يفغيني زامياتِن 1ترجمة نوفل نيّوف

* عشر دقائق دراما
كانت عربة الترام رقم 4، بعينَيها الصفراوَين، تسير مسرعة تشقّ البرد والريح والظلام على طول نهر النيفا المتجمّد. كانت مضاءة من الداخل. فيها بنتان زهريّتان من الكمسومول تتناقشان حول تروتسكي. وكانت سيّدة تحمل جرواً في سلّتها خِفية. وكان الجابي يتحدّث عن الله بصوتٍ خفيض مع عجوزٍ سابق. ما من أحد بين الحاضرين، باستثناء المؤلِّف، كان يخطر له أنهم سيكونون الآن أشخاصاً مشاركين في قصّتي هذه، ينتظرون بقلقٍ نهاية دراما تدوم عشرَ دقائق في عربة ترام.
افتُتحتِ المسرحية بنداء الجابي: ـ ساحة البِشارة، واسمها الجديد ساحة النصر!
كان هذا النداء استهلال الدراما، وكانت واضحة فيه العناصر الأساسية لنزاع تراجيدي. فمن ناحيةٍ، هناك العمل. ومن ناحية أخرى، هناك عنصرٌ لا علاقة له بالعمل، ويتمثّل في هيئة الملاك جبريل الذي ظهر لمريم العذراء مبشِّراً.
فتح الجابي باب عربة الترام فدخل شابٌّ ساحر الحسن، وفي يده جريدة «إزفيستيا» الموسكوفية. جلس الشابّ قُبالتي، وبعناية سحب رُكبتَي بنطلونه الفائق اليسارية، وعدَّل نظّارته على أنفه.
بالطبع كانت النظّارة دائرية الشكل، أميركية، ولها ذراعان مقوّستان خلف الأذنَين. في هذا الهندام يغدو البعض، كما هو معروف، شبيهين بالدكتور فاوست، والآخرون شبيهين بجياد السباق. كان الشاب ينتمي إلى الصنف الثاني. فقد كان يدقّ الأرض بحافر حذائه اللمّاع نافدَ الصبر؛ إذ كان عليه أن يصل في الوقت المحدَّد بدقَّة إلى حيّ «فاسيليفسكي أوستروف» للقاء مريمَ شبهِ العذراء، إلا أن الجابي ما زال في المحطة ممتنعاً عن قرع الجرس إيذاناً باستئناف حركة عربة الترام. ولكنْ لا يجوز إلقاء اللوم على الجابي، لأنه لم يكن قادراً على إطلاق عربة الترام قبل أن يأتي العنصر الثاني الذي لا بدّ منه للنزاع الدرامي.
مارك شاغال ــــ «خُطَاطَة للثورة» (زيت على قماش، 1937)

وأخيراً جاء. فدخل، وثبّت على الأرض جزمته اللبّاد الضخمة، ثم قبض بقوة على الحزام المخصص للواقفين. ما من أحدٍ غيره كانت تضطرب تحت قدميه هزّة أرضية غير محسوسة، فشرع يترنّح. وفيما كان يترنّح كان يسبح تحت قدميه عالَم عجيب: بنتان زهريّتان من الكمسومول، وجروٌ بديع..
ـ تيوتكا، تيوتكا، تيوتوتشكا، يا عزيزي!
انحنى ليداعب الكلب، ولكن الهزة الأرضية غيرَ المرئية خلخلتْه فارتمى على المقعد بالقرب منّي، وبالضبط قُبالة الشاب اللمّاع.
ـ هوب، هووووب، نعم إني شربت.. وماذا في ذلك؟ ـ قال ـ لي كاملُ الحق، نعم! لأنه ها هي القروح، ها هي، انظرْ!
وعرض كفَّيه أمام جمهور عربة الترام، فأعفاني بذلك من ضرورة إيضاح منحدره الاجتماعي: إنه ظاهرٌ للعيان. وواضح أنه ليس مصادفة أن تقضي إرادة القدر وإرادتي بأن تُجلِسهما متقابلَين: جاري بجزمته اللبّاد، والرجل اللمّاع.
كانت نظّارة الشابّ تتلألأ. وكانت أسنان جاري البيضاء الجميلة تتلألأ أيضاً بسبب خبز الجودار الأسوَد، وبسبب البرد القارس، وبسبب بسمته العريضة. كان يترنّح، وهو يطوف الوجوه ببسمته، سابحاً بالقرب من البنتين الكمسوموليّتين والجابي والسيّدة التي تُخفي الجرو.. فتوقّف مأخوذاً ببريق النظارة الأميركية. وأحسّ الشاب بنظرته فتململ مضطرباً بين ذراعَي نظّارته المقوّستين. وأخذت أسنان جاري البيضاء تزداد انكشافاً إلى أن صاح، أخيراً، بكامل الدهشة: ـ أوه! ما أحسنك! والبنطلون، البنطلون.. ما أجمله! والنظّارة.. هذه النظّارة، انظروا يا إخوتي! كم أنتَ أنيق! يا حبيبي!
