في مؤلّفها الآخر «على الشفير»، لا تبتعد بسكال لحّود عن شوار الفلسفة وهو قاع بلا قرار. هي ها هنا تكوّن محوراً يتناول مفكّرين لبنانيين معاصرين من خلفيات واختصاصات متنوّعة نسبياً، إلا أن بينها مشتركاً دقيقاً هو دخولها في عوالم هؤلاء المفكّرين من مشاغل جانبية هي أدبية لم يعيروها سوى اهتمام طارئ (كالرواية عند جورج قرم)، أو موضوعات تناولوها تأطيراً لسواها (كالنهضة العربية الثانية عند ناصيف نصّار) أو حركة تناصّ بين نتاجاتهم (مثل كمال يوسف لأطروحات جان – بول سارتر) أو التقوا معها عفوياً (مثل التناصّ الملفت بين جورج خضر وعمّانوئيل ليفيناس). إنها قراءات في المناطق الحدودية التي تفصل، وتصل، بين الموضوعات والتواقيت داخل النتاج الواحد، وبين النتاجات المختلفة ضمن همّ فكري واحد و/أو عالم معجمي وبلاغي متشارك، أو الاتجاه صوب البروتو – فلسفية كما في حال مشير عون الساعي إلى الخروج بمسائل الأديان والحوار بينها من اللاهوتيات إلى الفلسفة. غرّد كمال يوسف الحاج خارج سربه، فوقف وحده في بناء فلسفة رأت أنّ نصيب الوجودية الملحدة لهو نفسه نصيب الماركسية الملحدة، وأنّ العقل مهما علا شأنه عاجز عن إدراك الغايات الكبرى في الحياة. أما رينيه حبشي، فأعلن أنّ اللغة والعقل عنده من ندوب السقطة الأولى، فالحدس من قبل كان مفتاح المعرفة، فيما ألحّ جورج خضر على أنّ نقده لعقلانية الغرب لا تهدف إلى تعطيل العقل، بل إلى إعادته إلى حجمه. أما جورج قرم روائياً فهمّه الهويّة رابطة أمومية تؤثث الوعي والعاطفة والذاكرة بجماليات طبيعية ولغوية وفنية وسلوكية. مشير عون الآخذ بالعلمانية على أنّها أفق الحوار الديني، يدعو العلمانية اللبنانية المرتجاة إلى التصدّي للتعويض عن خسارات كبرى مُنيت بها العلمانية العربية بنسخها القومية السورية والبعثية والناصرية.
ناصيف نصّار في دعوته إلى قيام نهضة عربية ثانية يعي تماماً أنّ ذلك مشروط بالاقتناع بأنها ممكنة وتتخطّى ثنائية الشرق/ غرب باستيعاب نتاج النهضة الأولى نقدياً، واستعادة القدرة على التفلسف الحق وتمييز الفلسفة عن الأدب والدين والأيديولوجية وطرح القضايا الأساسية وإعادة بناء سؤال الحريّة، مع إيمانه الحق بأنّ عقدة العقد في تكوين المجتمع اللبناني هي الطائفية، أي مكمن فنائنا. أفلحت بسكال لحّود في إماطة اللثام عن غور فلسفة لبنانية ممثلّة في أعلام لها تمرّسوا في الفكر وشاغله رغم فارق انحيازهم العقائدي، ولعلّ سفريْ لحّود ها هنا مثال ساطع على متانة نقد النقد الذي تتحلّى به وتمسك به من ناصيتيه من موقعها نائباً تنفيذياً لرئيس الجامعة الأنطونية، وهو موقعٌ أثرته في خدمة الثقّافة في لبنان، واليقين أنّ دراستها الفلسفة هنا وتاريخ العلوم في نانت الفرنسية أثمرت في بناء مدماك أساسي في تاريخ الفلسفة اللبنانية، وإن كنت عاتباً عليها بعض العتب، وهو عتب على قدر المحبة لغياب معلمين أساسيين عن نصّها هما أنطون سعادة وشارل مالك، رغم الفرق والتمايز، حتّى أيضاً خليل رامز سركيس في تجليّاته، وجبران رأس الحداثة التي أفضت إلى دينامية النصّ، والريحاني أحد الآحاد في عناده القومي العربي.
تتناول مفكّرين لبنانيين معاصرين من خلفيات واختصاصات متنوّعة
تعلم لحّود حقّ العلم أنّ النهضة الأولى (أي البستاني، الشدياق، اليازجيان) نضجت مع الريحاني وجبران، ثم اشتدّ عودها مع أنطون سعادة معيار الفكر الفلسفي في المشرق العربي. ففي كلّ ما حبّر، كان هاجسه إقامة فلسفة تلائم النفسية السورية، من روايتيه «فاجعة حبّ» و«سيدة صيدنايا» إلى «نشوة الأمم» و«الإسلام في رسالتيه». هو القائل في الصراع الفكري في الأدب السوري من منفاه في الأرجنتين بضرورة حدوث «نظرة فلسفية جديدة إلى الحياة والفن» ينشأ عنها «تغيير في مجرى الحياة ومظاهرها»، وهو الانقلابي الأساس في المشرق العربي على الإقطاعية الاستبدادية والحزازات الطائفية والعنعنات المذهبية والفخفخة السياسية والميعان الفردي، والداعي إلى فصل الدين عن الدولة وإطلاق حرية الزواج المدني، فأوجز هذه جميعها بقوله إنّ «النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن تفتح آفاقاً جديدة للفكر ومناحي جديدة للشعور». ارتباط الأدبي والسياسي بالنهضوي عند سعادة وثيق. من هنا يبقى فكره تأسيساً فلسفياً مستقبلياً. أما شارل مالك فلا شكّ أنّ كتابه «المقدّمة» سيرة حياتية تحتاج إلى وقفة متأنية، ناهيك بأطروحته المحكمة بين هايدغر وايتهيد، وكان درس عليهما. الفلسفة اللبنانية موغلة في شعابها في المشرق العربي، ومن هنا إسهام بسكال لحّود تتويجٌ لها من باب رصد حركيتها وسرد تاريخها ونقدها باللكمات الناعمة الخفيفة التي تضمر قرعاً في أحايين. أما أسلوبها فنادر في طلاوته وحذقه وعذوبته.