وبدورها، أتاحت لنا المؤلفة استرداد صورة هذا المجتمع بعد سبعين عاماً على الاحتلال الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي بعاداته وسيطرة قوة التقاليد الاجتماعية، ومفهوم الصلح العشائري، والسلطة وقوانينها التي تخضع بدورها لقوانين وقوة الاحتلال الإسرائيلي، لأن «المنظومة الكولونيالية الإسرائيلية تهدف إلى أن يكون المجتمع الفلسطيني بمثابة جثة، لكن لطالما رفض هذا المجتمع أن يكون في هذا الموضع» (ص269).
تعرض المؤلفة تاريخ الطب الشرعي في فلسطين في العهد العثماني والانتداب البريطاني، وخضوع تشريح الجسد الفلسطيني لقوانين الأردن ومصر والاحتلال الإسرائيلي، مع إشارتها إلى تعدُّد أدوات الإخضاع المُمَارسة على جسد الميتة/الميت الفلسطينية/ الفلسطيني، نظراً إلى «وجود العديد من مراكز القوى، وعدة ممارسات تقع على الجسد: حكم الجيش الإسرائيلي، وأدوات الحكم الفلسطيني المدنية والبيروقراطية، وأدوات الحكم الاجتماعية-الدينية وأدوات الحكم العلمية التي تطبق عبر ممارسات طبية- قضائية»، (ص 63) و«سيادة على حياة الفلسطيني/ة التي تمتد كسيادة على موته/ها وعن قدرة الإسرائيلي على بت مسألة استحقاقه/ها الحياة أم الموت، وعلى تقرير كيف سيعيش/ ستعيش وكيف سيموت/ستموت وكيف سيحزن عليه/ ها ومن سيُثكل/ ومن سيشيعه/ها وكيف وأين سيُدفن/ستدفن. لكن ثمة مفارقة تحصل في السياق الفلسطيني ترفض خضوع الجسد لقوانين سيطرة إسرائيل ومنها عمليات الاستشهاد التي يلغي الفلسطيني/ة من خلالها قدرة الإسرائيلي/ة على السيطرة عليه/ها (ص64)، أو في إضراب الأسرى عن الطعام، وتهريب المني من السجون وإنجاب الأولاد خارجه، مؤكدة «أن هذه الممارسات وغيرها تشير إلى حقيقة أن جسد الفلسطيني/ة كان دوماً محلاً لصوغ علاقات السيادة والانتفاض عليها، لا موقعاً لعلاقات السيادة-العبودية كما ادُّعِيَ أكثر من مرة» (ص65).
ولا تكتفي إسرائيل بفرض أجواء بيروقراطية على مسار كينونة جسد الميت/ة بل هي جزء من تشكيل هذا المسار كونها تؤثر في بنيته وسيرورته في مختلف مواقعها الاستعمارية، مثل الحاجز والمعابر والجدار الفاصل، وفي حالات التشريح في مركزها في «أبوكبير» وغير ذلك. (ص 211).
بعض من الوجدانية تصوغ بها سهاد نصها، وبشغف الباحثة عن المرئي والملموس، وبمنهج علمي سار بالقارئ فصلاً تلو آخر يتمحور حول جسد الفلسطيني/ة كحكاية تروي القضية برمتها، إلى مُكنى فلسفي اقتضته تأملات ما جيء به إلى المعهد، وهو ليس بالأمر اليسير، فهو سيرورة وجود ومحاكاة حيوات بشر، وجدت فيها سهاد نظريتها/ نظرتها إلى أن «الفضاء والزمن هما فئتان أساسيتان من الواقع البشري، وبالتالي هما فئتان أساسيتان في واقع جسد الميت/ ة الفلسطيني/ة سواء لكونه فضاءً - زمناً لقراءة الخطاب الطبي - الشرعي والاجتماعي - الديني، والسياسي والمؤسساتي لكتابته وللحفر عليه، أو لكونه كائناً في فضاء - زمن اجتماعي - سياسي يُبلوِر واقعه، وهو يشارك في الوقت ذاته في بلورة هذا الواقع» (ص 220). إن «إيراد كلمة فضاء في مصطلح فضاء - زمن لا تعني أفضلية الفضاء على الزمن، فواقع جسد الميت/ة في الطب الشرعي الفلسطيني يعكس تشابك الفضاء بالزمن والزمن بالفضاء على طول كينونته كجسد ميت في سياق استعماري» (ص 221).
عدم التأسُّف على المُتعاون - الجثة، وتَمَنُّع أهله عن استرداد جثمانه في مقابل مثالية النظرة إلى «جسد الشهيد/ة المُحتجز»
لذا فإن «التركيبة الآنية الخاصة بالفضاء - الزمن الفلسطيني هي نتاج تاريخ إجتماعي - سياسي، على امتداد مختلف الفترات التاريخية. فاحتلال فلسطين وإعلان إقامة دولة إسرائيل سنة 1848 (النكبة) كانا بمثابة إعلان كينونة مكثفة لأجساد جديدة (صهيونية) في فضاء - زمن فلسطين، إعلان ولوج أجساد صهيونية فضاء - زمن أجساد أخرى فلسطينية موجودة أصلاً في هذا الفضاء - الزمن، ويشكل إعلان سنة 1848 نقطة زمنية جرى فيها جدلُ مسارين تاريخيين». كما «أنّ الكولونيالية الاستيطانية الصهيونية تعزز سرعة الضغط في الفضاء – الزمن الفلسطيني كطريقة للسيطرة وسط السيادة على هذا الفضاء -الزمن بأكثر وبأسرع ما يمكن» (ص 223). فمن «خلال سياسة احتجاز واعتقال وتجميد جثامين الشهداء/ الشهيدات وإعادتهم/ن في الليل المظلم، تُعبّر إسرائيل عن ظلامية الإدارة الكولونيالية لموت الفلسطيني/ة».
مع ذلك، وخلافاً لهذه الادعاءات، فإن جسد الميت/ة الفلسطيني/ة في السياق الفلسطيني - الإسرائيلي يواصل أداء دور سياسي واجتماعي مهم ويشكل رأس مال سياسياً يعيد إحياء القضية الفلسطينية مرة تلو أخرى. مثلاً، جسد الشهيد/ة المحتجز والمبعد يُرغَب في استعادته واحتوائه في الفضاء - الزمن الاجتماعي والسياسي، لا في إبعاده وإقصائه (ص 271).
ثمة مفارقة أنّ هذا المعهد الذي أنشأه الرئيس الراحل ياسر عرفات في تشرين الأول (أكتوبر) 1994 بعد اتفاق أوسلو وبسندٍ من فتاوى دينية طلبها، فدعمت القرار (تعكس المفهوم الاجتماعي لعملية تشريح الجثة) لم يشهد تشريحاً لجثمانه (في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 أُعلنت رسمياً وفاة ياسر عرفات)، «لتطرح فرضيات عدة بشأن أسباب موته»، إلى أن بثت قناة «الجزيرة» القطرية وثائقيتها عام 2012 حول وفاته بمادة البولونيوم الإشعاعي (تفاصيل ص 148-149).
لقد أحيَت سهاد الروح في حكايا الجسد الفلسطيني، وحفرت في المخبوء من الحكايات، وإن ثمة ملحوظة لا بد من أنها ستتعب القارئ وتتعلق بنسوية صيغة المذكر والمؤنث لما تحمله من إرباك بصري.. كما أنها لا تعين في «التغيير المجتمعي» طالما أن الذكر والأنثى يرزحان تحت الاحتلال.
* صحافية لبنانية