أصدرتِ الكمسوموليّتان ضحكة مخنوقة ساخرة. واحمرّ الشاب في هندامه، ولكنه تذكَر في الحال أنه، وهو ملاك ساحة البِشارة، لا يليق به أن يشتبك مع مِهَنيّ سكران. فحبس أنفاسه وانحنى بنظّارته على الجريدة.
لم يكفّ المهنيّ لحظة عن التحديق في نظّارة الشاب. كان الكون يهتزّ ويسبح أمامه. ودارت الأرض في داخله دورة كاملة خلال ثانية، وأوشكت الشمس على الغروب، وها هي قد غابت، وغاب بريق أسنانه البيضاء. بات الليل يغطّي وجهه.
ـ كم سننهال عليكم بالضرب، يا أولاد الكلب.. آخ! قال فجأة وهو ينهض ـ من أنت، آ؟ إنك عضو الرأشمال، نعم هذا أنت! تتظاهر بأنك تقرأ جريدة، كأني لشتُ موجوداً بالنشبة لك. ولكن إذا أخذتك ووجّهت لكمة إلى نظارّتك، عندها شتعرف الموجودين!
كانت الجريدة على ركبتَي الشابّ الرائع ترتجف. لقد كان يعرف أن سعادته في حيِّ «فاسيليفسكي أوستروف» قد ماتت: فلن يكون في مقدوره وهو مدمّى، أزرق الكدَمات أن يظهر أمام مريَمه. وكان عشرون زوجاً من العيون لا يتوقّف ثانية واحدة عن متابعة تطوّر هذه الدراما التي تقترب من نهايتها.
هنا، ووَفقاً لقوانين الدراما، كان لا بدّ من فاصل لكي تنشَدّ أعصاب المتفرّجين مثل الوتر. وقد ملأ الجابي هذا الفاصل حين أسرع إلى مكان الحدث ليقوم بواجبه كمسيحيّ وقائدٍ للركّاب. فقبض على كُمِّ المهني: ـ أيّها المواطن، أيّها المواطن، اهدأ، هنا لا يجوز!
ـ أنت.. أنت خير لك ألّا تتدخّل! أقول لك لا تتدخّل! غمغم المهنيّ مهدّداً.
تراجع الجابي سريعاً صوب الباب وتجمّد. وتوقّفت عربة الترام.
ـ شارع بولشوي.. اسمه الآن شارع انتصار البروليتاريا! ـ صاح الجابي متذمِّراً وهو يفتح الباب بارتباك.
ـ شارع بولشوي؟ يجب عليّ أن أنزل هنا. ولكن لا، إني لن أنزل الآن. بل شأبقى.
انحنى المهنيّ على النظارة الأميركية. بات واضحاً أنه لن يغادر قبل أن تنتهي هذه الدراما بكارثة ما.
شارع بولشوي.. اسمه الآن شارع انتصار البروليتاريا! ـ صاح الجابي متذمِّراً وهو يفتح الباب بارتباك


كانت مسموعةً أنفاس الكمسوموليَّتَين وهي تتردّد سريعة باضطراب. وضمَّت السيّدة السلّة التي فيها الجرو إلى صدرها والتصقت بالزاوية. بينما كانت جريدة «إزفيستيا» ترتجف على البنطلون الفائق اليسارية.
ـ إيه! أنت! ارفع وجهك! قال المهنيّ. فرفع الشاب الرائع وجهه المحصور بين ذراعَي نظّارته مرتبكاً، طائعاً، لا تستقرّ عيناه خلف زجاج العدستَين. كانت عربة الترام ما زالت متوقِّفة. ولم يكن لدى الجابي قوّة ليمدَّ يده ويضغط على جرس الانطلاق. تحرّك المهنيّ مترنّحاً بجزمته اللبّاد الضخمة ورفع يده على «عضو الرأشمال»: ـ إيه، خاطبَه، ـ شأنزل، وربّما لن أراك بعد الآن أبداً. لكن قبل الوداع فإني الآن..
حبس الجابي أنفاسه وهو يشعر بدنوّ نهاية الدراما، ومدَّ يده نحو الجرس!
ـ توقّفْ! إيّاك أن تلمسه! صرخ المهنيّ، ـ دعني أُنهي!
