لعل الآيات 1-5 من سورة العاديات هي الأشد غموضاً في القرآن كله: «والعاديات ضبحاً. فالموريات قدحاً. فالمغيرات صبحاً. فأثرن به نقعاً. فوسطن به جمعاً».
إنها اللغز المطلق تقريباً.
وقد انقسم القدماء بشأن «العاديات» و«المغيرات» إلى قسمين: واحد يقول إن العاديات هي الخيل، وآخر يقول إنها الإبل، وإن الأمر يتعلق بطبيعة العدو. فمن قال الخيل، اعتقد أن الآيات تتحدث عن الحرب. فالضبح صوت الخيل، أو صوت تنفسها في جريها. لكنه ليس صوتها وحدها، فصوت الكلاب والثعالب أيضاً يدعى ضبحاً: «ابن عباس: ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب. وقيل: كانت [الخيل] تكعم لئلا تصهل، فيعلم العدوّ بهم؛ فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة» (تفسير القرطبي). أما الكعام فشيء يجعل على فم البعير: «كَعَمَ البعير يَكْعَمُه كَعْماً...: شدَّ فاه» (لسان العرب). غير أن «لسان العرب» يوسع دائرة الضبح إلى حد بعيد: «ضَبَحَ الأَرنبُ والأَسودُ من الحيات والبُومُ والصَّدَى والثعلبُ والقوسُ يَضْبَحُ ضُباحاً: صَوَّت» (لسان العرب). وهو ما يزيد الأمر غموضاً.
أما من قال الإبل، فقد ربط الأمر بالحج لا بالحرب. فالمسلمون لم يكونوا يملكون في وقت نزول الآيات خيلاً يحاربون من على ظهورها:
«قال الشعبي: تمارى علي وابن عباس في العاديات، فقال علي: هي الإبل تعدو في الحج. وقال ابن عباس: هي الخيل؛ ألا تراه يقول «فأثرن به نقعاً» فهل تثير إلا بحوافرها؟ وهل تضبح الإبل؟ فقال علي: ليس كما قلت... والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام وما معنا إلا فرسان: فرس للمقداد، وفرس للزبير؛ فكيف تكون العاديات ضبحاً؟ إنما العاديات الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى عرفة». (تفسير القرطبي). يضيف مصدر آخر عن علي متوسعاً: «والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام لبدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير، وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات ضبحاً، إنما العاديات ضبحاً من عرفة إلى مزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى، وأوروا النيران، ثم كان من الغد المغيرات صبحاً، من المزدلفة إلى منى، فذلك جمع، وأما قوله: «فأثرن به نقعاً»، فهو نقع الأرض حين تطأه بخفافها، وحوافرها، قال ابن عباس: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي» (الميمني، سمط اللآلئ). إذن، فقد يكون أمر الآيات متعلقاً بالحرب أو بالحج، فإن كانت الحرب كانت العاديات ضبحاً والمغيرات صبحاً هن الخيل. وإن كان الحج فهن الإبل. لكنني أشك في صحة المماراة المذكورة بين الحبرين ابن عباس وعلي.
«الحج» منمنمة ليحيى بن محمود الواسطي، عن مقامات الحريري (القرن الثالث عشر ميلادي)

وعلى أي حال، فلكل واحد من هذين الرأيين نقطة قوته ونقطة ضعفه. فجملة «أثرن به نقعاً» تدعم من تحدث عن الخيل. ذلك أن النقع هو الغبار. وهو معقول أن تثير الخيل المغيرة الغبار بحوافرها. كما أن من المعقول أن «الموريات قدحاً» تتعلق بحوافر الخيل التي تقدح الشرر حين تضرب بالحجارة أيضاً. لكن حين نأتي إلى جملة «فوسطن به جمعاً»، فإن الميزان يميل إلى الإبل. ذلك أن المزدلفة تدعى «جمعاً» لأنها تجمع الناس في الحج. بالتالي، فالإبل تتوسط بركابها المزدلفة. وهذا أقوى من فكرة أن الخيل تتوسط بركابها جمع الأعداء.
أما من جهتي، فلدي شك في وجود الخيل والجمال في الآيات أساساً. ويغمرني إحساس بأن الأمر يتعلق بنجوم أو بمجموعات نجمية، وأن القرآن يقسم بها لقداستها. على طريقة القسم بالنجم في سورة النجم: «والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى» (النجم: 1-2). والنجم في الآية هو كوكبة الثريا ذات الأنجم السبع، بإجماع.
كي أعطي براهين ما على إحساسي، الأسهل هو في نظري جملة: «فالمغيرات صبحاً». فهذه الجملة تتحدث، في ما يبدو، عن غوران النجوم، أي عن سقوطها، الذي هو غيابها الفلكي. يقال في هذا السقوط: «غارت النجوم وغارَ القَمَرُ والعَيْنُ والماء تَغُوْرُ غُؤوْراً. وغارَتِ الشَّمْسُ غِيَاراً. وغوَّرَ النَّجْمُ أيضاً» (الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة). إذ للنجوم طلوع وسقوط. وسقوطها هو انطفاؤها قبل الفجر، وظهورها بالعشية. قال الشاعر في وصف قصر المتوكل:

