الميسر لعبة مقامرة تقوم على نحر جزور، أي ناقة أو بعير، والمراهنة على لحمه بالقِداح، أي بالسهام التي لا نصل لها. يقسم اللحم إلى سبعة أكوام. ويشارك في المقامرة سبعة لاعبين يتقامرون على أكوام سبعة منها. أما الأكوام الثلاثة الأخرى، فهي للقريب، أو الأمين كما يدعى أيضاً، وللحرضة، والجزار. الحُرْضة يجيل السهام في الجعبة ويحركها بضربة من يده. هو الشخصية الأشد غموضاً، الذي يدعى أيضاً المُجِيل أو الضريب، لأنه يجيل القداح في الجعبة ويضربها بيده، فهو الأكثر غموضاً في لعبة الميسر. ويقال إنهم «كانوا يغشون عينيه بمغمضة، ويجعلون على يديه خرقة بيضاء يسمونها المِجول يعصبونها على يديه، أو جلدة رقيقة يسمونها السُّلفة... ويلتحف هذا الحرضة بثوب يخرج رأسه منه ثم يجثو على ركبتيه ويضع الربابة [الجعبة] بين يديه، ويقوم وراءه رجل يسمى الرقيب... على الحرضة وعلى الأيسار كي لا يحتال أحد على أحد وهو الذي يأمر الحرضة بابتداء الميسر» (الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير)والوصف الذي وصلنا للحُرضة غامض ومحيّر. فهو: «رجل يتألّه عندهم، لم يأكل لحماً قط بثمن» (الآبي، نثر الدر). وكما نرى من هذا المقتبس، فنحن أمام صفتين غامضتين للحرضة:
1- أنه: لم يأكل لحماً بثمن قط.
2- وأنه: رجل يتألّه.
ويضاف إلى هاتين الصفتين أخرى:
3- أنه: نذل خسيس: «فإذا عَرف كل رجل منهم قِدْحه دفعوا القداح إلى رجل أخس» (تاريخ اليعقوبي). يضيف اللسان: «الحرضة: الذي يضرب للأيسار بالقداح، لا يكون إلا ساقطاً، يدعونه بذلك لرذالته» (لسان العرب). يزيد الدينوري: «ولا يجعل حرضة الّا كل وخش من الرجال» (ابن دريد، جمهرة اللغة). والوخش هو الرذل.
وقد افترضت الغالبية أن خسة الحرضة آتية من أنه لا يدفع ثمن ما يأكله من لحم قط. أي أنهم فسروا جملة «لم يأكل لحماً بثمن قط» على أنها تعني أنه يعتاش عالة على لحم الآخرين: «الحرضة: الرجل الذي لا يشتري اللحم ولا يأكله بثمن إلا أن يجده عند غيره» (لسان العرب). يضيف ابن دريد: «الحرضة: الذي يحضر أصحاب الميسر ليجيل لهم القداح ليطعم اللحم ولم يأكل قط لحما بثمن، وهو عار عندهم» (ابن دريد، جمهرة اللغة).

«عدّاد اللحام» لفرانشسكو غويا (زيت على كانفاس ــ 45 × 62 سنتم ــ 1808/1812)

بالتالي، فخساسته مرتبطة بكونه لا يأكل اللحم بثمن، أي أنه لا يشتري اللحم أبداً. أما نحن، فلا يبدو لنا أن أمر الخساسة مرتبط بعدم أكل الحرضة للحم المدفوع الثمن. دليل ذلك أن المصادر الأقدم لا تربط بين الأمرين كما رأينا عند اليعقوبي. فهو يصفه بالخساسة من دون أن يشير إلى ارتباط المسألة باللحم. بذا، نعتقد أن ربط الخساسة بموضوع اللحم تفسير وليس خبراً. يؤيد هذا أن جذر «حرض» يعطي معنى الضعف والخساسة، ما يعني أن الخساسة صفة أصيلة عند الحرضة وليست طارئة. إنها خساسة في الجذر ذاته: «الحرض: الفاسد. حرض الرجل نفسه يحرضها حرضاً: أفسدها... وحرضه المرض وأحرضه: إذا أشفى منه على شرف الموت... وناقة حرضان: ساقطة... وكل شيء ذاو حرض» (لسان العرب) وسوف نرى لاحقاً أن خساسته نابعة من مهنته في ما يبدو.