تجمّد الجابي من جديد. ترنَّح المهنيّ لحظة كمنْ يسدِّد نحو هدف، وأنهى جملته.
ـ وأنا أودِّعك، أيها الفتى الجميل، دعني أقبّلك!
وعانق الشابّ المرتبك، فقبّل شفتيه بصوت مسموع، ثم خرج.
ثانيةٌ من الصمت أعقبها الانفجار: لقد تقطّعت خواصر جمهور عربة الترام من الضحك، وقهقهتْ عربة الترام على سكّة الحديد وهي تشقُّ الريح والظلام بمحاذاة نهر النيفا المتجمّد.
* 1929
■ ■ ■
* السّاعة
في هذه القصة لا يظهر على المنصّة أيٌّ من الشخصيات الرفيعة في هيئة جثّةِ هامدة. إن بطلي المتواضع سيميون زايتسِر ـ أو إذا راق لكم، الرفيق زايتسِر ـ ما زال حتّى اليوم حيّاً يرزق، وما زال يعيش في المكان نفسه، في المنزل رقم 7 في شارع كارافانَّيا في لينينغراد. مع ذلك، فإن هذه القصة تاريخية، لأن الحوادث التي يجري وصفها هنا إنما وقعت في هذه الحقبة الرومانسية، يوم كان الزمن في روسيا ما زال يُحسب بالسنوات، وليس بالخطط الخمسيّة، يوم كانت الفودكا تُعَدّ سُمّاً برجوازياً وكان المتعطِّشون للنسيان يشربون الكولونيا، فيما كان الرصاص يدوّي طول الليل في صحراء الجليد الزرقاء بشوارع بطرسبورغ، حين كان قطّاع الطرق المرِحون يطلِقون المارّة إلى بيوتهم تاركين عليهم قبّة قميص وربطة عنق، حين كانت أفضل هديّة للحبيبة رطْلاً من السكَّر معقوداً بشريطة قماش صغيرة، حيث حصل الرفيق زايتسِر على ساعته الذهبية الشهيرة مقابل حِمْلٍ واحد من الحطب.
كان زايتسر رجلاً عظيماً، مكلَّفاً بتقديم الحطب لبطرسبورغ التي تتجمَّد من البرد، فهو من يوقِّع الأوامر الخاصّة بالحطب، وهو من يدفّئ الناس مثل الشمس، وكان كُرَويّ الشكل، أمغرَ، متألّقاً. وإذا كنتم قد تجرّأتم ذات مرّة ونظرتم إلى الشمس، فلعلّكم لاحظتم أن مظهرها لم يكن منوّراً فقط، بل كأنما كان قد مسّها بعض ذهول من ألقها نفسه. هذا الإعجاب بالنفس هو بالضبط ما كان يرتسم على وجه الرفيق زايتسر: فقد كان حاجباه دائماً مرفوعَين عالياً على نحو معبِّر، وكأنه لم يستطع حتى الآن أن يصدّق أنه، زايتسر الذي كان حتى الأمس صانعاً عند خيّاط في مدينة بينسك، هو من يجلس الآن في مكتب رسمي مخصَّص له، وأن السكرتيرة فيرَتشكا (2) تحت تصرّفه الشخصيّ، وأنه يملك في جيب سترته ساعة ذهبية، وأن..
على أيّ حال، خير لنا أن نكشف حالاً جميع الأوراق لنقول مباشرة، من غير أن نضيِّع سطوراً ثمينة، إن رطل السكَّر الذي أشرنا إليه أعلاه، المعقود بشريطة قماش زهرية اللون، كان قد جاء به الرفيق زايتسر نفسه للسكرتيرة فيرَتشكا، وأن الساعة الذهبية كان قد حصل عليها أيضاً من أجل فيرَتشكا، لتكون لها ترياقاً يحميها من حزام الفضّة القوقازي الذي كان الرفيق كوباس، سكرتير الخليّة الحزبية ومحرّر جريدة الحائط في مؤسسة زايتسر، يرتديه على خصره النحيل قبل أيام قليلة.
غير أن فيرَتشكا ـ واأسفاه! ـ لم تنتبه إلى الساعة الذهبية الشهيرة. كان الرفيق زايتسر قد نقر على العلبة عدة مرات، ثم وضع الساعة أمامه فوق كومة من الأوراق، إلا أن فيرَتشكا كانت، مثلما من قبل، تنظر بشرودٍ عبر النافذة إلى ندف الثلج البطيئة. وأخيراً لم يعد الرفيق زايتسر يطيق صبراً: ـ اسمعي، يا رفيقة فيرَتشكا، هل رأيتِ مثل هذه الساعة، آ؟ أقول كلّا، إنك لم ترَي مثلها!