وإذا غارت الكواكب صبحاً
فهو الكوكب الذي لا يغور

أما طلوع الكواكب فهو ظهورها عند الفجر، وقبل طلوع الشمس. بذا فالحديث يجري في ما يبدو عن سقوط نجوم محددة. أي أن «المغيرات» هنا تعني: النجوم التي غارت، أي سقطت. وهو ما يعني الهويان: «والنجم إذا هوى». ونحن نعلم أن الأنواء، أي الأمطار، مرتبطة بسقوط النجوم لا بطلوعها عموماً. ولعل لهذا علاقة بما جاء في القواميس: «وغارَهُم الله بخير ومطَرٍ يَغِيرُهم غَيْراً وغِياراً ويَغُورهم: أَصابهم بمَطر وخِصْب، والاسم الغِيرة.
وأَرض مَغِيرة، بفتح الميم، ومَغْيُورة أَي مَسْقِيَّة. يقال: اللهم غِرْنا بخير وعُرْنا بخير.
وغارَ الغيثُ الأَرض يَغِيرها أَي سقاها. وغارَهُم الله بمطر أَي سقاهم، يَغِيرهم ويَغُورهم» (لسان العرب).
وإذا صح هذا، فعلينا في ما يبدو أن نفهم ما يأتي بعد المغيرات على أن له علاقة ما بالمطر أيضاً: «فأثرن به نقعاً. فوسطن به جمعاً». والحق أن هناك ما يؤيد هذا. فالنقع هو محبس الماء ومجتمعه: «يقال: استنقَعَ الماءُ إِذا اجتمع في نِهْيٍ أَو غيره، وكذلك نَقَعَ يَنْقَعُ نُقُوعاً... والمَنْقَعُ، بالفتح: المَوْضِعُ يَسْتَنْقِعُ فيه الماءُ، والجمع مَناقِعُ» (لسان العرب).
المشكلة أنه لم يسبق لأحد أن أخبرنا أن للضبح علاقة بالفلك أو بنجوم سماوية محددة


بذا فسقوط هذه النجوم، أي غورانها، يستثير الماء ويستنقعه، أي يدفعه إلى الظهور: «كل ما استخرجته أَو هِجْتَه، فقد أَثَرْتَه إِثارَةً وإِثاراً» (لسان العرب). بذا فالأمر يتعلق بالماء، ماء المطر، في أغلب الظن. وهذا المطر المستثار المتجمع لا بد له من مكان يجتمع فيه. أي لا بد له من مجمع ما. وهذا في ما يبدو ما قصدته الجملة: فوسطن به جمعاً: «اسْتجمع السيلُ: اجتمع من كل موضع. استجمع القوم إِذا ذهبوا كلهم لم يَبْق منهم أَحد كما يَستجمِع الوادي بالسيل» (لسان العرب).
وهناك نجوم محددة عند العرب تدعى «نجوم الإخذ». وقد تشوشت المصادر العربية في فهم معنى اسم هذه النجوم. لكنها تعني في الحقيقة النجوم التي يؤدي ظهورها إلى اجتماع الماء. إذ: «الإِخاذُ جمع الإِخاذةِ وهو مَصنعٌ للماءِ يجتمع فيه... ومنه حديث الحجاج في صفة الغيث: وامتلأَت الإِخاذُ؛ أَبو عدنان: إِخاذٌ جَمْع إِخاذة وأُخذٌ جمع إِخاذ؛ وقال أَبو عبيدة: الإِخاذةُ والإِخاذ، بالهاء وغير الهاء، جمع إِخْذٍ، والإِخْذُ صَنَعُ الماء يجتمع فيه». وتسمى هذه الإخاذ بالقعدات أيضاً. ومن هذا سمي شهر «ذي القعدة» باسمه هذا لأنه مرتبط بالقعدة واحدة القعدات أي مجتمعات الماء. ففيه ينزل المطر وتمتلئ الإخاذ والقعدات. بالطبع نتحدث هنا عن ذي القعدة الجاهلي الذي كان له وقت محدد في السنة، هو الشهر العاشر أو الحادي عشر.

