء عصراً كاملاً وما اكتنفه من وقائع وسجالات واضطرابات، مقتفياً في سرده بنية الحكايات الشعبية من جهة، والنفحة الشعرية المقتبسة من لغة الحلّاج نفسه، من جهةٍ ثانية. كما يغوص في مفردات التصوّف جنباً إلى جنب مع مقترحات الفلسفة الإسلامية والسجالات السياسية حينذاك. هكذا يغلق القوس على «حلّاج القطن» وكيف أضحى حلّاجاً للكلام بطبقاته التنزيهية والتنويرية، في جهاد روحي بلا ضفاف. من جهته، أضاف الحسين الحلّاج في تحقيقه للنسخة العربية، جوانب مهمة من سيرة لوي ماسينيون في أحوالها المتبدّلة، تبعاً لترحاله من مكانٍ إلى آخر، من باحث في الآثار إلى أكاديمي متخصّص في فلسفة الحلّاج، وتالياً تأثره الشخصي بروحانية جدّه الأكبر قائلاً: «أذكر بأنني حين زرت مقام الحلّاج في بغداد، أحسست، أثناء صلاتي على روحه، بارتعاشة تجتاح بدني، كأن طيفه قد حلّق في المكان». ملحق «كلمات» التقى الحسين الحلّاج في الحوار الآتي:
ما الذي قادك إلى ترجمة وتحقيق «آلام الحلاج»، هل تشابه الأسماء بينكما، كان سبباً في أن تسلك هذه الطريق الوعرة أم أن هناك تحديات أخرى؟
- لا أنفي أن هناك وشائج غامضة تربطني بهذا الاسم، خصوصاً أن بعض أفرع العائلة لديها اعتقاد متوارث بأنه صاحب كرامات وقدرات سحرية لشفاء أمراض الظهر بمجرّد ملامسة قدمه اليمنى جسد المريض، نظراً لانتسابه إلى سلالة الحلّاج المباركة، لكنني، في كل الأحوال، لست واحداً من هؤلاء. حكايتي مع هذا المتصوّف بدأت باقتراح من والدي المسرحي الراحل مصطفى الحلّاج، صاحب «الدراويش يبحثون عن الحقيقة»، و«احتفال ليلي خاص في دريسدن»، وأعمال أخرى، استجابة لرغبتي في خوض غمار الترجمة وحقل الكتابة عموماً. كان خياراً صعباً أن أفتتح عملي في الترجمة بكتاب من هذا الطراز المعقّد، إلا أنني قبلت هذا التحدي، وبدأت قراءة المجلد الأول من كتاب لوي ماسينيون، بالإضافة إلى تدريبات على ترجمته، رغم عدم اطّلاعي العميق على كتب التصوّف، بالمقارنة مع قراءاتي للكتب الدينية الأخرى، وفي مقدمها القرآن الكريم وتفاسيره وعلومه.

رسمة تعود إلى عام 1602 من مخطوط لديوان للشاعر الصوفي الهندي أمير خوسرو (1253 ــ 1325) وتصوّر إعدام الحلاج

احتجت إلى نحو ثلاثة أشهر في القراءة الأولى، ثم انكببت بعدها على الترجمة، طوال عامٍ كامل، مستعيناً بمراجع لا تُحصى، ومجموعة قواميس في اللغتين الفرنسية والعربية، ثم استغرقتُ في التنقيب عن الاقتباسات من مصادرها الأصلية، سواء بما هو متوافر في مكتبة والدي الضخمة، أو باللجوء إلى مكتبة المعهد العلمي الفرنسي في دمشق، أنقل من مكتبته بخط اليد ما احتجت إليه من اقتباسات إضافية... إلى أن علم الباحث الفرنسي جاك كيرييل، أثناء زيارة له إلى دمشق أن هناك من يطابق الحلّاج بالاسم ويعمل على ترجمة «آلام الحلّاج» إلى العربية، فاتصل بي وزارني في بيتي. كانت ثمرة هذه الزيارة شهادة حيّة من قامة علمية تثمّن جهودي في ترجمة هذا الكتاب؟ كما أمدّني بمعلومات مفيدة عن ماسينيون بوصفه صديقاً شخصياً له مدةً طويلة، وبعد عودته إلى باريس أرسل لي ثلاثة من كتبه عن ماسينيون، مرفقة بالعنوان البريدي لمترجم الحلّاج إلى اللغة الإنكليزية هيربرت ماسون. خاطبت الأخير بريدياً، فلم يخِب ظني به، إذ أرسل لي بعد نحو شهر فقط ترجمته للحلاج كاملةً، بالإضافة إلى نسخة من مسرحية كتبها عن الحلّاج. هذه الترجمة أفادتني في المقارنة مع النسخة الفرنسية، وما استعجم عليّ في بعض المواضع ولجهة الصياغة أيضاً. هكذا أمضيت سنة ونصف السنة تدقيقاً ومراجعة وإعادة صوغ للترجمة، قبل أن أسلّم ترجمة الجزء الأول من الكتاب إلى الناشر في صيف 2001 مطمئناً إلى سلامة عملي.