ورفع الساعة البرّاقة في الهواء ثم وضعها في جيب سترته، فسمعت فيرَتشكا في الحال أرقَّ موسيقى ساحرة كأنها صادرة من أعماق زايتسر نفسه، تبِعها رنين فضّي: إنها التاسعة. فتحتْ فيرَتشكا عينيها على سَعَتهما (كانتا زرقاوَين). فشرح لها زايتسر متألّقاً أن لمسة سريعة على هذه الساعة «هنا، على بطنها الناعم، كما يقال، تكفي لتسمعي الموسيقى والوقت»! أرادت فيرَتشكا في الحال أن تجرّب بنفسها ـ هل يمكن؟ يا إلهي، ما هذا السؤال! طبعاً، ممكن!
اقتربت فيرَتشكا من الرفيق زايتسر. ثم شرعت تتلمّس بيدها تلك الموسيقى الخفيفة في صدره (بالأحرى، في جيب سترته). كانت رقبتها قريبة جداً أمام عيني زايتسر، وكذلك يدها العارية حتى المرفق. وكانت فيرَتشكا مذهَّبة كلّها تقريباً، يغطّيها بالكامل زغب ذهبي شفّاف، له ملمس فروٍ تقريباً، ولعلّ هذا بالضبط ما كان يمكن أن يخلب لبَّ أيّ كان. وحين وجدت فيرَتشكا الساعة، أخيراً، وضغطت بيدها عليها، بدا كأنها ضمّت برفقٍ في يدها قلب الرفيق زايتسر. وقد دقّ قلبه المضموم فقرّر أنه، ما إن تنتهي الساعة من عزف موسيقاها حتّى يسارع حالاً فيبوح لفيرَتشكا بما كان يرغب بالبوح به منذ وقت طويل، ولكنه لم يكن يجد في نفسه الجرأة.
معقول جداً أنه كان قال لها ذلك لو لم يدخل الرفيق كوباس إلى المكتب في هذه اللحظة. احمرّت فيرَتشكا واستقامت، وقلَّب زايتسر الأوراق، فيما ومض ذيل أفعى سامّة في بسمة الرفيق كوباس ثم اختفى في زاوية شفتيه. وتعمّد الإبطاء لحظة قبل أن يعلن بنبرة رسمية ناشفة قليلاً أنه يجب اليوم السماح للرفيقة فيرا كي ترتّب مواد العدد الدوري من جريدة الحائط. ابتسم زايتسر ببشاشة وقال: ـ عزيزي الرفيق كوباس، أنت ناسٍ أن عندنا اليوم اجتماعاً في المساء، ويجب عليّ أن أُملي على سكرتيرتي (بتشديد على هذه الكلمة) تقريراً عن حملة الربيع الخاصة بتجهيز الحطب. أحضري آلتك الكاتبة، يا رفيقة فيرا، أرجوك..
خرجت فيرَتشكا. رفعت الغطاء عن الآلة الكاتبة فسمعت عبر باب المكتب كيف كانت الأصوات تزداد ارتفاعاً هناك، وكيف بلغت حدّ الصراخ. «لا أستطيع بدونها أن أُصدر جريدة الحائط! إنك تعطِّل العمل على تربية الشغّيلة سياسيّاً!» ـ صرخ كوباس. «وأنت تضع العصا في عجلة تدفئة العاصمة الحمراء» ـ صرخ زايتسر. كانت فيرَتشكا تعرف أن التربية السياسية للشغّيلة وتدفئة العاصمة الحمراء مسألتان تتوقّفان عليها بالذات. ولكنها لم تستطع حتى الآن أن تَفهم قلبها: هل تختار الرفيق زايتسر أمِ الرفيق كوباس؟ إن زايتسر مريح، ودافئ، عنده حطب وساعة وشقة (ليس غرفة، بل شقة كاملة!). وإن لكوباس خصراً نحيفاً يحيط به حزام فضّي، وله عينا طائر حادّتان، الحياة معه مخيفة قليلاً، ولكنْ..
لم يكن واضحاً لأحد غير فيرَتشكا ما معنى «ولكنْ» هذه. كان شيء واحد فقط واضحاً، هو أنه قد حان الوقت، وأنه إن لم يكن الآن: هناك في المكتب، فإنه اليومَ مساء، أو غداً صباحاً كان يجب، أخيراً، أن ينتهي كل شيء. ولكن كيف؟ كيف تتصرّف لكي لا يكون عليها أن تندم فيما بعد على غلطتها؟ تنهّدت فيرَتشكا، وبيدين يعلوهما الزغب رفعت بحذرٍ آلتها الكاتبة الثقيلة كأنها القدَر، ومضت بها إلى المكتب لمواجهة قرارات مصيرية.
