«إنك يا خليفة شيء أحبه.. أحبه جداً.. وأحترمه.. إنك ولد صغير ومغرور.. ويسكن في بقعة مظلمة.. ولكنك عندما تكتب تصبح إلهاً حقيقياً». رسالة من الصادق النيهوم إلى خليفة الفاخري بتاريخ ۹ شباط (فبراير) ۱۹٦۳

رغم مرور ١٨ عاماً على رحيله، ظَلَّ خليفة الفاخري (۱۹٤۲ - ٦ يونيو ۲۰۰۱)، أيقونة حيّة في الأدب الليبي، تُستحضر نصوصه واقتباساته على الدوام من مُؤلَّفاته الثلاثة: «موسم الحكايات» و«بيع الريح للمراكب» و«غربة النهر»، بالإضافة إلى «منابت الريح» الذي كتب فيه صديق دربه القاصّ محمد عقيلة العمامي سيرته الأدبيّة بعد رحيله، وتضمن كتاباته غير المنشورة في كتبه الثلاثة السابقة.
إبَّان الحرب العالمية الثانية، في بنغازي «الخربة من وقع القصف» آنذاك، وَلَدَ «جنقي»، وعاش شقياً، مشاغباً، مشاكساً، رغماً عن الجوع والفقر والغارات الجوية، بعدما مات قبله ثلاثة أخوة. ومن الكتاتيب القرآنية ومكتبة «بوقعيقيص» الشهيرة والمراكز الثقافية الأجنبية، نال (رغم تركه المدرسة في سن مبكرة) قسطاً جيداً من المعرفة والدراية بالأدب والإلمام بعلوم اللغة العربية.. اللغة التي يعتبرها «كائناً حياً» لا مجرد صنم، حتى «أصبحت غولاً خرافياً لا علاقة له بالحياة». يدرس الإنكليزية وتنقل بين العواصم الأوروبية ليقرأ «الكلاسيكيات» بلغتها الأم. لكن الطفل الشقي ما لبث أن هدّأ، وترك هوايات الطفولة خلفه؛ كرة القدم (حيث كان لاعباً مع نادي «التحدي») والملاكمة، وشرع في كتابة القصة الواقعيّة، منذ بداية ستينيات القرن الماضي، منطلقاً من بيئته الليبية (البنغازية بشكل خاص) ومحيطه العربي، متأثراً بشكل كبير في بداياته بإرنست هيمنغواي والعديد من الكتّاب الغربيين، فضلاً عن الكثير من الشعراء والكتّاب العرب، قديماً وحديثاً. إذ سمى أبناءه على غسان كنفاني ومي زيادة وغادة السمان. كانت ملامحهُ «هيبيّه» على طريقة جيل الستينيات، بشاربيه وشعره الكثّ. سطع نجمه عندما بدأ بنشر مقالاته في صحيفة «الحقيقة»، حيث كان يكتب صديقه المقرب المفكر الصادق النيهوم (وصفه بأنه «ينحت الكلمة نحتاً»). والحديث عن أحدهما دون التطرق إلى الآخر يصبح ناقصاً. تأثر كل واحد منهما بالآخر، وظلت الرسائل المتبادلة بينهما (جمعها العمامي في كتاب «قطعان الكلمات المضيئة» بعد وفاتهما)، على عفويتها، من أجمل ما كتب كلٌّ منهما. لقد كانا «بطلين» بالنسبة إلى أبناء جيلهما حينذاك، بما حملاه من أدوات وأفكار جديدة وتمرد على المفاهيم السائدة باعتبارهما أبناء جيل «انظر خلفك بغضب».
فائزة رمضان ـ ليبيا

إنّ الصداقة سمة أساسية في كتابات الفاخري، سمة تصل إلى حد القداسة، وتدور حولها معظم نصوصه؛ «وأرنو إلى الأصدقاء الذين زرعهم الشيطان بنفسه في المقاهي مثل حزم الصبار». وهكذا، لم يكن النيهوم الصديق المقرب الوحيد لصاحب «موسم الحكايات». الشاعر العراقي عبدالوهاب البيّاتي جمعته به علاقة وطيدة، كما جمعهما الحبّ والثورة والحلم بغدِ مشرق، وتأثر كلٌّ منهما بالآخر، وأصدرا معاً «يوميات العشاق الفقراء» و«عين الشمس» أثناء إقامة الفاخري في كوبنهاغن. وسمى البيّاتي أحد دواوينه على إحدى قصص الفاخري «عيون الكلاب الميتة»، فيما كان «جنقي» يستشهد كثيراً بأبيات من صديقه الذي وصفه بأنه «عالم شعري قائم بذاته».