العاديات ضبحاً
ولو كان هذا صحيحاً، فكيف له أن يحل لنا أمر الجملة الغامضة جداً: «والعاديات ضبحاً». صحيح أنه يمكننا أن نضعها في سياق فلكي ما، لا في سياق حرب أو حج، لكنه لا يحل لنا أمرها بشكل مباشر. لكن يمكن للمرء أن يفهم من التتابع بين «العاديات» و«المغيرات» على أننا قد نكون مع نجوم من الطراز ذاته تأتي متتابعة متلاحقة. لكن يمكن أيضاً فهم أن الفاء تعني ترتيباً متباعداً يعكس الاختلاف لا التشابه. إذ تأتي أولاً العاديات، ثم يأتي بعد ذلك نقيضها الذي هو المغيرات التي تجلب المطر وتستنقعه.
لكن المشكلة أنه لم يسبق لأحد أن أخبرنا أن للضبح علاقة بالفلك أو بنجوم سماوية محددة. لذا، فليس أمامنا سوى التكهن. وظني ـــ ويجب التركيز على أنني أتحدث بالظن هنا ـــ أن الأمر يتعلق بالنجوم التي تطلع في الفجر لا بالنجوم المغيرات التي تسقط في هذا الفجر. أي أن الآيات تتحدث عن نجوم معاكسة لنجوم المطر. وبما أن الضبح هو صوت تنفس حيوانات تلهث في جريها، وأن الكلب واحد من الضوابح، فعلي أن أشير إلى أن الصيف، أي انقطاع المطر، مرتبط بظهور الشعرى اليمانية، التي هي إيزيس العربية. فظهورها في أواخر حزيران بعد غياب هو إعلان بدء الصيف، بل إعلان بدء القيظ. والشعرى هذه مرتبطة بالكلاب بكل تأكيد. فهي «نجمة الكلب» عند اليونانيين. وهي عند المصريين مرتبطة بالكلب أنوبيس، الذي هو ابن إيزيس. أما عند العرب، فالشعرى اليمانية هي مركز كوكبة «كلب الجبار»، أي «الكلب الأكبر». والجبار هو برج الجوزاء: «الجبار: اسم للجوزاء، والشعرى العبور تلو الجوزاء ويسمى: كلب الجبار أيضاً» (المرزوقي، الأمكنة والأزمنة). يضيف الميداني: «الشعرى العبور، وهي اليمانية... ويسمونها كلب الجبار. والجبار اسم للجوزاء، جعلوا الشعرى ككلب لها يتبع صاحبه» (الميداني، مجمع الأمثال).
أما كوكبة أختها الشعرى الغميصاء، فتدعى «الكلب الأصغر». بذا فالشعرى في الواقع كلبة ومرتبطة بالكلاب. كما أن كَلَب الكلاب، أي جنونها، مرتبط بظهور الشعرى العبور. بناء عليه، ليس من الصعب تصوّر أن نجوم «كلب الجبار- الجوزاء» تضبح لأنها تتمثل بكلاب عادية ضابحة. وبهذا تكون «المغيرات» نجوم المطر و«العاديات» نجوم انقطاع المطر.

الموريات قدحاً
نأتي الآن إلى جملة «فالموريات قدحاً»، التي تتحدث عن القدح والنيران. ونحن نعلم أن الصيف، أي الحر، يبدأ مع طلوع الشعرى. بل إن طلوعها إيذان بالقيظ، أي بشدة الحر: «لأن الشعرى تطلع بالغداة في معمعان الحر» (المرزوقي، الأزمنة والأمكنة). وتسمى فترات القيظ الشديدة بالوغرات: «قالوا: والوغرة عند طلوع الشعرى، وقد وغرنا وغرة شديدة... وأوغرنا أصابنا الحر الشديد» (المرزوفي، الأزمنة والأمكنة). لكن علي أن أقول إنه ليست الشعرى العبور وحدها ممثلة القيظ. فهناك الهقعة، وهي ثلاثة نجوم تسمى رأس الجوزاء، وطلوعها دليل على قدوم الصيف، والشعرى تطلع بعدها «وطُلُوعِ الشِّعْري على أثْرِ طُلُوعِ الهقْعةَ: (الزبيدي، تاج العروس). كما أن هناك العذارى وهي: «خمسةُ كواكبَ تحت الشِّعْرى العَبُور، وتسمى العَذارى، وتطلع في وسط الحر» (لسان العرب). هذه هي نجوم الحر والقيظ والوغرات. وهن يقدحن الحر ويورينه: «في هذا الفصل وغرات: وهي الحرور. منها وغرة الشعرى، ووغرة الجوزاء، ووغرة سهي، أولها أقواها حراً [أي وغرة الشعرى]؛ يقال إن الرجل في هذه الوغرة يعطش بين الحوض والبئر، وإذا طلع سهيل ذهبت الوغرات» (القلقشندي، صبح الأعشى).
 إذن، فالموريات هن النجوم اللواتي يورين القيظ وقدح لهيبه، لا الخيل التي تقدح شرر الحجر بحوافرها.
وإذا صح هذا نكون قد قطعنا خطوات في فهم الآيات الملغزات في سورة العاديات.

* شاعر فلسطيني