رجل متأله
غير أن هذا الرجل الذي يوصف بأنه نذل يتبدى شخصاً محترماً، من ناحية ثانية. فهو «رجل يتألّه عندهم» كما مرّ في المقتبس أعلاه. والتأله: التدين والتعبد: «فلان يتأله: يتعبد. وهو عابد متأله» (الزمخشري، أساس البلاغة). يضيف اللسان: «التأله: التنسك والتعبد» (لسان العرب). وكانت صفة التألّه تطلق على المتعبدين الشديدي التدين، في الجاهلية. فعبد المطلب، جد الرسول، وصف بأنه «كان يتألّه، ويعظم الظلم والفجور [أي يستفظ ارتكابهما]» (ابن سعد، الطبقات الكبرى). كما وصف عمرو بن نفيل، الحنيفي الشهير، أيضاً بأنه: «كان يتألّه في الجاهلية» (ابن كثير، البداية والنهاية). عليه، فالحرضة «رجل أخس» لكنه «رجل يتأله» في الوقت نفسه! وهذا أمر متناقض. لكن هناك من يخبرنا أن الحرضة رجل عدل: «ثم يجعلونها على يد رجل عدل عندهم يجيلها لهم» (البقاعي، نظم الدرر). يضيف ابن عادل: «وهو رجل عدل عندهم» (ابن عادل، تفسير اللباب). إذن، فهو نذل ساقط وعدل في اللحظة عينها. إنه التناقض كاملاً. 

يتأله أم نبالة؟
ومن أجل حل هذا التناقض، فقد اقترح بعض الحديثين وجود تصحيف في المقتبس السابق. وقد افترض توفيق فهد أن التصحيف لحق بكلمة «ثمن» وأنها في الأصل «سمن» لا ثمن: «يكفي أن نقرأ «سمن» بدل «ثمن» كي نعطي آخر كلمة من هذه الجملة معنى دينياً» (توفيق فهد ـ الكهانة العربية قبل الإسلام ـ 2007، ص 544، هامش 13 من هوامش 2/1 الطرائق الاقتراعية). بالتالي، نصبح أمام كلمتين تأخذان طابعاً دينياً. فالحرضة رجل متدين، وهو لا يأكل لحماً بسمن بسبب تدينه، أو انطلاقاً من وضعه الديني.
لكننا لا نعتقد أنها تخريجة فهد صالحة. فهي لا تدفع فهمنا للحرضة والطقس ولو بوصة واحدة للأمام. فما معنى أنه لا يأكل لحماً بسمن؟ هل يعني أنه لا يأكل اللحم المدهن؟ أم أنه لا يأكله إذا طبخ بالسمن؟ ولماذا يفعل ذلك؟ 
غير أن فهد ينقل لنا اقتراحاً أهم من اقتراحه. يقول الاقتراح أن التصحيف حل بكلمة «يتأله» لا بكلمة «ثمن»: «يقرأ هوبر:... نبّالة بدلاً من يتألّه، في حين أن الأمر لا يتعلق برمي السهام، بل بهزّها واستخراجها من الخرج» (المصدر السابق، ص 544، هامش 13 من هوامش 2/1 الطرائق الاقتراعية). والخرج ترجمة غير سليمة لكلمة «الربابة»، أي الوفضة التي تجعل فيها سهام الميسر.
كان العرب يستذلّون الصيد، ويحقرون الصيّاد