عاش ساعياً «خلف وجوه الأصدقاء». وفي غربته البريطانيّة، تكفل بترجمة كلمات أغنية «تعاطف» لفرقة «راري بيرد» الإنكليزية، وأرسلها إلى أصدقائه؛ «ليس ثمة حبّ يكفي الجميع.. والتعاطف هو ما نحتاج له يا صديقي». وامتدت عاطفته إلى باقي الكائنات الحية. منذ طفولته، حظي بصداقة حميمة مع خروفه الصغير الذي كان يصحبه معه إلى البحر ويغسله ويمسد شعره حتى «يصبح كلي البياض مثل عين الشمس». حتى جاء العيد وذبح أمام عينيه وظل الخروف ينتفض مثل قلبه. يستدرك معلقاً على شهداء «حرب أكتوبر» الذين قتلوا «كقربان على مذابح سيناء من أجل إعادة العلاقات الدبلوماسية الأميركية» بالقول: «ليست الخرفان وحدها السيئة الحظ... الإنسان كذلك!».
«فتحرك يا رفيق/ وانطلق في العمر مرة/ كي نريق../ دمنا فوق الطريق/ لنرى في الليل ثغرة»، هكذا كانت محاولاته الشعريّة في البداية، متأثراً بوالده الذي اشتهرت قصائده في الخمسينيات عندما تغنى بالاستقلال والثورة الجزائرية، غير أنه توقف عن ذلك مبكراً مستشهداً بـ«عبقري اللغة» الخليل الفراهيدي عندما قال عن تجربته الشعريّة: «رديئه لا يرضيني، وجيّده عصيّ عليّ». كما استشهد بدواوين عباس العقاد المنسية؛ «من يتذكر الآن العقاد كشاعر؟» يسأل. لقد أدرك أنه لا يمتلك الموهبة التي تؤهله لأن يكون شاعراً لأن الموهبة شرط أساسي إلى جانب الثقافة والتجربة واللغة عند «الكاتب الحقيقي» بالنسبة له، و«إسقاط أي عنصر من هذه العناصر هو إسقاط للكاتب ذاته». ومتى ما توفرت هذه العناصر، فإن الوصفة السحرية لنجاح أي كاتب هي في «أن يكون صادقاً.. لا غير!».
مع هذا، كتب الفاخري قصصه وحكاياته ومقالاته بروح النثر والشعر، مطوّعاً الأحداث لرؤيته المستقبلية دونما أن ينتمي إلى مدرسة أدبية معينة. المدارس التي اعتبرها مجرد علامات على الطريق ولكنها ليست الطريق نفسه، مستشهداً بأبو يزيد البسطامي عندما قال: «غِبْ عن الطريق، تصل إلى الله!». لقد كتب القصة بما هي «تأريخ للشعوب» على طريقة غوستاف فلوبير في كتابة الرواية. تاريخ الأزقة الشعبية؛ الأطفال الأشقياء والفتيات الطائشات والعجائز الطيبون والسكارى المترنحون والجزارون الغشاشون و«أصحاب الصمت الوقور» والعمال المـستغلون في معسكرات التنقيب عن النفط حتى «ظلت أكتافهم الندية تعكس أشعة الشمس». وبشكل عام، كان يرى بأنّ التاريخ العربي والإسلامي كُتب من وجهة نظر السلطة، ويحتاج إلى إعادة قراءة وكتابة من جديد. التاريخ الذي أهمل حيثيات ثورات «أهل الأحداث» و«الزنج» و«القرامطة» و«الخوارج» و«التوابين» و«المحررين»، واكتفى بوصفهم بأنّهم خارجون عن الدين.
باختصار، لقد عاش الفاخري حياته مشغولاً بهم الكتابة على نار هادئة. ومتى ما عجز عن ذلك، انصرف إلى أعمال أخرى كونه أيضاً رساماً وخطاطاً ونحاتاً (له منحوتة مميزة على «ديك الجن» الذي تأثر كثيراً بشعره). وإذا ما استعضنا عن الاختصار بما قاله هو شخصياً، سنجده كمن يرثي نفسه سلفاً. كتب يوماً في إحدى قصصه: «ظللت أذرع طريقي طيلة سنين.. وشعرت أخيراً بالإعياء والتعب، ثم قيل لي في النهاية أن المرء، لكي يحب حقاً، لا بد أن يموت.. أن يموت في الحب.. أعني هكذا، على طريقة الفراشات، والأنهار، والحلاج».


