قلوب الطيرأعجبت المصادر العربية أيما أعجاب ببيت امرئ القيس الذي يقول فيه:
كـأن قلـوبَ الطير رطبـاً ويـابساً
لدى وكرها العناب والحشف البالي
فبالنسبة لهم، أتى الشاعر في هذا البيت بتشبيه مزدوج؛ فقد شبه قلوب الطيور التي اصطادتها العُقاب بالعناب والحشف. فالقلوب الغضة الحديثة حمراء كالعناب، أما القلوب القديمة فيابسة كالحشف، أي كالتمر الجاف الرديء. وفي حديث الرسول: «أحشفاً وسوء كيلة؟».
أما أنا فلم أستسغ هذا التشبيه المزدوج أبداً. وقد كان لدي شعور بأن ثمة خطأ فيه. إذ كيف تكون هناك قلوب يابسة للطيور على باب وكر العقاب؟ ولم تركتها العقاب حتى تيبس من دون أن تأكلها؟ ثم كيف يمكنها أن تيبس وهي الطرية جداً، والتي ستأكلها النمال والحشرات لو تركت على الفور؟
وقد بدا لي أن ثمة تصحيفاً أصاب كلمة «قلوب». فالأصل هو «قنوب» وليس قلوباً:
كأن قنوب الطير رطباً ويابساً
والقنوب جمع قنب وهو ــ حسب «لسان العرب» ـــ ما تخفي فيه الكواسر والجوارح مخالبها: «قَنَبَ الأَسدُ بمِخْلَبه إِذا أَدْخَلَه في وِعائه». يضيف: «قُنْبُ الأَسد: ما يُدخل فيه مخالـبه من يده، والجمع قُنُوب، وهو المقناب، وكذلك هو من الصقر والبازِي». ولعل القنب أن تكون مخالب الجوارح وهي مضمومة.

«ديك رومي ميت» لغويا (زيت على كانفاس ــ 45× 63 سنتم ــ 1808-12)

بالتالي، فامرؤ القيس يتحدث عن مخالب الطيور، وخاصة الكواسر القوية منها، الملقاة على باب وكر العقاب. فقد مزقتها العقاب وتركت ما لا يؤكل منها، أي قنوبها، مرمياً على باب وكرها. وقد تجمع على باب وكر العقاب من هذه المخالب القديم الجاف والحديث الطري المحمر- المصفر. وحول هذين الطرازين كان تشبيه امرئ القيس.
وإذا صح ما نقول، فهذا يعني أننا أمام تصحيف عمره من عمر عصر التدوين العربي، أي ما يقرب من 1300 عام.

سهم واحد فقط
نعرف جميعنا البيت الشهير لامرئ القيس الذي يقول فيه لحبيبته:
وما ذرفت عيناكِ إلا لتضربي
بسهميكِ في أعشار قلبٍ مُقتّلِ
وهناك إجماع على أن البيت شبّه العينين بسهمين: «بسهميك أي بعينيك» (الأصفهاني، الأغاني). يضيف ابن رشيق: «فمثل عينيها بسهمي الميسر» (ابن رشيق القيرواني، العمدة). يزيد العسكري: «وأنت تزيدينه علة بسهميك، يعني عينيها» (أبو هلال العسكري، ديوان المعاني).
غير أننا نعتقد أن فكرة تشبيه العينين بالسهمين انبثقت من قراءة تصحيفية جعلت السهم الواحد يبدو كسهمين. أي أن الكلمة الأولى في الشطر الثاني هي في الأصل «بسهمك» لا «بسهميك»:
وما ذرفت عيناكِ إلا لتضربي
بسهمكِ في أعشار قلب مقتّل
بذا، فالبكاء وذرف الدموع هو ما رآه الشاعر نوعاً من ضرب القداح، أي المقامرة، في الميسر. بذا يكون قد شبّه دموعها بالمقامرة بالسهام في الميسر. ذلك أن المقامر في لعبة الميسر، يضرب بقِدْحه، أي بسهمه، في الرهان على الجزور الذبيح ولحمه. أما سهم فاطمة، صاحبة الشاعر، فهو البكاء، وأما الجزور القتيل، فهو قلبه. أي أن البيت يقول: وما بكيت إلا لأن البكاء رهانك وسهمك كي تحصلي على نصيب من قلبي، أو على قلبي كله، الذي هو محل المقامرة. بذا فالتعشير (أعشار قلب مقتل) أمر يتعلق بلعبة الميسر العربية القديمة، التي يتم فيها ذبح جزور، أي ناقة، وتقطيعها إلى عشرة أجزاء، ثم المراهنة على هذه الأجزاء بقِداح عشرة، منها سبعة تخسر وتربح، وثلاثة لا ربح لها.
لدينا تشبيه لم يصنعه الشاعر، بل صنعه الوهم. غير أن هذا التشبيه الموهوم أسر الناس وعقولهم على مدى 13 أو 14 قرناً