ويبدو لي أن هذا الاقتراح خصب رغم رفض فهد له. ولا بد أن هوبر قد وضع اقتراحه هذا استناداً إلى وجود القِداح، أي السهام غير المنصلة وغير المريشة، في لعبة الميسر، ودور الحرضة في التعامل معها. فهو الذي يحرك هذه السهام ويستخرج ما برز منها. ومن المنطقي أن يتساءل المرء عن سر وجود السهام في لعبة الميسر. فلماذا يكون اللعب في الميسر بالسهام ـ القداح؟ ألا يشير هذا إلى أن هذه اللعبة انبثقت من تقليد صيد، أو تقليد له علاقة بالصيد في الأصل؟ وإذا كان الأمر يتعلق بالصيد، فإن من المنطقي أن تكون النّبال هناك، أي أن يفكر المرء أن الحرضة «رجل نبّالة» لا «رجل يتأله». وحين نأخذ باقتراح هوبر، فإنّ الجملتين تنسجمان بالفعل: رجل نبّالة، ولا يأكل لحماً بثمن قط. فالحرضة نباّلة، أي صياد رامي نبال، لا يأكل لحماً مشترى بثمن مطلقاً. فهو يحصل على ما يحتاجه من اللحم بالصيد. بذا فالقول أنه لا يأكل لحماً بثمن تعني أنه صياد لا مثيل له في براعته بحيث لا يحتاج إلى شراء اللحم مطلقاً. ليس ذلك فحسب، بل إن كلمة «نبّالة» هنا يمكن أن تفسر لنا سر وصف الحرضة بالخساسة. فالعرب في الجاهلية كانوا يحتقرون مهنة الصياد الصافية. كانوا يصطادون، لكنهم كانوا يحتقرون من يعتاش على الصيد: «وقد وجدنا العرب يستذلّون الصيد، ويحقرون الصياد. فمن ذلك قول عمرو بن معد يكرب يذم بني طليحة...: حيدٌ عن المعروف سعي أبيهم/ طلب الـوعول بوفضة وبأكلب/ حتى يَكهّن بعد شيب شامل/ ترحا له من كاهن متكذب» (الجاحظ، الحيوان).
إذن، فالعيش عبر الصيد بالوفضة، أي جعبة السهام، والكلاب أمر خسيس. أكثر من ذلك، يبدو أن صياد الوعول من بني طليحة يصير كاهناً ما بعد أن يشيخ ويشيب: «حتى يكهّن بعد شيب شامل». ومن الصعب أن تكون كلمة كاهن ههنا بمعنى آخر، بعدما تبعتها كلمة «يتكذّب» أي أنه كاهن كاذب. بالتالي، فنحن هنا مع كاهن- صياد، أي ربما مع كهانة صيد الوعول. ولعل كهانة صياد الوعول هذه هي ما أراده بيت أمية بن أبي الصلت حين حضرته الوفاة:
ليتني كنت قبل ما قـد بـدا لـي
في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
ونحن نذكر أنه كان لوعول الأروى حمى في جبل ثبير، جبل الذبحاء، في مكة، كما أخبرتنا الشاعرة: «والله أمّن طيرها/ والعصم تأمن في ثبير» (سيرة ابن هشام)
بالتالي، يبدو أن حرضة الميسر، يجب أن يكون صياداً، وربما طرازاً من الصيادين المقدسين، الذين يرعون قطعان التيوس الجبلية المقدسة أيضاً. أي أنه في نهاية الأمر شخصية مقدسة، تثير النفور والاحترام والخوف معاً. وقد كان هذا حال رعاة قطعان الخنازير، التي هي حيوانات أوزيريس المقدسة، في مصر القديمة. فقد كان ينظر إليهم على أنهم نجسون لا يمكن لمسهم. لكن نجاستهم نابعة في الأصل من ارتباطهم بالخنزير، حيوان الإله ورمزه. فحيوانات الإله لا تؤكل لأنها مقدسة. والحيوان الذي لا يؤكل يتبدى وكأنه كحيوان نجس. وهذا يعني أن القداسة والنجاسة وجهان للعملة ذاتها.
إذن، فالحرضة كان نبألة، أي رامي نبال. لم يكن متألّهاً، بل نبّالة يصيد بالقوس والنشاب. ومن أجل ذلك كان في غنى عن شراء اللحم. أما خسته فنابعة من احتقار العرب لمهنة من يعتاش على الصيد. وربما كانت هذه المهنة ذات طابع ديني أساساً. وقد بنى كاتب تونسي أطروحة الدكتوراه خاصته انطلاقاً من أن الحرضة «رجل يتألّه»، أي أنه بناها على تصحيف حوّل «نبّالة» إلى «يتأله». فيا لعظم رسالة الدكتوراه خاصته.

* شاعر فلسطيني