شخّص المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي قبل مئة عام دور الجامعات والأكاديميين بوصفه جزءاً لا يتجزّأ من أدوات التمكين لهيمنة الطبقة الحاكمة. إذ توكل لهؤلاء مهمة إنتاج موظفين جدد للالتحاق بخدمة المنظومة، وصياغة عقول المتعلمين لتقبل قيم المهيمنين وثقافتهم وتصوّرهم عن العالم بوصفها طبيعة الأشياء. لذا، فإن مهمّة أيّ أكاديميّ معاد لهذه التوجهات هي بالضرورة رحلة جبليّة صعبة، يشفق كثيرون من حملها، مكتفين بالانعزال في أبراجهم العاجيّة داخل تخصصاتهم الدقيقة، هذا إن هم لم ينخرطوا بفاعليّة وحماسة في دورهم المرسوم لهم، ملكيين أكثر من الملك أحياناً.

ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البرفيسورة الأميركيّة جودي دين، أستاذة العلوم السياسيّة والإنسانيات. تخوض هذه المرأة منذ عقود حرباً بلا هوادة من أجل استعادة مفهوم النضال الجمعي وإخراجه من حيّز تداول اليمين واليسار (الغربيّ). في كتبها العديدة ومقالاتها وخطاباتها ومحاضراتها، تؤكد دين أن خطوط المواجهة ساطعة الوضوح وكما كانت دائماً: ضد الرأسماليّة وتجار الحروب الدائمة، والوطنيّات الفاشية الموهومة، ونخّاسي الأسواق الماليّة، و«الإقطاعيين» الجدد، ولا أحد يمتلك رفاهيّة الحياد. بالنسبة إليها، فالسؤال الوجودي الأهم للإنسان اليوم هو: في أي جانب أنت؟ ما هو دورك في هذه المعركة الدائمة حيث الرماديّة غير ممكنة فعلياً، بل هي وهم يتعاطاه بعضهم للهرب من الواقع.
في كتابها الأحدث «الرّفيق» (Comrade ــــ فيرسو بوكس ــ 2019)، تشن دين هجوماً حاسماً على مفاهيم الهويّات المتشظيّة المتحورة حول الفردانيّة التي ابتدعتها الليبراليّة وتبناها التيار الأعرض من يسار الغرب المناضل على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الجامعات البرجوازيّة، والمنظّمات غير الحكوميّة المدعومة من حكومات بعينها، وأيضاً في إطار أغلب تيارات الفنون والثقافة المعاصرة المجبولة بالهراء. هي تعتبر أنّ هذه التوجهات مسؤولة مباشرة عن خنق فضاء النضال الجمعي لمصلحة دكاكين نضالات هوياتيّة تقوم على الإثنيات أو العرق، أو الدين أو التوجه الجنسي أو الجندري أو المهني، وتخدع مجتمعاتها بصيغ تحالفات موقوتة فضفاضة بين هباءات متناثرة غير قادرة على الفعل.
عند دين، فإن تجربتها النضاليّة المديدة وحياتها الأكاديميّة المبهرة (خريجة «برينستون» و«كولومبيا»، وعُينت أستاذة مدى الحياة للإنسانيات في كليّة الفلسفة في جامعة «إراسموس» في روتردام) لطالما أغنتا بعضهما. ورغم تفهمها العميق لمشقّة مواجهة المؤسسة الرسميّة في الجامعات، وصعوبات التوفيق بين الالتزام السياسي الفاعل ومهمات البحث والتدريس، إلى جانب متطلبات العيش في مجتمع رأسمالي لا يرحم، فإنها مع ذلك لا تقبل تخلّي الأكاديمي عن تحمّل مسؤولياته الإنسانية في اتّخاذ موقف مسيّس تجاه المعركة الطبقيّة، أقلّه في النّضال لكسر أغلال العبوديّة داخل العمل الجامعي نفسه. تذّكرنا بأن الدّعوات الملتبسة لتحرير العمل الأكاديمي من السياسة يخدم أجندات المهيمنين فحسب، ويستهدف فئة محددة من الأكاديميين المعادين للمنظومة. كلنا يتذكر أنجيلا ديفيس التي تعرّضت لحرب شاملة من الرئيس الأميركي رونالد ريغان في محاولة لعزلها عن منصبها الأكاديمي بحجة مواجهة تسييس الحياة الأكاديميّة وتحصين الطلبة الأميركيين من الأفكار «الخطرة». ترى دين أن الجامعات ـ بحكم تكوينها ــ عمل سياسي محض، وأن معظم الأسلحة الفكرية التي توظّفها الإمبراطورية الأميركية سواء في التنظير لاقتصاد النيوليبراليّة القاتلة، أو في تطوير تكنولوجيّات الحروب، أو في خلق فضاءات هوياتيّة تلبس لبوس العلم لتكرّس العنصريّة والفروقات، ما هي في الواقع إلا نتاج مؤسسات أكاديميّة. الأستاذة الثائرة تحب أن يدعوها الآخرون بـ «الرفيقة». عندها، «الرفقة» النضاليّة ليست مجرد تسمية إيجابيّة بين شركاء الموقف السياسي الواحد، ولا موروثاً مغبراً من أيّام التجارب الاشتراكية في القرن العشرين، بل هي ــ وهذا مصدر الكلمة الإنكليزية «كومريد» ايتمولوجيّاً ـــ فضاء يخلق إحساساً بالاقتراب والشرّاكة والعواطف الكثيفة والتضامن.