أذكر أني كنت مسافراً صباح ذات يوم بالطائرة من برلين إلى مدينة كولونيا لإجراء لقاء صحافي مع المستشرقة الألمانية الراحلة آنماري شمّل المقيمة في مدينة بون، وإذا بي أفاجأ بمظهر المسافرين وكان معظمهم من الشباب «اليُوبِّيز» (شاب مهني حضري؛ شاب مهني متنقل) أي بمظهر معياري وفق آخر صرعة، يضاف إلى تسريحة شعر موحدة، فشعرت كأني كنتُ في طابور متطوعي جيش! كان صعباً عليّ تمييز فرد من الآخر. جميعهم، من دون استثناء، كانوا يرتدون البدلات ذات القطع الثلاث وذات الألوان المتشابهة والكرافات نفسها تقريباً ويحملون الحقائب ذات الشكل الموحد. ربما كنتُ الوحيد من بين المسافرين الذي كان يرتدي الملابس الـ casual فكنتُ حينها الوحيد الذي يرتدي الملابس غير المعيارية التي تفرضها صرعات الموضة على الرجال والنساء، ما أثار انتباه مسافرين لاحظت أن بعضهم كان يحدق بي، إما استغراباً أو استنكاراً.

سافرت بعدها مرات عديدة بالطائرة داخل ألمانيا ولم أغيّر مظهري الخارجي، لكن المشهد كان نفسه: الأمر نفسه تكرر معي عندما أقمت لبعض الوقت في مدينة ميونيخ، عاصمة الأناقة حيث لاحظت الأمر نفسه بخصوص الصبايا والنساء اللواتي يرتدين ملابس آخر موضة سائدة في ذلك العام وذات الألوان التي فرضتها أسواق الملابس ودور الزي في ألمانيا وميلانو وباريس. الفرق الوحيد كان في ألوان الملابس والأحذية وكذلك المكياج. لكن المرء يلاحظ فوراً أن شكل الأنف كان موحداً، ما يثبت أن بعض النساء خضعن لعمليات تجميل. ولأن الفصل كان صيفاً، يلاحظ المرء أيضاً أن قوام الفتيات والصبايا وحتى النساء وتفاصيل أجسادهن شبه موحد.
والأمر لا يختلف كثيراً عما يشاهده المرء هنا في دمشق، بالعلاقة مع القوام وشكل الأنف بل حتى طول الشعر، مع أن الحرب في سوريا وعليها فرضت على بعضهن معايير مختلفة. ولا شك في أن الأمر لا يختلف عنه في حواضر عربية وغير عربية أخرى. لنتذكر أن «البيان الشيوعي» كان قد أشار إلى أن الرأسمالية تفرض توحيد أمور كثيرة في هذا العالم. فها نحن نرى قادة الصين تخلّوا عن بدلة الزعيم المؤسس ماو واستبدلوا الملابس الغربية بها، وهذا يقودنا إلى بعض تفاصيل موضوع كتاب «الجمال والمعيار: مناقشة توحيد المعايير في مظهر الجسد» (منشورات كيندل ــــ 2019) الذي لخصناه في السطور السابقة.
محررو المؤلف، الذي يعرض مداخلات ندوة أقامتها «جامعة بايرويت» الألمانية عام 2016 وشاركت فيها مجموعة من العالمات والعلماء من دول مختلفة، كتبوا أنه يحوي فصولاً تستند إلى البحوث التجريبية عن مجموعة واسعة من البشر تغطي مواقع جغرافية وسياقات ثقافية عديدة (يضم الكتاب «تشكيل الجسد الأنثوي المسلم» الذي يحوي فصلين هما «إعادة تشكيل (حجم) الثدي» و«الأنف التركي: عن الجراحة التجميلية والقواعد المجندرة والحق في أن تبدو طبيعية» و«ابتداع/ صوغ وجه الأنثى المسلمة: من إخفاء الجمال إلى إدارته»، إضافة إلى نقاشات بين العلماء تتضمن أفكاراً شخصية). يمثل هذا المؤلف المحاولة الأولى لفضح العمليات التوحيدية للبشر والنظرات المعيارية في الحياة اليومية لتحليل أكثر منهجية. لذلك، فإنه يجمع المناقشات المنفصلة في دراسات الجمال النقدية والأنثروبولوجيا الثقافية وعلم الاجتماع وتاريخ العلوم والدراسات المتعلقة بالإعاقة والجسم المصنف حسب الجنس والنظم العنصرية وأنظمة التمثيل المعيارية واقتصاد الجمال العالمي.
زيادة تنظيم الجسم البشري كأداة أيديولوجية قوية


تنشر صناعات الجمال والأزياء العالمية صوراً جماعية للرجال والنساء، الذين تحمل أجسادهم أوجه تشابه مذهلة رغم الاختلاف بينهم. وقد قام الأدب الأنثروبولوجي الناشئ بتحليل التجميل وتعديل الجسم الجمالي كأدوات لتحديد المواقع الاجتماعية والتسلق الطبقي مع وضع معايير للظهور الجسدي باستمرار. على هذه الخلفية، حذّر العلماء من زيادة تنظيم الجسم البشري، حتى من التجانس كأدوات أيديولوجية قوية وفق معايير الحياة الطبيعية والعالمية التي تم وضعها في القرن التاسع عشر مثل مؤشر كتلة الجسم أو الرجل المتوسط. فقد تمت مشاهدة وقياس وتقييم أجيال من النساء والأشخاص الملوّنين والمعاقين والفقراء على خلفية تعميم التقنيات الطبية لتعديل الجسم الجمالي وتطبيعها من اجل ازدياد الضغط لـ«تصحيح» جوانب الجسم التي تتحدى القواعد والتشوهات بلغة الخبراء الأطباء.
من ناحية أخرى، وثّق علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية أنه في السعي للحصول على الجمال أو الحداثة أو التقدم، تندمج الأجساد في الأوهام الجماعية التي لا تكون محلية أو حصرية فقط، لكنها قد تكون كلا الأمرين، وقد تنتقل إلى تقنيات تفتيح لون الجلد أو إزالة الشعر أو تقويمه أو تصغير الثديين أو تكبيرهما أو تصغير حجم الأنف. أخيراً، تلخص مقدمة المؤلف المحتوى، إذ تورد: «تسعى المجموعة الحالية إلى فتح النقاش حول التقييس الجسدي والآثار المعيارية لطفرة الجمال العالمية بدلاً من اختتامها».

Beauty and the Norm: Debating Standardization in Bodily Appearance :Palgrave Studies in Globalization and Embodiment - Claudia Liebelt, Sarah Böllinger, Ulf Vierke.- 2019 , Kindle Edition