ـ اجلسي، أرجوك، ـ قال زايتسر لفيرَتشكا. ـ سأملي عليك الآن.
ـ آه، هكذا؟ حسن جداً! ـ نقر الرفيق كوباس بعينيه زايتسر وخرج.
وضعت فيرَتشكا أصابعها على أزرار الحروف. في هذه السكينة كان مسموعاً بأيّ صعوبة يتنفّس زايتسر. كان ينظر إلى يديها.. ووراء النافذة كان الثلج يتساقط نُدَفاً.
ـ نعم.. هكذا، إنه الربيع إذاً، ـ قال زايتسر.
ـ الربيع؟ ـ تعجّبت فيرَتشكا .
ـ حين أقول إنه الربيع، فذلك يعني: نعم، إنه الربيع. اكتبي: «مع بداية حملتنا الربيعية»..
وخلافاً للطبيعة، كان الرفيق زايتسر على حق. تظنون أن الربيع لونٌ زهريّ، وسماوي وبلابل؟ أضغاثُ أحلام! وعْلان كانا بالأمس يرعيان معاً في مرج ثلجي جنباً إلى جنب، يتناطحان اليوم من أجل وعْلة فتيّة ـ هذا هو الربيع. أُناسٌ كانوا بالأمس مسالمين كالوعول، يصبحون اليوم أبطالاً يصبغون الثلج بدمائهم ـ ذلك هو الربيع. لون الربيع ليس سماويَّ الزرقة ولا زهريّاً، بل هو أحمر: لون الخطر، الهياج، الحمّى، القتال.
كان اجتماع المساء في مكتب زايتسر معركة، كان بالأحرى مبارزة. بحرارةِ محموم كانت فيرَتشكا تدوِّن على الآلة طلقات الرصاص، وما من وصفٍ آخر للعبارات التي كان يتبادلها الخصمان. كان كوباس يرشّ كلّ بند في تقرير زايتسر باقتباسات عيار 12 بوصة من لينين. كلّ متر مكعّب من الخشب بات شبيهاً بالفيلم الشهير «بيت مهرِّب العبّارة» في معارك مارْن (3)
ـ اسمع، يا رفيق كوباس. إننا بهذه الطريقة لن ننتهي حتى الصباح! ـ قال الرئيس نافد الصبر.
ولكي لا يلطِّخ سمعته بما للذهب من بريقٍ رأسمالي، وضع زايتسر ساعته في دُرج الطاولة منذ بداية الاجتماع. وقد فتح الآن الدرج خفية ونظر إلى الساعة: إنها الثانية عشرة. لقد صمتت أجراس آخر عربات الترام، وخرج لصوص الليل ليمارسوا مهنتهم حين بدأ الترشيح للانتخابات أخيراً. وأكملت فيرَتشكا عَدَّ الأصوات بسرعةٍ محمومة. كانت تعرف أن من يصوِّت ليس الأمتار المكعّبة من الخشب، بل قلوب البشر.
عشرة أصوات مقابل صوت واحد. هذا الواحد الذي تلقّى ضربة قاضية شدَّ حزامه القوقازيّ الفضيّ بقوة على خصره وخرج من غير أن يودِّع أحداً. وطبيعيّ أن المنتصر السعيد زايتسر مضى يرافق فيرَتشكا حتى تصل إلى بيتها.
كانت الشوارع ودياناً ضيّقة، فارغة، يشع فيها الثلج بالكاد، ليس فيها بشر، ولا في نوافذها السوداء ضوء. لعلّ الرفيق زايتسر لو كان الآن وحده في هذه الصحراء، لكان مشى على رؤوس أصابعه لكي لا يكون مسموعاً هسيس الثلج تحت جزمته، ولعلّه كان اندفع بعيداً عمّن يقابله، هارباً بكلّ ما أوتيَ من قوة على الركض. أمّا الآن، حين ومضت أماهما طلقة وارتعشت يد فيرَتشكا الدافئة في يده، فقد اكتفى زايتسر بضحكة وقال: ـ وماذا؟ فليطلقوا النار كما يشاءون، إنني معك.
لقد كان هذا زايتسر جديداً، كان بطلاً. حتى إن زايتسر كان يتمنّى أن يقع شيء مرعب، فهو لم يكن خائفاً من أيّ شيء. اللّهم إلا من شيء واحد فقط هو ما كان يجب عليه أن يقوله الآن لفيرَتشكا. يا إلهي.. كيف، ومن أين يبدأ؟ البداية أرهب شيء.
