لكلّ روائي روايته المؤجلة، قد تكون مسوّدة لم تكتمل، أو فكرة شيطانية عصيّة على التحقّق، أو كتابة أولى تنقصها المكاشفات والاعترافات والحفريات في القاع، تلك التي تنطوي على جرأة في مواجهة المحرّمات، واقتحام الأسلاك الشائكة، والكتابة باللحم الحي. هكذا يلجأ الروائي العربي غالباً إلى ضمير الغائب ووأد ضمير المتكلّم لإبعاد الشبهة عن الذات، ليس بما هو سيروي فقط، وإنما بما هو متخيّل، فيضطر إلى المراوغة في ردم المسافة بين ما يرغب في هتكه جمالياً وواقعياً، وما هو متاح فعلياً. سوف يهجر تفاح الرغبة نحو ثمارٍ أخرى غير محرّمة، طلباً للنجاة، وإذا بالنصّ المشتهى ينأى بعيداً تحت ضربات معول الحشمة. لم تعد المعضلة تتعلّق بالرقيب الرسمي واعتراضه على عبارة هنا وعبارة هناك، إنما تعاضدت معه رقابات أخرى، دينية، وقبلية، وطائفية، وعائلية، أشدّ وطأة من ذلك الرقيب، ما أدى إلى انحسار مساحة المناورة. هناك أيضاً، ضبابية الفكرة التي تبزغ ثم تتوارى لاستحالة الاشتباك بها ومعها، بما يقع في باب الفضيحة، فترتد إلى أدراج الذاكرة، أو قد تخرج إلى العلن بجرعات مدروسة، بما لا يقع في باب تلوّث السمعة. سيبقى «الصندوق الأسود» مغلقاً بإحكام، خارج حقل رمي الروائي كي لا يتحوّل هو نفسه إلى دريئة لسهام الآخرين. سنتذكّر محمد شكري في «الخبز الحافي» بوصفه يتيماً في مدوّنة روائية لم تقرب المناطق المحظورة للكتابة بمثل هذا الهتك اللغوي، باشتباكه الفردي مع جملة محرّمات، إلا أنه في المقابل فتح باباً موارباً لروائيين آخرين في توسيع رقعة المكاشفة بضربات متفاوتة في حدّتها، ما سمح لهم بعبور جمارك الثقافة في مكان، ومصادرة «البضاعة المحرّمة» في مكانٍ آخر.
الأمثلة لا تحصى عن ممارسات رقابة الظل تحريماً وتكفيراً، ما أطاح شخصيات روائية في المهد بوجود حرّاس المخيّلة بمن فيهم الرقيب الذاتي خشية سوء السمعة من جهة، والخوف من عنفٍ مضاد يتربص به من جهاتٍ مختلفة. وفي أحسن الأحوال، ستقبع مخطوطته في الأدراج، أو تُهمل مؤقتاً، بعدما أصبح الواقع خيالياً، ما جعل «الأدب في ورطة» وفقاً لما يقوله عزت القمحاوي.
هنا شهادات سبعة روائيين عن سؤال: ما هي روايتك المؤجلة، وما السبب في إهمالها أو تأجيلها، وما دور الرقابات المتعدّدة في إجهاضها؟

«ملكي» للفنانة الإيرلندية جنييف فيغيس (أكريليك على كانفاس ــ 2015)


