جهَّزتُ رَحْلَ وَضْحَى بعدما ربطتُ اثنين من ضروعِها لأحتفظ ببعض الحليب زاداً للرِّحلة، تاركةً اثنين للحُوار. قربة الماء بالكاد تكفينا، والسُّيول لم تدرك الشِّعاب في هذا المكان بعد، ووَضْحَى ما وردت ماءً ولا صغيرها منذ أيام. ورغم ذلك أزمعتُ على الرَّحيلِ شَرقاً صوبَ ما يُسمونه البحر. ألقمتُ ناقتي تمرةً ووعدتُها بأُخرى لحظةَ وصولنا. نهضَت وَضحَى بقائمتيها الخلفيتين مُتَّزنةً سامِقة. استقامت على أربع وهي تجرشُ نواة التَّمر، تحملُنا أنا والولد المربوط إلى ظهري وخيمتنا الصَّغيرة. مسَّدتُ على وبرها المتساقط أطمئنها وأعدها بلقاءٍ وشيكٍ لِـ ساري.
«لكِ في الشَّرقِ حبيب.. ولي في الشَّرقِ حبيب».
راحت وَضْحَى تدورُ حَول نفسِها ويتبعُها الحُوار الصَّغير. تركتُها تسيرُ على هواها فهي مأمورة، يدُلَّها وَلَهُها على آثار أخفافِ ساري في الأرض، تتشمَّمُ ريحَ بولِه المنثور على دربٍ يؤدي إلى القبيلة. سوفَ أُحاذي مضاربنا عند الاقتراب، وأضعُ الشَّمسَ بين عينيّ وأحثُّ وَضْحَى على تجاوز مَقامنا، والإيغال في المسيرِ شرقاً صَوب الكويت.
توينز سيفن سيفن (نيجيريا ــ 1944) ـــ «حلم الحب» (زيت، وأكريليك، وحبر وباستيل على خشب الابلكاش ــــ 76 × 30 سنتم ــــ 2008)

«العلم عند الله»، كانت آخر كلماتٍ قالَها قبل رحيلِه وقتَ ذرفَ الدَّمعَ صامتاً. عند الله، مثلَ أمِّي التي راحت إليه، ومثلَ كُلِّ شيءٍ لا يعود. العلم عند الله، وأنا لا أناة لي على انتظار علمٍ يجيء أو لا يجيء. سوف أُطارد العِلمَ وأدركه ولو كلَّفني الأمرُ الذهابَ إلى الله. فيما مضينا في أوَّل الدَّرب، على ظَهرِ وَضْحَى المتهادية في مشيها؛ لاحَت لي كائنات البريَّة تُغادر بيوتها أفواجاً تحتَ الشَّمسِ في العراء، تُشيِّعها صرصرة الهَبوب. مواكب تتفرَّق وتتذرَّى أسفل النَّبات. أنثى ثعلب تحملُ صغارها بين فكَّيها خارج وكرِها، وجحورٌ تلفظُ قاطنيها من يَرابيع وأورالٍ وضِبابٍ وعقارب وخنافس ضخمة. عظيمة هذه الأرض كيف تؤوي كُلَّ هذه الكائنات! «سوف تُمطر»، قلتُ في نفسي، رغم أن صَحو السَّماء يشي بنهارٍ رائق، لولا الهبوب الذي داهمنا.
أومضَ برقٌ. قصفَ رعدٌ. صاحَ صغيري وتلكأت النَّاقةُ فزِعةً متعثِّرةً في مشيِها. سكبت السَّماءُ المطرَ مدراراً أثناء الدَّرب، كما لو أن يد الله سبحانه تعتصُر السُّحُب. يدلقُ ماءها ليغورَ في الأرضِ ويملأ الغُدران والشعاب قبل مُضي الشِّتاء. إنها الحكمة في لغة الأشياء الصَّامتة كما يقول دخيل.
«مَطر»، قلتُ في نفسي، «إنها بشارة»، قلتُ لِـوَضْحَى. كرَّت الظلالُ الدَّاكنة، وفرَّ النور فرارَ اليرابيع تحت وابل المطر وسياط البرق. أوجستُ خيفةً في نفسي مع تواري الشَّمس وراء السَّحب. «حجبَ الله الشَّمسَ كيلا أستدلَّ عَلى الشَّرق»، حدَّثتُ نفسي. «نذيرُ سوء»، قلتُ لِـوَضْحَى.