قصص وشذرات


كنت عائداً من القاهرة ذات يوم..
كان معي في نفس السيارة صديق عراقي* لم يزر بلادنا من قبل قط، ولقد ظل يحكي لي طيلة الطريق عن الشعر الشريف.. وخلاص الإنسان.. وعذاب الرواد الأبطال على مدى الزمن.. والغربة.. والأسوار الصلدة على حدود المنفى.. والحنين.. وألف شيء آخر!
كان حديثة مشوّقاً للغاية!
وحين وقفنا أخيراً عند بوابة امساعد.. وشرعنا ننتظر في تلك الصالة، أشار الرجل ذو الأزرار النحاسية إلى كتاب كنت قد وضعته في حقيبتي..
وقال لي:
_ هذا الكتاب ممنوع إدخاله إلى ليبيا!
ورماه في أحد الأدراج.. على حين شعرت بالخجل يحرق وجهي.. وأعماقي كذلك.
كان الكتاب: «مذكرات جيفارا»!
ولقد ظل بريق الأزرار النحاسية في وجه النافذة المشعة ينفذ إلى عيني على نحو مؤلم. حتى رفعت بصري إلى السقف، وحينما انطلقنا من جديد، قال لي صديقي بأسف مرير:
_ مسكين جيفارا.. مطارداً حياً وميتاً! **

* الصديق العراقي المقصود هو الشاعر عبد الوهاب البيّاتي عندما زار ليبيا سنة 1967 برفقة الفاخري.
** من مقال «كلمات متقاطعة» (۲۰ نوفمبر ۱۹٦۸).

نبوءة قديمة
سيضيق في عينيك الطريق..
ويضيق.. ويضيق ويطفح الأسى على جدار قلبك مثل طحالب بليدة.. وتغتم السماء على نحو حالك دون أن ينهمر المطر.. وتحيل أجفانك بدمعتين هادئتين.. وتجوب خطاك المتلعثمة دوامة الدروب بلا صديق.
.. ويضيق الطريق!
ولكنك لا تزال قادراً رغم ذلك، على أن تداعب تطلعاتك الملونة المدهشة، المتراقصة أبداً على أسراب أهدابك، إلى حد أنك ستضجر فيه ذات يوم من عتمة قبوك الكئيب.. وتذرع تلك الغابة الكثيفة الشريرة الأغصان بحثاً عن ثغرة ضوء تقودك عبر الجذوع القاسية إلى السهب المخضر، المستلقي في عفوية مطلقة بامتداد السماء!.. وتنهشك الأغصان وتمزق جبينك، وثيابك، وساعديك، فيما تظل عيناك متشبثتين في إصرار بذلك الحلم العتيق.
ويضيق الطريق!
ويضيق إلى أن تبرق أمامك فجأة نقطة الضوء من خلال الأوراق المتهدلة في إعياء كامل.. وتنفجر موجة النور على حبات العرق الناضحة تماماً على جبهتك.. وتوسع الخطى على نحو تلقائي.. وتتعثر مراراً، وتواصل المسير أخيراً إلى ضفة الغابة، وعندئذ ستغمض عينيك ببساطة.. وتتنفس بعمق إلى حد يصيب الآخرين بالاختناق! فهل أصبحت قدماك عاقرتين الآن؟
أبداً.. أبداً!
فهما ستلدان آلاف الخطى من جديد عبر السهب، إلى أن تلمح ذلك الكوخ الناهض بكبرياء على قمة الجبل حيث تسكن تلك المنجمة العجوز!
.. وتعدو إلى هناك!
«ماذا تريد هنا؟»
كذلك ستفاجئك العجوز مثل عطسة، وتشعر بأن قلبك قد غاص إلى قدميك.. وإذ تثب عيناها البارزتان كعيون الضفادع إلى قاع أعماقك، يتسلل طرف لسانك ليبل شفتيك القاحلتين.. وتندلق الكلمات:
_ «كنت.. كنت أود أن أرى الغابة بكل.. بكل أبعادها!»
وتنظر إليك ملياً، ثم تغطس رأسها بين كتفيها في تربص وتقول:
_ «وماذا أيضاً؟»
_ «كما أريد أن أرى الأيام القادمة في مرآتك.. هل، هل يمكنني هذا؟»
وتصمت العجوز قليلاً.. ثم تقول لك:
_ «حسناً، دعني أفكر».