كان زايتسر يعبث بزر معطفه بجنون، كأن ذلك الزرّ هو ما كان يُعيقه عن أن يفتح فمه. وأخيراً انقطع الزرّ وتكلّم زايتسر: ـ«أريد أن أقول لك، يا فيرَتشكا، شيئاً واحداً».. «هكذا إذاً!». وارتعشت يد فيرَتشكا مثلما ارتعشت قبل قليل بسبب الطلقة. ـ أيّ شيء؟ ـ سألته فيرَتشكا، وإن كانت تعرف تماماً ما هو ذلك الشيء. ـ قطّة أمّي وضعت، بالأمس، ـ أطلق زايتسر كلماته بغضب.
نظرت فيرَتشكا بكامل الحيرة إلى زايتسر الذي زمَّ عينيه وأردف بصوتٍ حنون دافئ: ـ تعرفين، إنها تستلقي وتغنّي على كيفها، وسبعة قطط صغار. وأنا أقف وأقول: «آه، يا سيميون، أنت أيضاً كان في إمكانك أن تغنّي مثل هذه القطة الأمّ السعيدة..».
يبدو أن فيرَتشكا تصوّرت جيّداً الرفيق زايتسر وهو في وضع سعيد كوضع هذه القطة الأم: فارتعشت الغمّازة على خدّها الأيمن، وغطّت فمها بيدها. رأى زايتسر ذلك وفهم: إنها ستضحك الآن بصوت مسموع، وحينها ينقضي على كل شيء.. كان ينتظر ذلك الضحك برعبٍ مثلما ينتظر الأبطال في روايات تولستوي انفجار قنبلة دوّارة.

لكي لا يلطِّخ سمعته بما للذهب من بريقٍ رأسمالي، وضع زايتسر ساعته في دُرج الطاولة منذ بداية الاجتماع


وفجأة شعر بأن أصابع فيرَتشكا شدّت بقوة على يده، والتصقت به هي كلّها. فانحنى نحو فيرَتشكا وازداد قرباً منها.
ـ انظر! ـ همست له فيرَتشكا.
عندئذ رأى زايتسر، هناك على جهة الشارع المقابلة كان يسير مسرعاً نحوه رجل طويل القامة في معطف عسكريّ عليه رُتَبٌ. لمدّة ثانية واحدة لا أكثر، كان زايتسر القديم موجوداً وتراجع قليلاً. غير أن زايتسر الجديد، البطل، سرعان ما أمر فيرَتشكا: «اختبئي في مدخل العمارة!»، ومضى باتجاه قاطع الطريق، فاتّخذ مكاناً له بالقرب من المدخل المظلم الذي ابتلع فيرَتشكا، ثم توقّف. كان زايتسر يرتجف كلّه، لكنّ ذلك لم يكن خوفاً، إذ هكذا يرتجف مرجل البخار وهو يغلي متوتّراً حتّى أقصى درجاته الخمس عشرة.
اقترب منه الرجل في معطفه العسكري وتوقّف أيضاً. لحظة صمت رهيبة لا نهاية لها. لم يعد زايتسر يطيق صبراً، فقال بصوت ناشف: ـ وماذا، يعني؟
كان الرجل صامتاً ويده في جيبه (مسدّس!). وتسنّى لزايتسر أن تلتقط عيناه شاربَي الرجل الوقحين كشاربي القيصر فيلهلم، وأسنانَه الناصعة البياض.
ظلّ الرجل صامتاً بسخرية جليّة، وكان ذلك واضحاً لزايتسر. وازداد الأمر وضوحاً عندما تحرك شارباه وسأله بصوت أجشّ: ـ عندك كبريت؟
كان زايتسر يغلي، وأراد أن يهجم عليه فوراً ويضربه، غير أنه قبِل التحدّي وتظاهر بأنه صدّق طلبه، فأخرج علبة كبريت وأشعل له عود ثقاب. عندها انحنى الرجل نحو زايتسر حتّى كاد أن يلامسه، وقبض على ثنية القبّة على صدر معطفه ورفعها لكي لا تطفئ الريح عود الثقاب، وأشعل سيجارته. ورأى زايتسر بريقَ خاتم في إصبع الرجل (لعلّه انتزعه من أحد ما في هذا الليل). وأحسّ زايتسر بلمسة لا تكاد تلحظ من يدٍ غريبة. كان قد قرر أن يطفئ عود الثقاب، تجنّباً لرؤية هذين الشاربين اللذين يهتزان ساخرين، حين لاحت في الهواء فجأة أمام زايتسر ساعةٌ ذهبية عبر لهب عود الثقاب الضارب للحمرة.
