رغم أن العنوان يبدو شمولياً يمكن اعتباره إطلاقياً في جمعه بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انطلاقاً من نظرة غربية شائعة، إلا أن «مأزق الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» الذي صدر عام 2018 وانتقل أخيراً إلى العربية (تحرير يورغ غرتل ورالف هكسل – ترجمة ماريا الدويهي ـــــ «دار الساقي» 2019)، يقدّم مادة بيانية ثرية، أخضعها الباحثون المشاركون لتحليلات منهجية. يقوم البحث على سؤالين: كيف يبدو الوضع بالنسبة إلى الشباب بعد ست سنوات على «الربيع العربي»؟ وكيف يتعامل هؤلاء مع حالات فقدان الأمن وغياب اليقين التي يواجهونها في حياتهم اليومية؟ لإجراء الدراسة، أجريت مقابلات مع نحو 9 آلاف شاب تراوح أعمارهم بين 16 و30 سنة، في ثمانية بلدان هي: البحرين، مصر، الأردن، لبنان، المغرب، فلسطين، تونس، اليمن، إلى جانب اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان. واختار واضعو الدراسة «فقدان الأمن» و«غياب اليقين» كمصطلحين رئيسيين لوصف وضع الشباب العرب.
()

ستبدو الدراسة (قامت بجهد «مؤسسة فريدريش إيبرت»، بالاشتراك مع «جامعة لايبزيغ» ومعاهد لاستطلاع الرأي وشركات مختصة) أحياناً محايدة أكثر من اللازم. لكن رغم التشعبات الكثيفة التي تتعلق بالموضوع، لن يشعر القارئ بالنقصان. ولا يعود هذا إلى جدية الباحثين فحسب، بل أيضاً إلى احتكام البحث في الموضوع، ودقة المحررين في عدم الخروج عنه. ذلك لا يلغي نوعين من التساؤلات المنهجية. الأول عن تقسيم البحث إلى محاور أربعة، تستثني العامل الأنتروبولوجي رغم أنه يقع في صلب الموضوع ويطرح نفسه عاملاً أساسياً دائماً، عند تحول المفاهيم إلى سلوك. أما الثاني، فيتمثّل في طبيعة العينة، التي تشمل ثمانية بلدان عربية محددة. لكن عموماً، العمل جدي. يتلاءم مع الهدف الذي وضعته الدراسة لنفسها: الإضافة العلمية إلى النقاش حول الشباب في هذه المنطقة، والارتكاز بالتحديد إلى قاعدة بيانية ومعلوماتية أكثر شمولاً. رغم أهمية الدراسة، يبقى الهدف الذي تضعه لنفسها كبيراً، بسبب حجم العينة الصغير بالقياس إلى الهدف المنشود. لكن ذلك لا يلغي أن دعوة الباحثين بعد تحليل النتائج النهائية هي دعوة منطقية، باعتبار النتائج دعوة تكميلية للتوفيق بين ما تسميه الأفكار المألوفة، وغالباً يُقصد بها الأفكار النظرية، والنتائج العملية التي تم التوصل إليها.
الأرقام تحرّك ركود النظريات، خاصةً في اليمن. يتسع هناك المأزق بوضوح تام. منهجياً، وفي اليمن تحديداً، لاحظ الباحثون وجود تأثيرات واضحة على أكثر من مستوى. وهي مستويات لا تنطلق منها الدراسة ولا تكتشفها، بل ما تكتشفه هو حدود التأثير ومواضعه. نتحدث عن الحرب، الجوع والمجاعة، وانتشار الأمراض المعدية. وبسبب الحرب، وبحلول صيف 2017، كان في اليمن سبعة ملايين شخص تقريباً يعانون سوء التغذية الحاد. وهذه مصطلحات دقيقة وعلمية، تتوخى الحذر في الوصف، كي لا تصير مواقف أكثر من كونها وقائع. في اليمن، وحده، الذي تبين الدراسة أنه الأكثر تأزماً بين الدول المدروسة، أبلغ في العام نفسه عن أكثر من 300 ألف إصابة محتملة بالكوليرا. ولكن ليس اليمن صاحب «الخصوصية» الوحيدة. هناك «خصوصيات» ينتبه إليها الباحثون في مواقعها. في التمهيد، مثلاً، تشير الدراسة إلى دور الاحتلال الإسرائيلي المتنامي في تغيير «هيكلية» فلسطين، ما يجعل الموضوع الفلسطيني ذا خصوصية محددة. وهذه من النقاط التي ينتبه إليها البحث.