الأدب في ورطة

عزت القمحاوي *

في روايتي «الحارس» (٢٠٠٨)، يستغرب ضابط الحرس المستجد «وحيد» من أن كل الضباط الأقدم بلا أسماء، فيقول له قائده إن من يخدم الله أو الرئيس ليس بحاجة إلى اسم. «ولكن الاسم دليل وجودنا» يرد وحيد، فيفحمه القائد: دليل وجودنا في بقاء العرش مرفوعاً. مع الوقت نسي وحيد اسمه، واتجهت ملامحه إلى التوحد مع ملامح الضباط الآخرين.
وبعد «مصائر أحلام» ( ٢٠١١)، رأيت أن رواية «الحارس» وحدها لا تكفي لتأمّل ميكانيزم السلطة وجوهرها الذي يجعل من خدمتها هوساً خاصاً يمارسه البعض باستمتاع دون فائدة مادية، أو حتى بفائدة كان بوسعه أن يُحصِّلها من مهنة أخرى عادية!
شرعت عام ٢٠١٢ في كتابة رواية بطلها شخص يمثل هذا الجوهر الغامض، الخالد، والقادر على التحول والتكيف. وبعد عدة فصول وجدتني أتوقف. ولم يكن هذا التوقف بسبب قفلة الكتابة المعروفة، ولم يكن انشغالاً بوظيفة أو هموم حياتية؛ إذ سرعان ما كتبت كتاباً، فآخر، فثالث.
كان التوقف عن الرواية الأخرى واعياً ولما يزل، إذ شعرت في عام ٢٠١٢ بأن الواقع يتحرك تحت قدميَّ ولا يمكن تناوله من هذه الوضعية المتحركة، ولم أتوقف عن مراقبة هذه الحركة التي سرعان ما جنحت بالواقع إلى مستويات عليا من الخيال سواء في ما يتعلق بشكل الخطاب السياسي ومستواه أو بجوهر الخيارات أو التحالفات التي لم نكن لنراها في أسوأ الكوابيس.
وعندما يقرر الواقع أن يصبح خيالياً إلى هذا الحد، فإنه يضع الأدب في ورطة؛ يجرّده من أهم طاقاته: طاقة الهروب إلى الأمام. لكن الواقع أسرع منه، يسبقه ويحتل كل ممكنات الخيال.
ربما أكتب هذه الرواية في المستقبل وربما لا أكتبها على الإطلاق. الأمر لا يتعلق بي بل بالواقع الذي ينبغي أن يعود إلى واقعيته ومعقوليته.
* روائي مصري

شجرة الإحباط

شاكر الأنباري *

أجزم أن السبب لا يكمن في الرقابة الرسمية تحديداً، فالرقابة صارت معدومة في بعض البلدان، كالعراق على سبيل المثال، ومع وجود دور نشر عربية، عابرة للحدود، يسهل على كاتب الرواية في وقتنا الحاضر، طبع جديده بيسر بعض الأحيان. ما يدفع للتقاعس عن كتابة الرواية الجديدة، أو التخطيط الجاد لها، أمر بعيد نسبياً عن مفهوم الرقابة، سواء كانت حكومية أو مجتمعية. ولعل التحوّلات الكارثية في محيط الكاتب، وانتشار العنف المجتمعي والسياسي، واحد من جذور شجرة الإحباط التي تنمو كل ساعة، وتظلّل أي مشروع يرتسم في رأس الكاتب. المجتمعات التي نكتب إليها، كروائيين عرب، تمضي في اتجاهات معاكسة لجماليات الثقافة وجدواها، للحدّ الذي رهنها لفضاء تهميش دور الإبداع لدرجة انتفاء الحاجة. كفّت الثقافة عن أن تكون غذاء روحياً للمجتمع بعد غياب الأمن، والغذاء المادي، والاستقرار. ولنتخيّل المدن المهدمة، وملايين المهجرين والهاربين واللاجئين، ممن لم تعد تتوفر لديهم جرعة ماء نظيفة، أو رغيف خبز لأطفالهم، أو سقف ينامون تحته، هل يمكنهم الاحتفاء بخروج رواية جديدة إلى منصات النشر والتسويق؟ وهل لديهم الوقت للجلوس، وتأمّل الحاجة الروحية للأدب؟ وإذا ما فكر الكاتب بتقاعس النقد تجاه ما ينشر من روايات، والمحاباة السائدة حول المنجز، والشللية المستحكمة في وسائل الإعلام، ومافيوية لجان التحكيم ومسؤولي الدعوات للمهرجانات الثقافية، وتسييسها، عندئذ يصبح من الخيال امتلاك الكاتب الدافع المطلوب لتقديم روحه على مذبح المنجز الجديد. مع غض البصر عن معاناة الكاتب في البحث عن ناشر يستسيغ منجزه الجاد، والعميق، الذي يسائل هموم الناس الذين يكتب عنهم، وسط ضوضاء النصوص الساذجة، السطحية، الملائمة لقارئ مهزوم، ومؤسسات متخلفة لا علاقة لها بالثقافة الحقيقية. يرافق ذلك كلّه يأس المبدع من تحسين شروط حياته المادية عبر إصدار كتاب جديد. إذ في كثير من الأحيان، نشهد انفصالاً واسعاً بين حياة الكاتب اليومية ومنجزه الإبداعي. ذلك وغيره من أجواء محبطة، وهزّات حضارية وفكرية متتالية، ومتسلسلة، تجعل الروائي يتردّد كثيراً قبل البدء في التخطيط، ومواصلة مشروعه الخاص. ما عليه سوى امتلاك محرّك هائل، يرعاه هو نفسه، كي يندفع بيسر للجلوس على آلة الكتابة، واستدراج الخيال من أجل وليد قادم. أجل، يوماً بعد يوم، وسنة عقب أخرى، تتحول الكتابة إلى متعة شخصية للكاتب، بعدما راح يرفل باللاجدوى، ويتنفس اليأس، وينظر إلى نجوم غريبة، وإلى علاج روحي يقيه من الجنون مما يجري في عالم فظ لا يلتفت إليه.
* روائي عراقي