لكن مشروعك حينذاك توقّف عند هذا الجزء من الكتاب، هل واجهت صعوبات في استكمال بقية الأجزاء؟
- فعلاً، فقد حرّر الناشر الكتاب ووضعه بين يدي الرقابة للحصول على موافقة لطباعته في دمشق، لكن الكتاب رُفض لأسباب أجهلها، ما استدعى الناشر التخلّي عن المشروع، وإعادة المخطوط لي. وكي لا يضيع جهدي هدراً، فكّرت بنشره في بيروت أو القاهرة، وفي هذه الأثناء تشجّع ناشر سوري آخر على تبنّي الكتاب ونشره، على أن يحمل دمغة فرع بيروت لدار النشر نفسها، ثم يُعرض على دائرة الرقابة في دمشق للحصول على سماح بالتداول، فتمّت الموافقة على الكتاب. كما أنجزنا عقداً مع «دار غاليمار» الباريسية، صاحبة حقوق النسخة الفرنسية، وزيادةً على ذلك سعت الدار لدى وزارة الخارجية الفرنسية لدعم نشر النسخة العربية بمنحة تتمثل في دفع أجور الترجمة، وهو ما حصل أخيراً. لكن محرّر الكتاب عبث بشكل الأقواس والحواشي، وأضاف فهرساً لا لزوم له، إذ أنني أوضحت له بأنني سأخصّص الجزء الرابع من الكتاب للفهارس. عموماً، كانت تجربة شاقة في إعادة تبويب الكتاب، وفي المقابل كانت فرصة لتصويب بعض الأخطاء الصغيرة ومراجعة ترجمتي وفقاً للنسخة الإنكليزية، لكن الدار لم تأخذ تصويباتي في الاعتبار، وأكثر من ذلك، أعادت طباعة الكتاب أكثر من مرّة، من دون أن تفي بوعودها في تسديد كافة حقوقي كمترجم، إلى أن أغلقت أبوابها على وقع الأحداث التي عصفت بالبلاد.

بسبب هذه العقبات فقط، توقفت عن ترجمة الأجزاء اللاحقة من الكتاب؟
- لم أتوقّف تماماً. كنت أعمل بشكل متقطّع، فخلال الفترة ما بين 2004 و2014، عملتُ على الجزءين الثاني والثالث، في أيام العطل والإجازات، ساعات قليلة في الليل، كلّ بضعة أيام إلى أن اكتملت ترجمتهما بشكلٍ أولي، إذ تتطلب مهنتي الأصلية في «منظمة حقوق الملكية الفكرية» جهداً مضنياً يستنزف طاقتي. كما أن الظروف التي تعيشها البلاد، أرغمتني على نقل عائلتي من دمشق إلى بيروت، والابتعاد عن مكتبتي، فكان من جملة ما حملت معي، نحو خمسين كتاباً مما أحتاج إليه كمراجع. هكذا عقدت العزم على أن أنجز العمل كاملاً بأيّ ثمن، وكان أن عملت في السنوات الأخيرة كل يوم تقريباً، ليلاً، وصباحاً قبل ذهابي إلى عملي، وفي عطلتي الأسبوعية، من دون أن أوفّر أيام الإجازات أيضاً، سواء في دمشق أو بيروت. هكذا رافقني الحلّاج وماسينيون في تنقلاتي، لجهة الترجمة والاقتباسات والفهارس والمراسلات، إلى أن أنجزت الكتاب في أجزائه الأربعة كاملاً، ووضعته في ربيع هذا العام، في عهدة الناشر أيمن الغزالي مدير «دار نينوى» في دمشق.