تطلّب الأمر جزءاً من الثانية كي يدرك زايتسر بوضوح كلّ آليّة المشهد الذي قدّمه قاطع الطريق بإشعال سيجارته. ثم جزءاً آخر من الثانية ليفحص جيب سترته الذي لم تعُد الساعة فيه. دقّ قلب زايتسر دقّات مسعورة فألقى عود الثقاب المشتعل في وجه اللص مباشرة، ثم خطف منه الساعة وأطلق صرخة متوحّشة (لم يخطر على باله يوماً أنه يمكن أن يكون له مثل هذا الصوت): ـ ارفع يديك! سأطلق عليك النار! ـ ومدَّ يده إلى جيب معطفه.
كانت هذه الحركة حاسمة، فجاء الردّ مفاجئاً إلى حدّ جعل المجرم يرفع يديه عالياً، ومن غير أن ينتظر اللحظة التي يطلق فيها زايتسر عليه النار، انحنى، وبحركة التفافية ولّى هارباً وراء الزاوية في الظلام.
أخرج زايتسر من معطفه منديلاً (لم يكن هناك بالطبع أيّ مسدّس) ومسح عرَقه. كان ما زال يرتجف كلّه حين ركضت إليه فيرَتشكا مخطوفة اللون.
ـ ماذا؟ ماذا؟ ـ وشدَّت على يده. ـ لا شيء. انظري.. ـ ونفض على كفّه ساعته التي استردّها. ـ يا له من وغد! كان قد نشلها، هل تفهمين؟ ولكنه ارتكب خطأ جدّيّاً معي. ـ وكيف لم تخَفْ من أنه قد.. كلّا، حتّى إني لم أفكّر أنك هكذا! ـ وشعّت عينا فيرَتشكا إعجاباً. ـ سأقول لك، يا فيرَتشكا، إنه حتّى لو أطلق عليّ النار لكان الأمران سيّان عندي، لأني أكنّ لكِ.. آه، يا إلهي، فأنت، يا فيرَتشكا، تعرفين!
لاذت فيرَتشكا بالصمت وعيناها تشعّان. ولكنْ هناك، تحت، في الظلام كانت يد فيرَتشكا تداعبه مثل قطّة، وحَبَت في كُمّ زايتسر، ولامست كفَّه بمعصمها الذي يغطّيه زغب لا يقاوَم. فانقطع قلب زايتسر مثلما تنقطع عن الغصن تفّاحة حلوة، ناضجة، وسقط إلى تحت.
ـ وما لكِ صامتة؟ فأنا لست قادراً على المزيد! ـ صاح زايتسر. ـ الأفضل أن أقول لك غداً في الصباح، حسناً؟
غير أن عينَي فيرَتشكا وحركة يدها الخفيفة كانت قد قالت كلّ شيء لزايتسر منذ الآن.. ولم يبقَ للصباح، على ما يبدو، إلا النهاية السعيدة المألوفة. إنما أليس الأصحّ أن نقول إن من يصفونها بالمألوفة حسداً هم من لم يمنحهم القدر نعمة الإحساس بالربيع في أي وقت من أوقات السنة.
لا نعرف إن كان الرفيق زايتسر قد نام أم لا في ليلة الربيع الثلجية هذه (هيهات). ولا نعرف إن كانت فيرَتشكا قد نامت أم لا (ربّما). ولكنْ في الصباح، وقتَ مجيء الرفيق زايتسر كان الجميع في مؤسسته قد عرَفوا أنه بطل. وعندما وصل أخيراً، أحاطوا به وانهالوا عليه بالأسئلة والتهاني والابتسامات. ومن غير أن يتوقّف كان زايتسر يغمغم بكلام غير مفهوم، ومضى إلى مكتبه. شيء غريب، غير أن مظهره لم يكن يتّفق مع فعله البطولي: فقد كان مشتّتاً، شاحباً. لعلّ ذلك كان نتيجة ليلة من الأرق، أو ربّما بسبب قلقه القويّ الناجم عن انتظاره اللقاء مع فيرَتشكا وجوابها الموعود. وكان غريباً أيضاً أنه عندما دخل مكتبه راكضاً، اكتفى بإلقاء نظرة جانبية وبخوف إلى فيرَتشكا، إذ أومأ لها برأسه وانطلق إلى طاولته فوراً. ثم فكّ أزرار جاكيته على عجَلٍ، فأخرج ساعته الذهبية وألقاها على كومة الأوراق، ثم فتح دُرج الطاولة وانحنى فوقه وتجمّد. لقد ارتفع حاجباه إلى أقصى حدّ تسمح به الطبيعة.