اختفاء رواية البردوني

وجدي الأهدل *

منذ حوالى عشر سنوات، بدأتُ بتدوين الملاحظات وجمع المعلومات عن شاعر اليمن الرائي العظيم عبدالله البردوني. هذا الإنسان إلى جانب عبقريته الأدبية، جسَّد بسيرة حياته «النظيفة» نموذجاً للمثقف المستقل الصادق الطاهر اليد الذي يضع الحق فوق كل اعتبار.
معظم ما جمعته عنه أخذته من أفواه الناس، فالرجل قد تحوّل في الوعي الجمعي لليمنيين إلى أسطورة خالدة، كأنه أحد أنبياء العهد القديم.
لا يمر يوم من دون أن يردّد الناس أبياتاً من شعره، تبدو مطابقة لما يحدث في أيامهم، كأن هذا الرجل لم يمت، كأنما شعره وليد اللحظة الراهنة، ليس مكتوباً ومطبوعاً في الكتب منذ سنوات بعيدة.
توفي عبدالله صالح الشحف البردوني عام 1999، ولكنه ما زال حياً في ضمائر اليمنيين، وأشعاره يستشهد بها للتعليق على الأحداث الجارية حتى يومنا هذا، فأشعاره تحتلّ المركز الثالث من حيث الاستشهاد بها بعد القرآن الكريم والأحاديث النبوية. عديدون يعتقدون أنه كان يعلم الغيب ويتنبأ بالمستقبل.
ما يعوقني عن الشروع في كتابة رواية «البردوني» هو أن سيرته الذاتية اختفت بعد وفاته مباشرة. جاء مسؤولون إلى بيته وأخذوا مخطوطة سيرته الذاتية ومخطوطات دواوينه الشعرية بدعوى طباعتها على حساب الدولة. وحتى الآن لم تظهر هذه المخطوطات، ومنها سيرته الذاتية. لحسن الحظ أنه نشر أجزاء من سيرته الذاتية في صحيفة يمنية، لكن وافاه الأجل قبل أن يستكمل نشرها. لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، ولذا فإن الآمال ترتفع يوماً بعد يوم في «الإفراج» عن مخطوطاته وإصدارها.
هل يمكن المضي قدماً في كتابة رواية عن «البردوني» من دون الاطلاع على سيرته الذاتية كاملة غير منقوصة؟ نعم يمكن أن نحصل على سرد مشوق، ولكن روح البردوني لن تكون حاضرة فيه.
* روائي يمني

