المدينة التي على الشاطئالجزائر العاصمة. لا عجب أن المدينة تبدو مُنهَكة، فالتاريخ يُحاصرها ويُحاصرك فيها بوطأته الكابسة للأنفاس في كلّ مكان ومن كلّ الاتجاهات. كأنها ماءٌ ثقيلٌ تحاول أن ترفع رأسك إلى ما بعده فلا تستطيع، ففوقك يحوّم عبد القادر الجزائري رافعاً سيفه المعقوف في الساحة المسمّاة باسمه، وعلى الناصية مقهى الميلك بار حيث زرعت زهرة ظريف بيطاط قنبلتها كوردةٍ لحبٍّ قادم. شارع التسوّق والتسكّع اسمه ديدوش مراد، فيما تتبروز على زاوية المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر لوحة حجرية: الشهيد محمد العربي بن مهيدي، والشارع مسمّى على اسمه طبعاً. القصر الحكوميّ مسوّر بصور مجموعة الـ22، ويهيمن على الفضاء بكامله نصب الشهيد: سيلٌ عملاقٌ يتحدّى الجاذبيّة ليلقّح ماء الأرض بماء السماء. سيلٌ من الدماء البيضاء المتصاعدة من متحف الثورة تلامس الغيوم. وطأة كابسة للأنفاس في كلّ مكان ومن كلّ الاتجاهات.
لا عجب أن المدينة أنهكتني وأنا أُطارد أشباحها المتكاثرة مع كل خطوة، مثلما أنهكتني وأنا أسترجع عمّان الخالية من الأشباح. مدينتي هي واحدة من تلك المدن التي تكره نفسها ولا تريد أن تكون لها ذاكرة، ولهذا فهي تمحو تاريخها أولاً بأوّل بخرقةٍ مغمّسةٍ بأوهام القفز إلى الأمام: القفز من الفراغ الممحوّ إلى الفراغ الماحي؛ ولهذا تظلّ معلّقة في الهواء، أو ساقطة في هاوية لا تنتهي بقعر، بلا وزن ولا ثقل، لا شيء فيها يكبس على الأنفاس سوى أزمة المرور ورذالة البشر.

«الجزائر العاصمة» لابراهيم صديق طالب

سيدي فرج. أجلس على الشاطئ طلباً للاسترخاء فتطالعني بوارج الفرنسيين في الأفق، وآلافٌ من الجنود يتعثّرون بين الطلقات الناريّة وضربات السيوف إذ بدؤوا غزوهم للبلاد. حتى هنا؟ إدارة مهرجان المسرح الوطنيّ تفضّل أن يقيم ضيوفها بعيداً عن ثقل المدينة، لكنّهم لا يعلمون أن من يُدقّق النظر في أطراف المنتجع سيقع تحت ضغط المزيد من كثافة التاريخ. ثمّة ميناءٌ بناه المستعمِرون إلى جوار الوليّ الذي أعطى المنطقة اسمه. سألت عنه فلم أتلق إجابة شافية. من كان ذاك النائم خلف بابٍ أزرق موصد تحت غطاء من الأشجار؟ متى عاش؟ متى مات؟ لماذا دفن هنا إلى جوار البحر؟
أتخيّله يسير على الماء بين السُّفن، يحمل عصا وجبّته مغبرّة قديمة، يتجوّل في اللحظات الحاسمة بين موتِ النور وقيامة الظلام. حين تكشفه عيناه اللامعتان يعود بسرعة إلى سريره الحجري وهو يبتسم. هنا استقبل الفرنسيين وودّعهم دون أن تتغيّر ملامحه ولو قليلاً. كان يعرف. ولذلك فهو لم يزل في رقدته المطمئنة تلك حتى يومنا هذا.
