تتناسل الحكايات في رواية «عزلة الحلزون» للزميل خليل صويلح (نوفل- هاشيت أنطوان 2019) بغزارةٍ مُرهِقة في بعض الأحيان. لكن ما إن تلتقط مفاتيحَ مَداميكها، وطرائق إنشاء طبقاتها، وأساليب إعلاء جُدرانها، حتى تستقر علاقتك كقارئ مع هذا الكم من المعلومات: التواريخ، الأسماء، كتب التراث، الجغرافيا الملعونة، مَسالِخ اللغة، والهويات الكبرى والصغرى... لا سيما أن التنقيب في كل ذلك مبنيٌّ على فرضية مُقنِعة لمُدقِّق لغوي تائه في واقعه بين «علمانية بلاستيك» يُعاني منها في موقع «الشعاع» الإلكتروني الذي يعمل فيه، وبين «دينية نفعية» تواجهه في دار النشر المعنية بإصدار كتب التراث. وطلباً للنجاة المؤقتة من كل هذا الزيف، يبدأ الغوص في تاريخ أسلافه الذين تواترت أخبارهم في أشعار شعراء الربابة الجوالين، كغزاة مرَّةً، وكأصحاب كرامات، أو عشاق مخذولين في مرَّات أخرى، بغية تصحيح السيرة وتصويب وقائعها.في الموقع الإلكتروني، تتكثَّف خديعة الحاضر، وتزويره بفجاجة، حسب أهواء من يدفع أكثر، وبحكم المحسوبيات الأمنية بالدرجة الأولى.


الزيف إذاً هو سيِّد المشهد، بحيث يتعدّى أسى المُدقِّق، الذي ابتكر لنفسه اسم «ميخائيل جبران»، الأخطاء المتعلقة بأحرف العلّة، والتاء المربوطة والمبسوطة، إلى علَلٍ أبلغ شأناً، لها علاقة بتهتُّك اللغة، واستباحتها، خاصةً مع رئيس تحرير مُدَّعٍ، وقوَّاد، يضع اسمه على مقالات لا يكتبها بنفسه، ليتحوَّل الصحافيون «مؤرِّخو اللحظة» إلى مزوِّريها بكل إمعان، بناءً على «إعادة تدوير الشعارات القديمة للسلطة ببلاغة جوفاء، وطلاء برَّاق، وبذاءة في تفسير الواقع» بحيث «تُحبَس الحقائق في أقفاص اللغة المُراوِغة». على الجانب الآخر في دار النشر، يبقى المدقق/ الراوي في تلك الأقفاص، لكن مع نكهة مغايرة لجهة الزَّمَن، وللواجبات في تحوير اللغة، و«معالجة علل المخطوطات بقصد تحسين زمرة دم الطوائف المذكورة فيها»، ولو أدَّت إلى تشويش المعنى أو غيابه نهائياً، طالما أنها تنال رضى الرقيب، وتؤدي إلى مزيد من النفع لصاحب الدَّار «هشام البارودي» الذي وصل إلى حكمة مفادها أنه «في زمن الفوضى علينا تهجين الخراب بما ليس فيه».
هنا يستحضر صويلح كتاب «فتوح البلدان» للبلاذري، وكتب التوحيدي والجاحظ وابن رشد، وأيضاً ابن الجوزي والمقفع ونهايتهما المُفجِعة، كمثال للوحشية والبربرية المتناسلة، وكما كان كتاب «كليلة ودمنة» يركز على الصراع بين السيف واللسان، فإن المدقق اللغوي الذي تحوَّل إلى «محقق كتب تراثية» بات ينقِّب عن مرايا التاريخ في الحاضر، لأن كليهما مليء بتوابل الحكايات وتجويد السِّيَر. وكما أن «التاريخ هو مجموعة وثائق عن الخزي، وليس سجلاً للفضيلة»، فإن الحاضر يُماثله في تسويغ الفجيعة، وطمس معالمها، بمساعدة اللغة التي تتعرض هي الأخرى لمذابح متكررة، وكأن «ثمة دماً لا مرئي يُغذّي شرايينها ويُغرِق المعنى بالقسوة»، بحيث تعتني حروفها وكلماتها بوحشية القاتل وتُهمل عمداً أحساسيس القتيل. في سياقٍ موازٍ، وضمن ترابط نسيجيّ مع طبقتي السَّرد السابقتين، يأتي سعي المدقق لرَتْيِ حكايته الشخصية وسيرة أسلافه، باعتبارها معركة جانبية ضمن معارك الهويات المتصارعة والمتضادة، وما تُسخِّره كل منها من وثائق دامغة على أحقية وجودها وسيادتها على الآخرين، كمحاولة لترميم السيرة وتأصيل نسب «الهلاليين» الذين فرض جدُّهم الثاني أن يُسمّوا بأسماء حيوانات يختارها من كتاب «حياة الحيوان الكبرى» لمؤلفه كمال الدين بن محمد الدميري، ليبدأ الراوي بتحديد مدى التطابق بين كل اسم من أجداده وصفاتهم الواقعية، ومع الحصيني وابن آوى وفرخ والسخلة والسرحان... تتناوب على تاريخ العائلة الكثير من المفارقات والانقلابات، من قطاع طرق معروفين بالبطش والقسوة، أي من يحملون في صدورهم قلوب الذئاب، إلى صوفيين أو عشاق تتكشَّف صدورهم عن قلب طائر رهيف، إذ تحكي المرويات وتوابلها أن العم الخامس تحوّل من سائق آثار إلى صاحب كرامة ويصير قبره مزاراً، والعم الرابع انتقل من «واوي» إلى «مُبارَك»، في حين أن الجد السادس انتقل من كونه عاشقاً ولهاناً إلى حاجّ باغته الموت في مكّة المكرمة.