كائنات غير مُكتملة

طارق إمام *

تلاحقني فكرة سوداء، تمنيت دائماً أن أكتبها كرواية، عن كاتبٍ كلّما أتمّ رواية، وبعد أن يدفع بها للنشر، يكتشف أن المنشور هو مسودة الرواية وليس الرواية: قد تكون المسودة الأولى، المبدئية المبتسرة، أو الأخيرة، الأقرب للنص في شكله النهائي، أو أيّ مسودة في مراحل العمل المختلفة. المهم أنه في النهاية يفاجأ، بينما يُقلِّب نسخة روايته المطبوعة بين كفّيه، بأن النص المنشور ليس نفسه ما دفع به للناشر.
يُغيّر ناشره «غير الأمين» أو «الملعون»، يطمئن على «البروفات» حتى آخر رمق، بل ويذهب بنفسه للمطبعة، يرى الصفحات نفسها وهي تضاعف من نفسها. يكون كلّ شيء على ما يرام، حتى إذا تلقف أول نسخة من روايته الجديدة، فوجئ مجدداً بأن مسودةً ما خانته وحلّت محل «النص المكتمل». هكذا عاش روائيٌ ما عمره كله ينشر مسوداته رغماً عن أنفه، مثل رجلٍ يكشف سرواله عن عورته بدلاً من أن يسترها.
لم يعرف الكاتبُ أبداً كيف حدث ذلك، ولا أي يد عبثت مرةً بعد مرة برواياته. رغم ذلك، حقق نجاحاً معتبراً من رواياته/ المسوّدات تلك، تُرجمت للغاتٍ مهمة، حصل بها على جوائز، واحتفى أهم النقاد بأعماله. اكتسب جمهوراً كان دائماً، ويا للعجب، يتغنّى بمناطق وعبارات لم تكن موجودة في النصوص المكتملة التي لم تنشر لأن الكاتب، يفترض، حذفها لعدم رضاه عنها!
ظلّ الروائي يشعر بغصة كلما ضوعف نجاحه، كمن يربّي ابن غيره، ليس فقط لأنه تعرض للخيانة نفسها كل مرة.. لكن لأنه كان يفكر أنه حاز كل ذلك بكائنات غير مكتملة، مفكراً بحسرة فيما لو كانت نصوصه النهائية هي التي نشرت!
ظل يفتش عن السر، وظل السرُّ هو من يكشفه وليس العكس، حتى واتته فكرة غريبة بينما يفكر في آخر رواية كتبها في حياته، ولم يكن يعرف بالطبع أنها روايته الأخيرة: قرر أن يكتبها مرّةً واحدة، بحيث تكون المسوّدة الأولى هي نفسها النص النهائي: يفكر أولاً، يُعدِّل المقطع في ذهنه، يشطب ويمزق في رأسه ثم يستقبل الورق صيغةً أولى وأخيرة. عندما صدرت الرواية، وبينما يتلقف النسخة الأولى منها منتصراً، اكتشف أنها عبارة عن حفنة أوراق بيضاء. كانت تلك رواية الروائي الأخيرة، كان ذلك تتويجه النهائي، أما نهايته هو، فلستُ متأكداً من طبيعتها بعد، هل سيجن في أواخر أيامه أم سيموت في سريره؟ هل سيحكي سره الغريب في النهاية أم سيحمله معه إلى مقبرته؟ هل ستظهر النصوص المكتملة بعد موته بطريقة ما؟ وإذا حدث ذلك، هل سيراها متلقّوها أفضل أم أسوأ؟ هل سيبكون بحرقة على الكمال الذي هرب طويلاً من صانعه أم سيحمدون الله أنها اختفت؟ لا أعرف، إنها ليست سوى مسودة قصة موضوعها المسودة، وربما لا تكون الصيغة النهائية لما كتبته هي ما تقرأونه الآن!
* روائي مصري