غلاف الكتاب


خلال انكبابك على ترجمة الحلّاج، ما الأثر الذي تركه في وجدانك؟
ـــ أدركت أسباب تعلّق ماسينيون بهذه الشخصية الفذّة، ولماذا أطلق عليه لقب «شهيد التصوّف الإسلامي». على الأرجح، وجد في مسلك هذه الشخصية صورة قديس، وربما صورة يسوع آخر، فكلاهما انتهى مصلوباً. لا أظن أن قراءة سيرة هذا المتصوّف وتحوّلاته وميتته المفجعة، جلداً وصلباً، وتقطيع أطرافه حيّاً، ثم قطع رأسه، وإحراق جسده، وحمل رماده إلى رأس المنارة ليُلقى به في نهر دجلة مشهداً مسليّاً أو عابراً، إنما تراجيديا مكتملة العناصر، فما بالك بشخص مثلي عاش بصحبته مترجماً طوال إحدى وعشرين سنة. أذكر بأنني حين زرت مقام الحلّاج في بغداد، أحسست، أثناء صلاتي على روحه، بارتعاشة تجتاح بدني، كأن طيفه قد حلّق في المكان.

عملت مترجماً ومحقّقاً للكتاب، ما هي الإضافات التي وضعتها خلال عملك على النسخة العربية؟
تلقي مقدمات الكتاب الأربع أنواراً جليّة على الكتاب وموضوعه، وتحوي تلخيصاً مكثفاً لفصوله، وغاية المؤلف من عمله الموسوعي الضخم. لذلك اكتفيت في فاتحة الكتاب بمقدمة تقنية موجزة. ولما كان الكتاب الرابع من المجموعة مرجعياً، فقد ارتأيت أن أضع خاتمة تشتمل على ملخص عن سيرة لوي ماسينيون، استعنت فيه بمصدر أول، هو مقدمة الطبعة الإنكليزية للكتاب بتوقيع هيربرت ماسون، نظراً إلى شموليتها وسلاستها، واتكأت على ما كتبه جيرار خوري عن ماسينيون، وهو حصيلة 25 سنة من البحث في أرشيفات وزارة الخارجية الفرنسية (كي-دورسيه)، بعنوان «ماسينيون في الهلال الخصيب»، ما أثرى الكتاب بمعلومات ثمينة عن طبقات التصوّف الإسلامي، ومقام الحلاج العالي بين هذه الطبقات، بالإضافة إلى نحو 40 مرجعاً تناولت حياة وأعمال ماسينيون.
على الأرجح، وجد ماسينيون في مسلك هذه الشخصية صورة قديس، وربما صورة يسوع آخر، فكلاهما انتهى مصلوباً

أما مكابداتي الأخرى في إنجاز الكتاب فتتعلّق بتدقيق مصادر الاقتباسات، وبتصحيح ترقيم الآيات القرآنية نظراً إلى فداحة الأخطاء الواردة في المتن، والأمر ذاته بخصوص أسماء المدن والبلدات والنواحي، وكان مرجعي الأساسي فيها هو «معجم البلدان» لياقوت الحموي أولاً، و«أطلس دول العالم الإسلامي» ثانياً. وسيزداد الوضع صعوبة، حين نأتي إلى أسماء الشخصيات، إذ يتجاوز عددها 5000 اسم، ولأنها مكتوبة بالفرنسية، فقد كانت تعجّ بالأخطاء اللفظية، إذ كان ينبغي التمييز بين السين والصاد في لفظ الاسم، أو الحاء عن الهاء، والتاء عن الطاء، والشين عن السين، ولو لم أستنجد في هذا السياق بفهارس «سير أعلام النبلاء» للذهبي و«تاريخ بغداد» لابن الخطيب و«معجم الكتاني»، وفهارس «تاريخ دمشق» لابن عساكر، و«المستشرقون» لنجيب عقيقي ولاحقاً بمحرك البحث غوغل لكان العمل أكثر مشقّة. لنقل بأنني لجأت إلى نحو 1000 كتاب تنقيباً وبحثاً لتدقيق كلمة أو تفكيك لغز، أو مصطلح، أو عنوان كتاب.