عليه، فليس في البيت تشبيه للعينين بالسهمين. ليس هناك تشبيه على طريقة تشبيه العينين بالبواريد- البنادق كما تقول الأغنية: «عيونك بارودة ببوزين». ذلك أن المرء يقامر في لعبة الميسر بسهم واحد لا بسهمين. المقامرون الفعليون في اللعبة سبعة فقط، وكل منهم يراهن بسهم واحد فقط، على عكس ما اعتقده بعضهم: «يعني بالسهمين: الرقيبَ والمُعَلَّى من سهام المَيْسر» (الجوهري، الصحاح). هناك سهم واحد فقط في الأصل، وهذا السهم هو البكاء والدموع. ففاطمة تريد بالبكاء أن تنال نصيبها في القلب الذبيح المقتول للشاعر.
وجاء عند البيهقي ما قد يفيد بالفعل أن الخليفة المهدي كان يرى خطأ ما في بيت امرئ القيس:
«وقال الحسن بن الفضل بن الربيع: خرج علينا المهديّ متنكراً ومعه الربيع والمسيّب بن زهير يطوف في الأسواق إذ نظر إلى أعرابي ينشد، فقال الربيع: أخبرني عن أرق بيت قالته العرب، قال: بيت امرئ القيس بن حجر: وما ذرفت عيناكِ إلا لتضربي/ بسهميكِ في أعشار قلبٍ مُقتّلِ. فقال المهدي: بيت قد داسته العامة وفيه غلطٌ» (البيهقي، المحاسن والمساوئ). وهكذا فالبيت «داسته العامة» أي صار لعبة بين أيديها لشهرته، كما أن «فيه غلط». ولم يقل لنا البيهقي في أي نقطة وقع الغلط في البيت حسب رأي الخليفة المهدي. أما نحن، فنعتقد أنه وقع في كلمة «بسهمك» التي تحولت إلى «بسهميك».
إذن، فلدينا تشبيه لم يصنعه الشاعر، بل صنعه الوهم. غير أن هذا التشبيه الموهوم أسر الناس وعقولهم على مدى 13 أو 14 قرناً. بل إنه كان التشبيه الأشد تأثيراً، والأكثر واقعية، في تاريخ الأدب العربي كله ربما.

عمر بن الخطاب يقيّم امرأ القيس
سئل عمر بن الخطاب عن أفضل الشعراء فقال:
«امرؤ القيس سابِقُهم، خَسَفَ لهم عَيْن الشعر، فافْتَقَرَ عن معانٍ عُورٍ أَصَحَّ بَصَرٍ، أَي أَنْبَطَها وأَغْزَرها لهم» (لسان العرب).
أما الخسف فواضح. فهو من قولهم: خَسَفَ البئرَ إذا حَفَرَها في حجارة فنبعت بماء كثير. والمعنى: «أَنه ذَلَّلَ لهم الطريق إليه وبَصَّرَهُم بمَعاني الشِّعْر وفَنَّن أَنواعه وقَصَّدَه، فاحْتَذَى الشعراء على مثاله فاستعار العين لذلك» (لسان العرب).
أما ابن الأثير، فقد فسر «افتقر» على أنها تعني: فتح عن معان غامضة. لكنني أظن أنّ تصحيفاً حصل في قول ابن الخطاب، وأنه أصاب كلمتين:
الأولى: كلمة «فافتقر». وظني أن الكلمة في الأصل «فابتكر» أو «فابتدر» على تقدير أبعد. والكلمتان تنتهيان إلى المعنى ذاته. فابتكر من البكور، أي الذهاب مبكراً، في حين أن ابتدر من المبادرة، أي الذهاب أولاً.
الثاني: في كلمة «عور». وأظن أن الأصل «غَوْر»، أي غائرة عميقة وبعيدة.
بذا يكون ابن الخطاب قد قال أن امرأ القيس: «فابتكر إلى معان غور أصح بصراً»، أي أنه بكر إلى معان عميقة لم يسبقه أحد إليها.
أما جملة «أصحَّ بَصَرٍ»، فما أظن أنّ فيها تصحيفاً. فالبصر في الجملة هو التأمل والمعرفة والعلم: «والبَصَرُ: العلم. وبَصُرْتُ بالشيء: علمته... والبصير: العالم... والتَّبَصُّر التَّأَمُّل والتَّعَرُّفُ. ورجل بصير بالعلم: عالم به» (لسان العرب).
عليه، فقد رأى ابن الخطاب أن امرأ القيس بادر إلى معان غائرة عميقة، أصح معرفة وتأملاً من ما أتى به الآخرون.

* شاعر فلسطيني