الاعتراف بالخصوصيات بين العينات ورصدها تجنباً للتعسف في التحليل، يبقى خاضعاً لأجندة «مركزية»، تستقي منها الدراسة فصولها. في مسألة الجندر تحديداً، ينطلق العرض من إينس براوني، التي تفترض أن غياب المساواة في المجتمعات العربية مؤطر في كثير من الأحيان على أساس الخصوصية الجندرية. وهذه مقاربة لا تأخذ في الاعتبار العوامل الأخرى، بل تطمسها. وبعد هذا المدخل الضروري، سرعان ما تركز الدراسة على أربعة مواضيع «جندرية»، هي الزواج والتعليم والتطلعات إلى المستقبل، والتحرش الجنسي، ربما لصعوبة التوسع. وإلى المسألة الجندرية، تطرح الدراسة الكثير من الأسئلة الهامة المتعلقة بالموضوع: البطالة والزواج المتأخر، والإحباط بسبب السياسة. لكن الدراسة ليست حاسمة ولا تدّعي أنها كذلك، إذ تستشهد مقدمتها بفكرة لايما مورفي عن «التركيبة المرقعة لهويات الشباب المعاصر»، التي تفترض جميع الاحتمالات عن الهوية، فلا شيء محفوراً في الصخر. يجب مراعاة عامل الزمن دائماً، لأن لمكونات الطرح درجات مختلفة من الأهمية تكبر وتصغر حسب معايير تختلف باختلاف الزمن. وإن كانت الدراسة راهنة تماماً، إلا أنها تنتبه إلى أن رصد المتغيرات غير ممكن بصورة فورية. ولا شك في أنّ الدين هو أحد هذه المتغيرات. حالياً، يلعب الاستغلال الأيديولوجي للدين من النخبة في ظل تزايد أعداد المتعلمين دوراً هاماً في العودة إلى الدين. الاستبيان يساعد في الوصول إلى تصورات جدية، عن هذه العودة وأسبابها، لكنه يحصر الخيارات بين اثنين: هل هي عودة منظمة للدين، أم مجرد سلسلة مواقف فردية هدفها تكوين هوية قادرة على الجمع بين العولمة من جهة، والثقافة الوطنية من جهة ثانية.
اللافت هو نسبة اللبنانيين الذين يثقون بالجيش أكثر من القضاء والأحزاب السياسية


يبدو لافتاً، اعتماد الدراسة على مزيج «معقد»، يجمع بين منهجين مختلفين في العلوم الاجتماعية. الأول إنكليزي تقليدي، حيث يتكئ البحث إلى نظريات أنطوني غيدنز في دراسة هيكل المجتمع، وإلى مفهوم رأس المال وفق مصنفات بيار بورديو المتنوعة لرأس المال، وليس وفق المفهوم الماركسي الكلاسيكي. وثمة ما هو لافت أكثر من ذلك. يلاحظ البحث أن حالات اختفاء اليقين تنمو على ثلاثة مستويات: الأمن الوجودي على المستوى الفردي، الأمن المعيشي على مستوى الأسرة، وتوفير الرعاية من المجتمع والدولة، ويحدث هذا على مستوى السياسة. اللافت أنه ضمن هذه المسارات، يكتسب غياب العنف أهميةً. وبينما يلعب اختراع الأمن دوراً جدياً لصرف النظر عن غياب اليقين، يستنفد هذا الدور نفسه وينتهي سريعاً، تاركاً جميع الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها.
من النتائج المقلقة في الاستبيان، أن المؤسسة التي تحظى بأعلى مستوى من الثقة في أوساط الشباب هي الجيش. وقد جاءت تونس ولبنان في المركز الأول، بنسبة 79٪ في حين سجل أدنى مستوى من الثقة في أوساط الناشطين الفلسطينيين، بلغت 24٪. وقرأ الباحثون هذه النتائج بهدوء، بحيث لم تكن مفاجئة، لأن الجيش في تونس لم يشارك إلى جانب الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، في مقابل عدم وجود جيش فعلي في الأراضي الفلسطينية. اللافت هو نسبة اللبنانيين الذين يثقون بالجيش، مقابل ثقتهم بالمؤسسات الأخرى، كالقضاء، المنظمات الدينية، والأحزاب السياسية وغيرها. اللافت أيضاً، هو أن أكثر من نصف المشاركين لا يثقون بالأحزاب السياسية. ليست الثقة مسألة ثانوية، بل هي أساسية لفهم المأزق. وهي ليست «خاصة» تماماً. أبرز الخلاصات في العمل تطال المجتمع المدني، إذ توصي الدراسة منظمات المجتمع المدني الوطنية بالنظر في كيفية الوصول إلى الناشطين ضمن الحيز غير الرسمي للمجتمع المدني والتعاون معهم. ينطبق الأمر نفسه على الاستراتيجيات «الغربية» لدعم المجتمع المدني، التي تستهدف عادة منظمات المجتمع المدني الرسمية. التوصيات معقدة أكثر من قراءة الأرقام، وقد تحتاج إلى تفكيك هادئ، خاصةً عندما تقول إن «دعم التيارات الاجتماعية التي لديها شعبية ومنتشرة بين الناس، هو أمر يستحق عناء المحاولة».