تبعاً لمواكبتك الطويلة لهذا السفر الضخم، برأيك ما الذي أغرى لوي ماسينيون بسيرة الحلّاج دون غيره إلى درجة تكريس حياته من أجل هذا المتصوّف؟
- هناك أكثر من عتبة لهذا الشغف، لكن العبارة التي قالها الحلّاج لحظة تقطيع أوصاله، وهي «ركعتان في العشق لا يصح وضوءهما إلا بالدم» كانت العتبة الأولى في مغامرة ماسينيون نحو فضاءات هذا المتصوّف، إذ وجد فيه صورة «العاشق الكامل» لله، بصيحته «أنا الحق» التي أدت إلى صلبه، ما جعله بمقام القديسين، وأسطورة متفرّدة أتت من موقع الضد لكل القوى الإسلامية الموجودة زمن الخلافة العباسية في بغداد، وهذا ما أتاح لماسينيون أن يعيد بناء مذهب الحلّاج في العشق الصوفي كصورة للتضحية الحقيقية، بدءاً من محاولاته الأولى في الزهد الفردي، مروراً بالروايات الرسمية لقضيته، وصولاً إلى «المشهد الجلي» لاستشهاده. على المقلب الآخر، اكتشف في بحثه أصالة هذا الصوفي برفضه «نظام السريّة» الذي خضع له أتباع الصوفية الآخرون، إذ وجد فيه مبشّراً جوّالاً بالحلول الصوفي لسلطان الله في القلوب، لا بالثورة الاجتماعية، مذكّراً بساعة الندم. أستعير هنا ما قاله في مقدّمة كتابه لتأكيد عمق تعلّقه بالحلّاج «استمالني فكر الحلاج بفعل الانجذاب العقلي الناتج عن صداقة الروح المترفّعة عن كلّ شيء والمتعالية عن الخلافات العرقية».

شهد الحلاج حقبة ازدهار الحضارة الإسلامية في بغداد وروافدها الآرامية واليونانية في القرن العاشر

هذا الثراء في شخصية الحلّاج، قاد ماسينيون عتبةً وراء أخرى إلى الإلمام بكل ما يتعلّق بزمن هذا الشهيد، سواء بما يخصّ منهجه في علم الكلام أم ثقافته الموسوعية التي تجمع بين عنفوان الشوق والبراعة الجدلية الحادّة، كما تتجلى في «طاسين الأزل وبستان المعرفة»، هو الذي شهد حقبة ازدهار الحضارة الإسلامية في بغداد وروافدها الآرامية واليونانية. ففي القرن العاشر، اجتمع مفكّرون من مختلف المشارب مثل النظّام وابن الراوندي والباقلاني في علم الكلام، والجاحظ والتوحيدي وابن سينا في الفلسفة، وأبي النواس وابن الرومي والمتنبي والمعرّي في الشعر، وابن جني في اللغة، والرازي في الطب، وكان الحلّاج واحداً من هؤلاء، لجهة علم الكلام الصوفي، حيث أدرك أهمية تماثل الأفعال الخارجية في الحياة اليومية مع النوايا الباطنية، باستخدامه المنطق وفقاً لتصنيفه اليوناني، ومعرّياً إياه من الصور الحسيّة والصيغ المبتدعة، وتالياً تمهيد الطريق السلبي نحو الاتّحاد الصوفي، بعيداً عن براهين القياس الضيّقة التي اتّبعها المتأخرون.