حرّاس النوايا

أمين الزاوي *

كان الموضوع يشتعل في قلبي ويحرق جسدي رغبة في كتابته، الأوراق التي فتحتها في سريري ساعات النوم رتبت فيها جميع الشخوص الروائية، وفي الصباح تسقط بعض أشياء وتزهر أشياء أخرى بمجرّد أن أواجه جهاز الكمبيوتر للكتابة، الشخوص التي كنت أرتبها، أكتبها، أرسمها، أعرفها جيداً في الواقع، لكنها أغرب من الخيال، وربما هذا هو الأمر الذي جعلني أصرّ على كتابتها، جميع الشخوص هي من محيطي العائلي أو من معارفي، الألسن تتكلم حقيقة لكنها قريبة من الفانتاستيك، لأننا كلما حفرنا في واقعنا المجنون تكون الحقيقة توأم الجنون، كنت سعيداً في رحلة الكتابة هذه، لأنني كنت أشعر كأنني أنظف شيئاً في داخلي، كأنني أستحم بعد عناء سفر، حمّام من كلمات دافئة، ربما حارقة أيضاً، لكن الكيّ في كثير من الحالات هو الدواء الأفضل، الكيّ صديق الصدق الكامن في الكتابة.
كتبت الرواية في نسختها الأولى، على دفعة واحدة، بِولهٍ، وحب، وربما أيضاً بحسّ فيه نوع من تصفية حساب مع فترة زمنية معينة، أردت أن أقيم عزاء لفترة ما من حياتي، المدينة التي صنعتها إطاراً للأحداث لم تكن سوى نسخة من مدينة في الواقع الجزائري، بسهولة يمكن تتبع طوبوغرافيتها وعادات ناسها في الأكل والمشرب واللباس والموسيقى.
كل شيء بدا على الرغم من فانتازية وقائعه، فضاء وشخوصاً وحبكة، لذا كانت لعبة الكتابة خطيرة، وأيضاً مكشوفة قبلياً وأسرياً على الرغم من سورياليتها. وكان أن نشرت فصلاً من هذه الرواية، لكني حين عزمت على نشر الفصل الثاني، تردّدت وعرضته على أحد أفراد الأسرة العزيزين عليّ جداً، والذي يشتغل أستاذاً جامعياً، وينتمي إلى تيار الحداثة سياسياً وفلسفياً، حين قرأ هذا الفصل الثاني حدثني في اليوم التالي بمرارة، وشعرت من كلامه كأنني أشتم أسرة وأعرّي مدينة يجب الحفاظ عليها لتوازنات ما.
أُصبتُ بخيبة في القارئ الصديق لكنني فهمت عقلية ما لا تزال قائمة في نخبنا، وربما قبل القراء البسطاء، وأنا الذي منذ بدايتي مع مغامرة الكتابة كنت أشعر كأنني كاتب «الفضيحة»، كان ذلك منذ نشرت أول رواية لي بعنوان «صهيل الجسد» (دار الوثبة- دمشق)، وتم منع الرواية فوراً وسحبها من الأسواق وحوكم الناشر حسين شرف وسُجن في دمشق، كان ذلك عام 1985. في هذا النص «صهيل الجسد»، تعرضت لبعض تفاصيل الحياة العائلية التي هي من التابو، والمستور منها والذي ظل حديث الأسرة ما بين الإشاعة والشك والحقيقة، كتبت بعض ما كنت أتلقفه وأنا طفل صغير من أفواه أبناء وبنات العمومة والخئولة، نساء ورجالاً. أليست الكتابة في نهاية الأمر هي هذه الفتنة القائمة ما بين الشك والممنوع والإشاعة التي هي في نهاية المطاف مادة التاريخ وعجينها وخميرتها.
لكن بعد ملاحظات هذا الصديق على الفصل الثاني، هذا الصديق الذي تكلّم في مرافعة حادة عن المدينة والقبيلة والأسرة، تردّدت في مواصلة النشر، وقلت لنؤجّل الموضوع إلى يوم آخر.
الآن ولأن هذه الرواية تمثل بالنسبة لي إقامة عزاء لدفن مرحلة ما، أفكر في إعادة ترتيب الأسماء والمدن والزمن بما لا يسمح، ربما، لقضاة الأخلاق وحراس النوايا من اكتشاف ما ينذر بحرب ربما. لكني وأنا أقوم بذلك أشعر كأنني أدفن ميتاً آخر غير الذي أريد إقامة عزائه.
* روائي وأكاديمي جزائري