تلك لُغة هذا الفضاء الأخرس، وأنا بالكاد أفقهُ منها النَّزير. وبين بِشارةِ مطرٍ ونذيرِ شمس؛ تذكَّرتُ أن لي في الشَّرق حبيباً. عصَيتُ الشَّمسَ وتبعتُ نبوءة المطر دونما تفكيرٍ في عواقب. سوف تنجلي السُّحب، وأُدرك الكويتَ وجهة الشَّمس، ولكن يد الله كانت سخيَّة لم تُمسك الجَود. امتلأت الأوكارُ والجحورُ والدُّحولُ بالماء. خاضَت أخفافُ وَضْحَى وصغيرها في الطِّين واختفت آثارُ أخفاف ساري، وأنا في طريقي مُثقلة بأحمال ذكرى الأمس، أخشى أن تغوص قدمايَ في طينِ اليوم.
صفير الرِّيح يُشَيّعنا مثلَ عواء الذِّئاب يجيء من كُلِّ صوب. وعزيفُ الرِّمال يسترسلُ وترعدُ السَّماءُ وتجفلُ النَّاقة وتأبى المسير. قصفُ الرَّعدِ في أُذنيَّ صُراخ سماء ناقمة. وبردُ الرِّيح يعوي في الضُلوع يزيدُ أجسادنا المبتلَّة برداً. لا يهلُّ المطرُ عادة بهذه الغزارة في الرَّبيع، كأن الشِّتاء تذكَّر أمراً وعاد على غفلة، دافعاً بالرَّبيع إلى التقهقر ليُعيد ترتيبَ نفسِه. تخلَّت عني الشَّمسُ سخطاً، ولكني من أجلِ البشارة، أُصدِّق نبوءة المطر.
أنختُ وَضْحَى ووضعتُ وعاءً أجمعُ فيه ماءَ السَّماء. كابدتُ في إنزال خيمتي الصَّغيرة من على ظهرها، وقد تشرَّب نسيجها المطرَ، وصارَت بوزن خحُوار. جررتُها إلى مُرتفَعٍ ونصبتُها، ولذتُ بها وصغيري عن جنون السَّماء وهزيم رعودِها ووميض بروقِها. نامَ الصَّغيرُ على وقع انهمار المطر. لم تبدُ في نفسِ الغيوم نيَّةٌ على المضي بعيداً، أو إمساك ما في جوفِها. «المطر بشارة خير»، قلت لنفسي أُطمئنها. يبدو أن الشَّمسَ قد غضبت بحق. هل تُعاقبني بعدم بزوغها بعد اليوم أبداً، وتُحيل أياميَ ليلاً سرمدياً؟ أخرجتُ من مِزْوَدَتي سراجاً صغيراً أشعلتُ فتيله، رحتُ أُبدِّد الوقتَ بأن أنظر في وجه صغيري. يغفو في دثارِه الصُّوفي هادئاً مثل الخرانق في فراء أُمهاتِها. جُرمه الصَّغير عزَّز فكرة نساء القبيلة بأني وضعته في الشَّهر السَّابع، بعد زواجي بسبعة شهور، رغم أني أنجبتُه في التَّاسع.. لو كُنَّ يعلمن.
أخرجتُ من المزْوَدة حفنةً من طين الحِنَّاء. رحتُ أعجنها بقليلٍ من الماء، وأمضيتُ وقتي أنقشُ على كفِّي اليُمنى زهوراً برّية وأوراق شجر. مضى وقتٌ طويلٌ مُذ اتخذتُ قراري العزوفَ عن نقشِ كفِّي. أخرجتُ مكحلتي وكحَّلتُ عينيّ. غفوتُ إلى حين تيبس نقوشُ الحِنَّاءِ في كفِّي ويجفُّ طينُ الدَّرب.

* «ناقةُ صالحة» رواية للكاتب الكويتي سعود السنعوسي (1981) صدرت حديثاً عن «الدار العربيَّة للعلوم ناشرون» في بيروت. تدور أحداثها حول صالحة التي ترفض قبيلتها زواجها بابن خالها «دخيل بن أسمر» وتُجبرها على الزواج من ابن عمها «صالح»، لأنَّ «الخال خليّ والعمّ وليّ»، وككلّ عاشق خائب يرحل ابن الخال، لكن الأمل باللقاء يلوح في النهاية، فترتحل صالحة مع ناقتها وَضحى ممنية نفسها بتحقيق الحلم.