وتختلس النظر إلى جسدها النحيل، وشعرها المنفوش مثل مكنسة، وأنفها المعقوف إلى الداخل كمنقار بومة.. والودع، والأصداف المبعثرة على أرضية الكوخ، والمرآة ذات البقع المسودة مثل سماء مغطاة بقطعان الغيوم، وتتناهى إلى أنفك رائحة غريبة كرائحة أعشاب الشاطئ المهجور، على حين ترسل الريح صفيراً حاداً عبر شقوق أخشاب الكوخ المتآكل..، وإذ تنظف العجوز حنجرتها بسعال خفيف، تخرس الريح تماماً، ثم تتجه ببصرها إليك قائلة:
_ «حسناً، لا بأس من ذلك».
وتقوم إلى مرآتها، وتمسحها بطرف ردائها الأسود إلى أن تنجلي، ثم تضعها أمامها دون أن تسمح لك بأن ترى على صفحتها أيّ شيء!
ستقول لك المنجمة العجوز:
_ «أنت من بنغازي، أليس كذلك؟».
_ «أجل.. أجل!».
- «حسناً، لقد عرفتها بالترع الممتدة باتساع الشوارع، والأطفال المبللين أبداً طوال الشتاء»!
وتشعر بالخجل يحرق جبينك، وتقول بهمس:
_ «بالضبط، هذا ما يحدث هناك..، فهل ثمة حل؟».
- «أبداً، إلى أن يقذف الله المقاولين وأعوانهم إلى قعر السعير، ولكن دعنا من هذا، فثمة ما هو أسوأ من ذلك.. أتسمع! إن بلادك ستصبح مثل غابة، تماماً مثل غابة، حتى إنك ستظل تحلم بالذئاب بلا انقطاع، فيما تصدأ على شفاهكم كل الكلمات الصادقة.. وإني أرى الآن أن أحد الرجال يقتل على الرصيف مثل كلب ضليل لأنه قال كلمتين صادقتين في قاعة المحكمة.. وسيقتل مثلما قلت لك تماماً.. حسناً، وثمة رجل سيأتي إلى المحكمة في نفس القضية، وسيقول كلماته بشجاعة وجرأة، ولكن الذئاب ستمزق جسده أمام بيته في اليوم التالي..
.. وتخرسون جميعاً»!
وتوسع الدهشة عينيك، وتتساءل:
_ «وماذا سيحدث أيضاً؟»
_ «سوف لن يكون في إمكانكم أن تفعلوا شيئاً سوى أن تنصتوا إلى رؤساء التحرير الذين سيحترفون تجارة المديح.. إن ألسنتهم المعوجة لن تتحرك إلا عند التودد والترحاب».
_ «وماذا أيضاً؟» وتتطلع العجوز إلى المرآة طويلاً، ثم تقول:
- «سيفد عليكم قطيع آخر من الذئاب.. وتكتظ بلادكم بالأجانب إلى حد يفكر فيه المواطن كثيراً قبل أن يلقي تحية الصباح.. وسوف يكون الأمر يسيراً للغاية، إذ ما إن يدفع أحدهم عشر جنيهات _ من طريق المتعهد _ حتى ينال في بيته تأشيرة الإقامة!».
وتصرخ أنت على الفور:
_ «يا إلهي، وماذا أيضاً؟»
- «وسيبيع المقاولون العمال التعيسين إلى شركات التنقيب عن النفط. سيبيعونهم مثل الرقيق، ومثلما تباع الأحذية القديمة، وفيما ينزفون عرقهم في أقصى الجنوب، تظل الرياح الجنوبية الحاقدة تأكل حبات عيونهم وقلوبهم المليئة بالقهر والأمل!».
- «واو، وماذا أيضاً؟».
- «وستجتاحك مشاعر الحب في يوم ما..».
_ «أنا؟.. أنا؟».
- «نعم، إنك ستحب فتاة ذات حسن باهر.. وستنفق كل وقتك في تصيد خطاها إلى المدرسة..».
- «أتعنين أنها ستدخل المدرسة؟».
- «أجل، لكنها ستعتقد بعد سنوات أنها عبأت رأسها بكل العلوم، إلى حد أنها ستشعر بالزهو باتصال مثل طاووس أحمق في الوقت الذي لا تعرف فيه شيئاً مجدياً على الإطلاق.