تتناسل الحكايات بغزارةٍ مُرهِقة في بعض الأحيان


مصائر الأجداد، و«مستنقع التاريخ»، و«المسالخ اللغوية»، التي يعيشها الراوي دفعته بالمقابل إلى الحب باعتباره سبيلاً لكسر عزلته، وتحطيم قوقعته، والتدقيق هذه المرة في هوية الجسد، وأي من جيناته هي الأقوى، تلك المتعلقة بالقسوة والبطش أم المختصة بالرهافة والحب؟ لا سيما بعد هجرة حبيبته «ثريا الصباغ» إلى باريس وتلفيقها لسيرة مستعارة من أوجاع الأخريات، وإيجاد ضالّته في «رهام سمعان» التائهة بين ماركسية والدها الصارمة، ومواعظ قداس الأحد التي تستمع إليها مع والدتها، ومعها سيعيد اكتشاف خبايا الجسد من خلال خرائط ترسمها الشهوة وحدها، من خلال معارك لا تقل ضراوةً عن التي تحصل في ميادين القتال بمقابرها المفتوحة، بين كرّ وفرّ، انجذاب وصدود، وسريالية فاقت في بعض ملامحها ما أنجزه لويس بونويل في سينماه. إذ إن انتقال «رهام» من راهبة محتملة إلى عاشقة شبقة خَلْخَلَ ميزان طبيعتها، خاصةً مع عملها على ترجمة كتاب «تاريخ الأرداف» لجان ليك هينيج إمعاناً في كسر عزلتها، ولتصبح مع الزمن هي خيط التركواز في النسيج الأسود لحكاية الراوي، الذي انتقل من التدقيق اللغوي إلى التدقيق في هوية جسد المحبوب، بتحدباته وتقوُّساته، ثم في تغيير هويات الأجساد بفعل عمليات التجميل، وأيضاً في عمليات التسافد اللا أخلاقية التي دفعت بـ«سهام» الروائية الطارئة أن تقايض روايتها غير المنشورة بعملية شفط دهون ونفخ شفاه. ويعزز من شعوره بالسأم والعزلة «الأصنام» في «حانة الأصدقاء»، و«الكركدن» الحزبي بأقواله المجترة، وأيضاً غزو «الدال» المزورة قبل الاسم كسلم للصعود إلى الوظائف العليا، وكذلك لقب «المفكر الاستراتيجي» الذي بات متوفراً بغزارة في دكاكين الميديا والجامعات والمحطات الفضائية، وغيرها مما زاد من قناعته أن ذلك ما يجعل من فتاوى ابن تيمية وأتباعه قابلة للعيش قرناً وراء آخر من دون عقبات، ومثلها هرطقات أبي حامد الغزالي، وكتاب «الباه» للتيفاشي، على عكس مؤلفات ابن رشد وغيره من التنويريين. وهو ما يؤدي أيضاً إلى تَفَتُّق البربريات المعاصرة بما يوازي وحشية سفيان بن معاوية في تقطيع أعضاء ابن المقفع ورميها في التنور أمامه حتى موته. وفوق ذلك تأتي جرائم اللغة وخياناتها ضمن كتابات انتقامية، وتحزُّبات طالت حتى المُفردات، لتضعنا مع الراوي في الوضع ذاته، «مُتخبِّطين فوق رمال متحركة، في صحراء لا نهائية، وقد قذفتنا ريح عاصفة خارج صدفاتنا الصلبة، بحيث بتنا جميعاً مثل حلزون مكسور الظهر».