شوكة في باطن الفم

جلال برجس *

ما زالت الرقابة بكل أشكالها المتناسلة تهشم حياة الإنسان في العالم العربي، وتحجب عنه حلمه وتوقه للعيش حرّاً، ومدافعاً عن إنسانيته وحقه في المسير والتفكير، وأزعم انطلاقاً من هذه المكيدة البشرية أن سياج الرقابة المعدني الشائك هذا يؤجل في كل كاتب عربي روايته التي يود فيها قول ما يريد خارجاً على كافة السياقات التي رسمت له منذ الوعي الأول.
أعترف أن بي رواية مؤجلة وتكاد تخز روحي كشوكة حولية في باطن الفم؛ رواية أكتبها بوعي متمرد يقلب جوانيته وينثر ما فيها على العلن، بكل شكوكها، وقناعاتها، وتناقضاتها، ورغباتها، واحتجاجاتها. لم أخشَ في حياتي الرقابة الرسمية ولا أقيم وزناً لها، لكنني منذ شرعت بالكتابة وأنا أحاول قتل الرقيب الذاتي الذي أراه ككائن متجبّر يقف بباب الفم وينتقي كلمات دوناً عن غيرها لتحلّق في الهواء. منذ نصي الأول وأنا في حالة صراع معه، وأعتقد أنني غافلته وقلت بعضاً مما أريد مع قناعتي بأن هذا ليس كل ما أريد قوله. لكن ما يطمئنني أنني ما زلت أحاول، وأعتقد بل أجزم إن نجحت بقتل هذا الشكل البغيض من الرقابة سأكون أكثر حرية فيما أقول، وسأقف عند النافذة التي ينظر منها الروائي نحو الشارع فأنظر إلى نفسي وأحدّق بها مليّاً. ينظر الروائي نحو الشوارع فيكتب، وينظر الشاعر في المرآة إلى نفسه ويكتب. أريد أنظر إلى نفسي عبر نافذة الروائي وأكتبني. هل أنا حرّ؟ نعم أنا حر ما دمت أصوّب سلاحي نحو هذا الذي يقف في دهاليزي الداخلية، مع درايتي بكيفية تشكّله مع مرور الزمن العربي. لا ضير لو فشلت مرات بأن أرديه قتيلاً، لكني حتماً سأنجح بتخليصي منه، بتخليصي مني.
* روائي أردني

أسمعُ نباحاً في رأسي

سومر شحادة *

لديّ نص كتبته منذ خمس سنوات وهو جاهز للنشر، ولا أقوى على تحريره من الدرج. لا أجلس مع أحد إلا وأحدّثه عنه، أحياناً أحكي لغرباء عن تلك الرواية التي لا أقدر على مغادرتها، تعرف اعتقاد الكاتب أنّه يخبئ العمل الذي سيغير العالم! وتعرف حاجة الكاتب للدراما. لكن النص نصٌّ عالق أكثر مما هو مؤجل. أحياناً أفكر أنّني ما أزال أنتظر عبور الزمن كي أتحرر من رؤيتي لهُ نصاً ذاتياً صرفاً. جراء الظرف الذي كُتب خلاله؛ كنت لأشهر طويلة مضطراً إلى تجنّب الشوارع الرئيسية والحواجز وصنفاً من الناس، وفي داخلي راحت تنمو رغبة بالاختفاء. لأنّني لست رجلاً عنيفاً، حتى دفعت ببطل الرواية للانزواء في برميل قبل أن تلتصق جدران البرميل بصدغيه، ويصير كائناً ابتكرته العزلة. الرواية كتبها خوف هادر، ما يزال يحكم على عنقي ويمنعني من التفكير بحرية حيال هذا النص، بمعزل عن ظرف كتابته. لقد أتممت الرواية خلال عشرين يوماً، وبقيت لثلاث سنوات أعود إليها لأضيف جملة أو جملتين. آخر تعديل حقيقي كان منذ عامين عندما أضفت شخصية الكلب للرواية، ومن حينها أسمع نباحاً في رأسي، لحشد يريد أن يغادر الدرج ويصفع الحياة.

* روائي سوري