ساحة عزّ الدين مجوبي. المسرحيّ الذي تعمّد بالدم يفرض حضوره على دار الأوبرا الفرنسيّة التي حوّلها الجزائريون إلى مسرحهم الوطنيّ. إلى الجانب يقعي طانطنفيل كقطّ مشاكس: المقهى الذي يشتبك فيه المثقفون بالطلاب بعابري السبيل بالمتسكعين. ثمّة حكمة لا تُضاهى في أن يكون المسرح وسط المدينة، وسط البلد، وسط الناس.. وفي النقطة التي تلتقي عندها الجزائر الكولونيالية بالجزائر العثمانية. ذلك اللقاء/ التلاقح/ الغضب/ الاندماج/ الانفصال/ القبول/ الرفض/ التفاعل/ التقاتل/ الاستعمار/ التحرّر/ الاستقلال/ أمس/ اليوم/ وغداً. هذا هو مختبر الثقافة الحقيقي. هكذا يكون. فجأةً وفي وسط المدينة.
ألمحه بطرف عيني بطرف الساحة. الرجل العاري الصدر الحافي القدمين. هو ليس سوى النتيجة المنطقية لمسرحٍ يفرض فضاءه على المارّة ويتّسع بهم. المتشرّد الجميل. كان حاضراً كل يوم، وما إن تُشعل الفرقة الموسيقية المكان بأبواقها الطويلة وأهازيجها الحماسية حتى يخرج الراقص الكامن فيه مباشرة ودون خجل. دون مقدّمات. دون ملابس تليق بالمناسبة. دون فذلكات. هو البطل في مسرح الساحة، وفريق الموسيقيين كومبارس لأدائه البريّ. لن أنسى تلك النشوة. تلك الانحناءة في الظهر إلى الخلف وفي الحوض إلى الأمام. تلك الحركات المتناسقة/ العشوائية للساقين والذراعين وهي تخطّ رسماً جديداً للجسد النحيل. أنت البطل اليوم يا صديقي. نحن مُشاهدوك، خلفيّتك المقفرة، وها أنا أكتبك أيضاً لتعيش أكثر منّي. أُرقص. أُرقص.
في الطريق إلى فندق الرياض. دراجة ناريّة عليها شرطيّ وضوءٌ لوّاحٌ تسير أمامنا. الجزائر واحدةٌ من البلدان النادرة (وربّما الوحيدة) التي يُعامل فيها الكتّاب والفنّانون الضيوف كشخصيات فائقة الأهمية. VIPs حقيقيون بمواكب رسميّة ومرافقة أمنيّة لفتح الطريق والمرور دون توقف عند حواجز الشرطة. في بلدك يُمعنون في تجاهلك وهنا تُعامل كرئيس دولة! لكن الحافلة تسير، وتمتلئ بالكلام الفارغ ومحاولات التّزبيط. الشبّاك مفتوحٌ والهواء المحمّل برطوبة البحر يدخل مصطدماً بوجهي في طريقه. أحاول الانسحاب من الضجيج السخيف حولي فتلمعُ في رأسي جملتان: «الهواء كثيف. يصفعني مرّةً إثر مرّةٍ تاركاً آثار أصابعه الدّبقة على وجهي».
أعرف هذه اللّمعات جيّداً. إنها قصّة جديدة تتشكّل. جاءتني هنا، الآن، في العاشرة والنصف ليلاً داخل الحافلة المتّجهة إلى الفندق بصحبة فنّانين ثرثارين ممحونين. أسأل عن قلم. لا أحد يملك قلماً، ولا حتى السائق. وتتوالد الجُمَل في رأسي فأظلّ أردّدها كمن يحفظ نشيداً مقدّساً إلى أن نصل، ثم ركضاً نحو المطعم لأستعير قلم النادل وأوراق فواتيره وأكتب.