ولكنك رغم هذا ستحبها بجنون حتى يورق قلبك، وتمتلئ عيناك بالرؤى الوردية ذات العبير..، بيد أنها ستبتهج بانطلاقها إلى المدرسة بحرية كاملة، إلى أن تغيب عنك في أحد الأيام..، وتنتظر شهرين بعدئذ فيما يأكل القلق أعماقك بشراهة.. ثم تكتشف في النهاية أنها وضعت طفلاً من أحد العمال الوافدين من الخارج»!
وتصعق حتى يزرقّ وجهك وتتلاعب الأصداف الكلية البياض أمام نظراتك المخفضة ولكن العجوز لا تهتم بهذا، بل تواصل:
- «ستبقى بلادكم مثل مرساة وحيدة، متلفعة برداء من الصدأ، ستبقى مثل مرفأ مشحون بذكريات رحيلكم إلى القاهرة، وأثينا.. فإذا عدتم مرة أخرى نهشتهم بضعة ديون أو سرقات بطريقة ما، وأهديتموها كلها في أعقاب الليل إلى (ماريا) القادمة من الحارات الوضيعة في إسبانيا للعمل بذلك الملهى».
وتفقد كل رغبة في أن تسأل عن أي شيء آخر، ولكن المنجمة العجوز تستطرد:
_ «ستمتلئ أعماقكم بالغرور لمجرد أنكم ارتديتم بدلاً جديدة.. وسوف ترفعون أنفكم عالياً عند أول انتقاد، سترفعونه في شموخ، ثم تبصقون كلمات مفرطة القبح.. والحماقة في وجه من يحاول أن يغرز خيوط الضوء في كهوف عقولكم.. ستصلبونه على مقاعد المقاهي، حتى يبكي الشيطان من أجله!».
ويغمر قلبك حزن جليل، وتخرج من هناك بخطى واهنة كأنك تسير في جنازة.. وتمضي دون أن تلقي نظرة أخرى على كوخ العجوز إلى أن تلج الغابة مرة ثانية!
وتشرع الأغصان الشريرة في تمزيق جبينك، وساعديك، على حين تلوح الجذوع أمامك قاسية مثل رجال الشرطة، وتأكل قدميك الأشواك.. والأحطاب المتيبسة الحادة.. ويحطم جبهتك جدار الظلام، ويفح في حقد صفيق.
ويضيق في عينيك الطريق..
(۲٦ أكتوبر ۱۹٦۸)

رحلة الليل والنهار في الغرفة 21
«نستبدل منفى بمنفى، مثلما نستبدل حذاء بحذاء!» (بريخت)
الليل صديقي..
فحين تخلو الطرقات من ضجيج العربات والمارة، وتطفأ الأضواء في واجهات المحالّ. على حين تظل قصاصات الورق تذرع الطرقات أمام الريح الوافدة مع عتمة المساء. فيما تتصافح أوراق الشجر في صوت خافت.
حينئذ يتأبط الليل ذراعي. يأخذني من يدي ويرجع بي إلى غرفتي في الفندق. وإذ أغرقه بالضوء في الغرفة الباردة الجدران حين أدخل، يظل في وسعي أن أراه واقفاً خلف زجاج النافذة متطلعاً إليّ بطيبة مفرطة. ثم، على نحو تلقائي، يريني سماواته الغامقة الزرقة، المرصعة بالنجوم، وقمره المتزن الفاتن، وندف السحابات الناعمة، وأشباح الأشجار البعيدة، وقطة تسرح في الطريق.
أصافح كل ذلك بعيني معاً. أعانقه بحرارة. أبكي وأضحك على صدره. أحكي له عن بقية أصدقائي، أفني فيه – عبر الليل – ذاتي. وأعنيه أشعاراً لا أذكرها.
الليل صديقي..
وحين أطفئ النور، وآوي إلى سريري، يلج الليل زجاج النافذة، ويغمر الغرفة فجأة بحزن جليل دافئ. ثم يأحلام مشرعة الجفون، ملونة رغم العتمة، وبالصور، بعيون حلوة متسامحة رأيتها كثيراً من قبل. بالحكايات، بوجه الله المشرق في قاع قلبي.
وأحرق لفافاتي، رَانِياً إلى السقف الذي لا أراه، وفيما أنفض رمادها، أكون قد نفضت عني كل متاعب اليوم. كل الحماقات الصغيرة وإساءات الآخرين إليّ، كل أحقاد السنين الماضية. وخيبة العمر في كثير من الأحيان. كل ذكريات الجوع، والجري في كل الاتجاهات، والتسول من أجل كلمة طيبة، والبكاء بلا دموع على أرصفة العالم عبر الجليد!