ـ ماذا حدث؟ ـ ركضت فيرَتشكا إليه خائفة. ـ ماذا حدث؟ ـ قال زايتسر بصوت غريب. ـ انظري ما الذي حدث!
وتناول ساعته الذهبية من دُرج الطاولة ووضعها بالقرب من الساعة الذهبية.. حدّقت فيرَتشكا بعينين واسعتين وهي لا تفهم شيئاً. ـ هذا يعني أني نهبتُ ذلك الوغد! ـ صرخ زايتسر محبَطاً. ـ فها هي ساعتي، لقد كانت هنا، وكان لدى ذلك اللئيم ساعته. لقد فهمتِ، أليس كذلك؟
لقد فهمت فيرَتشكا. ورأى زايتسر كيف اختلجت الغمّازة على خدّها الأيمن. فاستدارت بوجهها عنه. وإذا بصوتٍ غريب، يشبه نشيجاً مكبوتاً، تتبعه بعد لحظة انفجاراتُ ضحكٍ جنونيّ جارف، ثم تطير فيرَتشكا عبر الباب.
لعلّها وقعت هناك، وهي تتلوّى وتختنق، على أوّل كرسيّ صادفته. كان مسموعاً من مكتبها ما قالته، أو بالأحرى ما صاحت به من كلام للعاملين الذين تجمّعوا بالقرب منها، فأعقبت ذلك كارثة طبيعية من الضحك راحت تنتقل من غرفة إلى غرفة، ومن طابق إلى طابق حتى ملأت مؤسسة الرفيق زايتسر برمّتها.
دسّ زايتسر أصابعه في شعره وظل جالساً وحده في مكتبه. كان أمامه ساعتان ذهبيّتان. وحين أصدر الباب صريراً وأطلّ أحدهم برأسه في المكتب غمغم زايتسر من غير أن يرفع إليه عينيه: ـ أنا الآن مشغول. غداً..
لم يجازف أحد بعد ذلك بالدخول إليه، وأقلّهم جميعاً فيرَتشكا. فقد كانت تعرف أنها لن تلبث إذا رأته أن تنفجر بالضحك ثانية في وجهه.
ولمّا خمدت في المؤسسة آخر الخطوات، وأُغلِق آخر الأبواب، نهض زايتسر ودسّ في جيبه ساعته (ساعته الحقيقية)، ثم اقترب من الطاولة الصغيرة التي كانت الآلة الكاتبة لفيرَتشكا مغطّاة عليها. فنظر بعينَين مريرتين إلى كرسيّها الفارغ، وضمّ يديه على صدره. وقريباً من قلبه كانت راقدة تلك الساعة اللعينة التي قضت عليه، فأطلقت موسيقاها. استشاط زايتسر غضباً وضغط عليها بيده لإيقاف الموسيقى، فتحطّم شيء ما في الساعة وصمتت.
غرفٌ فارغة، خالية من البشر، سُلّمٌ وبهوٌ. على الجدار في البهو شاهد زايتسر العدد الجديد، السابق موعده، من جريدة الحائط الذي أصدره اليوم كوباس (وربّما بمساعدة من فيرَتشكا). كان مرسوماً هناك رجل صغير مضحك، ذو شاربَين منتصبَين بغضبٍ وحشيّ، وفي كلٍّ من يديه ساعة ضخمة. وفي الأسفل مكتوب تحتها بحروف كبيرة: «ارفعْ يديك!»
أدار زايتسر وجهه على عجَل وخرج إلى الأبد، من مؤسسته، ومن قلب فيرَتشكا، ومن هذه القصة.
باريس، حزيران/ يونيو 1934

1- يفغيني زامياتِن (1884-1937) أديب روسي، كتب روايته الشهيرة «نحن» سنة 1920. صدرت أوّل مرة في نيويورك بالإنكليزية عام 1924، وبالروسية عام 1952 في نيويورك أيضاً، ولم تنشر في الاتحاد السوفياتي إلا عام 1988. مُنِع من النشر في بلاده عام 1929 فانسحب من اتحاد الكتاب السوفيات. وفي عام 1931 كتب رسالة (نقلها مكسيم غوركي) إلى ستالين طلب فيها السماح له بمغادرة وطنه، واستقر في فرنسا حتى وفاته.
2- صيغة التحبب والتصغير من اسم فيرا.
3- الفيلم من إخراج جيرار بورجوا، وهذه المعارك دارت على شواطئ نهر مارْن شمال فرنسا خريف 1914 وانهزمت فيها القوات الألمانية أمام القوات الأنغلو- فرنسية.