اتّهمت السلطات العثمانية لوي ماسينيون بأنه جاسوس فرنسي واعتقلته، كما شكّك آخرون بمهمته الأصلية في المنطقة العربية، وبأن اهتمامه بتاريخ الحلّاج كان مجرّد واجهة لا أكثر، خصوصاً أنه أتى القاهرة لدراسة علم الآثار، في الأصل، قبل تحوّله اللاحق لدراسة التصوّف، ما رأيك الشخصي في ذلك؟
- تحضرني العبارة التي ذكرها إبراهيم مدكور عنه بقوله: «إنه أعظم مسلم بين النصارى، وأعظم نصراني بين المسلمين». فقد انتقل الحلّاج لديه مرّة وإلى الأبد، من مادة اهتمام أكاديمي إلى قوة مرشدة، وتالياً، فإن اهتماماته الأخرى تراجعت لمصلحة دراسته الفلسفة الإسلامية. إذ كان يقتفي أثر الحلّاج من مكانٍ إلى آخر للحصول على مخطوطة هنا، ووثيقة هناك.
في كل الأحوال، هناك روايات متضاربة تتعلّق بسيرة هذا المستشرق، وسلوكه الغريب، فقد كان يلبس البابوج والطربوش كالبغداديين، ويسكن بين المسلمين بعيداً عن الجاليات الغربية ومناطقها، وينشغل بأمور ليست معتادة: اللغة العربية، الإسلام، الحلّاج، وأن ظروفاً سلبية عدة تراكمت عليه في وقتها مثل تعرّضه للسرقة والوشاية، بالإضافة إلى علاقته مع ناشط في «جمعية الاتحاد والترقي»، كما عمل ضابطاً في وزارة الخارجية الفرنسية متنقّلاً بين سوريا وفلسطين إلى جانب المندوب السامي جورج بيكو. وخدم في اللجنة الفرنسية البريطانية التي أنضجت اتفاقية سايكس بيكو، وقابل في تلك الفترة لورنس العرب، كما ستظهره صور فوتوغرافية أخرى بلباس عسكري بين رجال دين ورهبان كاثوليك. لكنه، في المقابل، سيخلص لاحقاً إلى مشروعه عن الحلّاج حتى آخر يوم في حياته، بمنتهى النزاهة والجديّة والعناية، موصياً ورثته الاعتناء بالحواشي والهوامش والإضافات التي ألحقها بالنسخة الأخيرة من الكتاب، ما ينفي عنه أيّ شبهات أخرى. عموماً، فقد كان رجلاً مثيراً للجدل، ومثقلاً بالمتناقضات. اليوم، يُنظر إلى كتاب «آلام الحلّاج» بأنه أعاد إلى الحياة الفكر الإسلامي في قرون الهجرة الأولى بتقنية مبتكرة ورصينة، ليس كمرجع استثنائي، بل كشاهد مذهل للأصالة الروحية.



إشارات
بعد حرق جسد الحلّاج، ألقي رماده في الهواء من قمة مئذنة (في باب الطاق) مطلة على دجلة. لقد قبع الناس على ضفاف النهر منتظرين بعثه حسب المعري (روايتان لظهوره). وعُرض رأسه وأطرافه على جدار السجن الجديد، ونعلم فقط بأن الرأس رُفع بعد سنة من «خزانة الرؤوس»، وأرسل إلى خراسان، وحمل من ناحية إلى ناحية؛ فهل تم إرجاعه إلى بغداد ووُضع مع بقاياه الأخرى، وهل حظيت بالدفن في ما بعد؟ لا أحد يعلم.
■ ■ ■

في تشرين الأول (أكتوبر) من سنة 1927، توجّب على لجنة الترقيم في بلدية استانبول استبدال عدد من الأسماء المهجورة؛ وبذلك استُبدل اسم تكة زقاقي القديم باسم حلاج منصور زقاقي. ويشكل هذا الشارع الصغير، الموازي لشارع فيزنجلر، معه في الشمال رباعي أضلاع مع شارعين فرعيين آخرين، شارع ديروني وشارع شهداء 16 آذار. وأثارت هذه التسمية ضجة في الصحافة، ولكنها سرعان ما تمت تهدئتها من قِبل رئيس اللجنة، عثمان بيك كمال.
■ ■ ■

كانت هناك ثلاث مهن لها علاقة بالكتاب خاضعة لإشراف شرطة المحتسب، النسّاخ والورّاقون ومدراء المدارس، وكانوا مجبرين في بغداد على التقيّد بقائمة من الكتب الممنوعة، بما في ذلك تلك التي كتبها الحلاج أو كتبت عنه؛ وهُدد بعد ثلاثة قرون من وفاته ابن الغزال لنسخه بعضاً من الروايات مع الإسناد عن الحلاج، في بغداد.