إنني أنفض قلبي مثل منديل أبيض مبلل، إلى أن تختفي من ساحته غابة التجاعيد، وأعدم بقية لفافتي الأخيرة، وأشرع في أن أنام.
لكنما الليل صديقي..
إنه يشدني من أذني برفق. ويذكرني بالوجوه العديدة التي قابلتها طيلة اليوم، ويمطر الصباح البارد، والصداقات التي كان في إمكاني أن أعقدها، والكلمات النابضة المدفونة في بئر القلب، والقصيدة التي نسيت مطلعها في بداية المساء، وبطاقة البريد التي أزمعت كتاباتها إلى أبي، واستقبال صديق قادم من الشمال غداً، وتتمة الرسالة التي سأبعثها إلى «روز ماري» في لندن، وانحباس المطر، والقطرات المتشبثه بأوراق الأشجار عند الظهيرة مثل ندى الفجر، ثم تمزق الغيمات، وانجلاء الأفق، وانهمار أشعة الشمس المتفتفة، والدفء المتسلل!
ويستغرقني النوم.
قلت لك إن الليل صديقي. لكنني أنساه على الفور. أخونه مباشرة حين يطويني النوم. وأظل أحلم بالنهار. برائحة الصباح الشذي. ومرأى الرجال المسرعين إلى أعمالهم. والحافلات الملأى بالعيون التي ما زالت تتثاءب، وعربات الأجرة المتلهفة أبداً. وأعناق الأشجار المتمايلة في وجه الريح. وتحيات الصباح الودودة، وألف شيء آخر أنساه دائماً في زحمة رؤاي!
الليل صديقي..
إنني حين أهمّ بالذهاب إلى عملي في الصباح الباكر، وأودعه خلفي في الغرفة، أجده لا يزال يلاحقني على طول طريق المرفأ. إن عتمة الليل، حينذاك، لا تفتأ تنشر بقية أطيافها على الصباح، فيما يصبح في وسعي أن أرى جدائل النخيل المتموجة، وأضواء البواخر البعيدة، ولمعان الطريق المبلل، وتمثال الغزالة الرمادي المحاط بست نخلات مهيبة، سامقة، والحديقة المهجورة ذات المقاعد الندية، وأن أسمع صياح النوارس المبكرة على امتداد الساحل، وأصوات الأقدام المسموعة فوق الرصيفين، والأمواج الرتيبة، وهدير العربات المضاءة، وتحيات الصباح الودودة!
إنني فيما أوالي مسيري، أحتضن كل ذلك شاعراً بالصقيع، رغم هذا، يقرض عظامي. لكنما أظل أمنّي النفس بأن الشمس ستشرق بعد قليل، وستوقظ عبير الأرض، وتغمر الناس – كل الناس – بالدفء والرضا.
ولقد كانت تشرق دائماً، وكانت أبداً علامة جيدة على نهار يستحق الحياة. يستحق أن يعاش بكل أبعاده.
قلت لك إن الليل صديقي.
وأنا أقول لك أيضاً إن النهار كذلك.
.. فلتتبارك الحياة!
(۱۹٧٥)


تخرج الذكريات من شق قلبي مثل ثعبان.. تخرج زاحفة، ملساء، لامعة، سلسة، ملونة. إنني لا أدري أحياناً إن كانت هي تفح.. أو قلبي ذاته.
* من قصة «ثعبان الليل»، ۲سبتمبر ۱۹۹۲.


إن نبضي الأرعن لا يعرف الانطفاء، فحين تجرح البجع، يشتد غناؤها.. وحين تغتم السماء، ينهمر المطر!
* من مقال «كلمات متقاطعة» (۲۰ نوفمبر ۱۹٦۸).


الشمس هي الشمس حتى وإن كان نصيبك منها بضعة شعاعات، مجرد خيوط مشبعة بذرات الغبار، والريح هي الريح حتى وإن تسللت إليك عبر النافذة مثل سارق، والليل هو الليل مجرد كائن مملوء بالخرافات والأساطير والذكريات وبعض الأماني. إنك لا تملك سوى أن تكون أنت، أن تكون ذاتك.. أما غير ذلك فباطل، باطل وحق الله.
* آخر ما كتبه (على قصاصة صغيرة) خليفة الفاخري قبل سبعة أيام من رحيله (٣٠ أيار/ مايو ۲۰۰۱).