المدينة التي داخل صدري
الهواءُ كثيف. يصفعني مرّةً إثر مرّةٍ تاركاً آثار أصابعه الدّبقة على وجهي. هذه المدينة مُنهَكةٌ وذاكَ هو زفيرها. عندما شقّ الجرّاحُ صدري، وجد تلك البنايات التي حالَ لونها وتشقّق دهانها. في إحدى النوافذ كانت امرأةٌ تقول لجارتها: زوجي لم يعد ينفع، ثم قلبت فنجان القهوة لتقرأ مأساتها. في نافذةٍ أُخرى كان رجلٌ متكرّشٌ يجلس بملابسه الدّاخلية يحرق السجائر. يُشبه زوج أمي الذي مات منسيّاً بساقٍ أكلها السّكري. هناك في الأفق بحرٌ تمتلئ زرقته بسفنٍ تنتظر. لا أحد على رصيف الميناء، والرّافعات متوقفة، والبخار يتصاعد ليُعطي قوّة إضافيّة لليد التي تصفعني، وذلك الضوء قويٌّ في عينيّ، شمسٌ ساطعة، بل شموسٌ عدّةٌ تدور وتدور ثمّ تثبت في سقف غرفة العمليّات. الجرّاح خلع القفّازات المدمّاة وضرب الممرّضة على قفاها قبل أن يخرج تاركاً بضعة برابيش في فمي سوف تُزال بعد قليل وأستيقظ. قطٌّ أسود يموء على السّور ثم يقفز في حاويةٍ ممتلئةٍ حتى نصفها بالقمامة. أولادٌ يُغلقون عليه بابها، يُشعلون فتّاشاً، يفتحون الباب لحظات كافية فقط لتكتمل الفرقعة العظيمة داخل السّجن المعدنيّ. لا أدري إن كان كونٌ يتشكّل في تلك اللحظة داخل الحاوية، ولا أدري إن كان شرودنجر يعلم إن كانت القطة حيّة أم ميّتة. الأطفال هربوا، والمراقِب في غرفة العمليّات، والمدينة داخل صدري، وأنا أستيقظ رويداً رويداً على وقع ثرثرات فارغة.
قالوا لي إنّهم استبدلوا قلبي، لكنّي أعلم أن في الأمر خطباً ما. أحياناً يتوقّف قلبي الجديد عن الخفقان. أُخرجه وأتحدّث إليه لكن ذلك لا يُخفّف من كآبته وسوداويّته. أقضم منه قطعة أو قطعتين، أمضغها فأحسّ بطعم دخان عوادم وزحام وأزمات مروريّة، فأبصق لاعناً تعاستي التي لا تتوقّف عن التشكّل والتجدّد واستنساخ نفسها في هيئات عدّة. شبحٌ أبيض يتهادى الآن أمام واحد من شبابيك البنايات ثم نغزةٌ موجعةٌ في ذراعي. أفتح عينيّ وأشتُمُ فتتراجع الممرضة التي لم أتبيّن جمالها أو قبحها. فليكن. أنا الآن سمكة، الماء الذي أسبح فيه نظيفٌ وشفّافٌ، لكنه -وبعكس البركة التي انتشلوني منها- له جدارٌ قاسٍ من جميع الاتجاهات. أسبح هنا فأرتطم به. أسبح هناك فأرتطم به، سجنٌ شفّافٌ هذه المرّة. وحين أتاني الطّعام من فوق خمّنت أن لا حاجز هناك فقفزت مُثبتاً لنفسي صحّة توقّعاتي، لكن -ويا لتعاستي التي لا تكف عن التجدّد- لم يكن ثمّة ماء حيث قفزت. سقطت على سطحٍ لم أتبيّن ما هو، وأخذت أرتجف متحشرجاً ومختنقاً إلى أن صرت جثّة هامدةً بعينين تحملقان في الفراغ.
أنا هو ذاك الذي حمل الجثّة الذهبيّة الصغيرة وحفر لها تحت شجرة الأسكدنيا العملاقة مقارنة بحجمه وحجمها. أسمع همهمة في الأعلى حيث تظهر رؤوس رجالٍ أعرفهم جيّداً. هييييه، أنتم في الأعلى... صرخت. لكن الصوت بقي في عقلي. لم يتحرّك لساني ولم يُفتح فمي. غابت وجوههم الآن وحلّت محلّها حفناتٌ من التُّراب ظلّت تسقط وتصفع وجهي مرّةً إثر مرّةٍ كهواءٍ كثيف.
سأخلد للنوم إذن.
على الأقل هنالك من يعرف أنني حيّ.
أنا.

* الأردن