الخلاصات التي يمكن نبشها من كتاب بياتريس ايبو وافرة. في «التحكم البيروقراطي: في تسيير الشؤون العامة في عصر النيوليبرالية» (2012) الذي انتقل أخيراً إلى العربية (الدار العربية للعلوم ناشرون ـــ ترجمة وجيه البعيني)، وخلال محاولتها الجدية لتفسير العلاقة بين تطور الرأسمالية وتطور البيروقراطية، تستنتج مديرة الأبحاث في «المركز الوطني للبحوث العلمية» في فرنسا أن البيروقراطية الليبرالية تحديداً ليست مجرد نزعة. إنها أشبه ببديل خبيث من الاعتراف برأسمالية دنيئة.المدخل عبارة عن قصة قصيرة، أقرب إلى الحقيقة أكثر من أي شيء آخر. الأوراق والمعاملات التي يتوجب عليك إنجازها طوال الوقت، ولا تفهم لماذا يحدث ذلك. القانون، الشهود، علاقتك بالوجود عبر الحاسوب وعبر الوثائق. سيبدو هذا بحثاً لطيفاً للوهلة الأولى، لكن بكل تأكيد الكتاب ليس سهلاً إلى هذه الدرجة. وغالباً، سيشعر كثيرون في البداية، أنهم مهتمّون باشتغالات بياتريس ايبو لأنهم مهتمون بالبيروقراطية، لمجرد كونها رتابة لا يستطيعون تفسيرها. لكن ما تقدمه هو مساهمة معقدة في نقد السلطة وممارستها. ستحتاج العبارات إلى تفكيك، وستحتاج الخلاصات إلى شروحات المختصين. لكن بكلمات مبسطة، ما يمكن التأكيد عليه انطلاقاً من أعمال الباحثة الفرنسية، هو طبيعة الدور الوسخ للبيروقراطية، ولا سيما المتعلق بأسطرة المؤسسة وقوانينها وهرمياتها التافهة، الذي يرهق طموحات العاملين في المؤسسات الخاصة ويضيف إلى أيديهم المزيد من القيود. قبل ذلك، يحدث هذا بالضبط في العلاقة مع الدولة، كمؤسسة تدير علاقتها السلطوية بالمواطنين أغلب الوقت عن طريق الأغلال البيروقراطية. ما تضيفه ايبو هو البحث عن زاوية جديدة للنظر إلى المسألة البيروقراطية، حيث يمكن الوقوف قرب الراهن من دون الابتعاد كثيراً عن الزمن المؤسس للبيروقراطية أولاً، ولأنماط نقده تالياً. الأدوات التي تستخدمها ليست من خارج المألوف، وسيجد القارئ المتابِع مفردات من السياق، من نوع «انعدام الضوابط»، التحرير، الخصخصة، إلخ. الجديد هو استخدام هذه الأدوات للوصول إلى صورة أوضح للترتيبات الليبرالية الجديدة.
العقلانية هي التي ترفد البيروقراطية الجديدة بمزيد من الليبرالية. وهذه علاقة تتجاوز الظاهراتية، إلى واقعية مرتكزة إلى «فِعل أداتي»، بالمعنى الذي يقصده هابرماس للكلمة. ما لا يفوت إيبو هو عقلانية الأنا، أو العقلانية الخاصة بكل شخص لوحده، في ما يتعلق بالقضايا الوجودية مثل الخوف والمستقبل. في الفصل الأول، تحدد ماهية بحثها، وهو ليس عن البيروقراطية، بل عن البرقرطة، أي التحول بالقوة إلى البيروقراطية، وما يعنيه هذا من تجريد. فالتجريد هو عملية، أصبحت معززة بالتكنولوجيا، وتقوم على تقسيم متواصل لمهام العمل. وهذا التقسيم الخبيث يهدف إلى أمر أكثر خبثاً: تجهيل معظم العاملين بطبيعة العمل وبالإنتاج وطبيعته. هناك قواعد دائماً وإجراءات. وبينما قد يعتقد معظم العاملين أنهم في منشأة «اشتراكية»، لكنهم في الواقع يعملون حسب «قواعد السوق» وضوابطه، مثل العقود وأنظمة العمل والتحديد والتنظيم المميزين لشكل رأسمالية حقوق الملكية، ونتاج نمط العلاقات المالية وعلاقات الأجور. بهذا المعنى، فهم البيروقراطية ضروري جداً، لتجنّب الإفراط بالوهم وادعاء احترام الحقوق والالتفاف على السوق. والأهم هو تفسير غواية السلطة التي يتيحها الحكم برأس المال بواسطة «تجريد» بيروقراطي.
فهم البيروقراطية ضروري لتجنب الإفراط بالوهم وادعاء احترام الحقوق والالتفاف على السوق


قبل ذهابها لتحديد «المجتمع الديموقراطي»، تقحم الباحثة إحدى خلاصاتها الأولية في النقاش: المالية كصورة رمزية عن الدفع باتجاه بيروقراطية نيوليبرالية. ورغم أنها تطرح الأمر كمبحث، إلا أن التسلسل المنهجي يتيح التعامل معه كخلاصة ناجزة. وينسحب هذا على دراستها لإدارية الشأن السياسي، حيث تعمّمت مأسسة الإجراءات الديموقراطية أو التشاركية، لتبدو كما لو أنها متآلفة رسمياً، تجنّباً لأي محاولة في التدقيق بشرعية السياسة، أو بشرعية السلطة الهائلة الممنوحة للدولة باسم السياسة. وهذا وهم آخر وكبير. ينبغي التأكيد هنا، على أن إيبو لا تستعمل مصطلح الأوهام، بل تهدف إلى تقديم صورة متماسكة لنواحي التحكم البيروقراطي. وقد يظهر هذا الأمر بوضوح، عندما تعرض ديناميات محددة، تدفع باتجاهات بيروقراطية متطرفة، علماً أن وظيفتها الأساسية هي محاربة البيروقراطية. على العكس تماماً، تلتزم بمنهجية صارمة وتحدد ما يجب تحديده: صيغة التفويض بالذات، وصيغتها التعاقدية، هي أبرز هذه الديناميات. ذلك لا يلغي أنها تستفيض كثيراً عندما تتناول مسألة السيطرة البيروقراطية الليبرالية، حيث يتعزز الانطباع باقتراب البحث من تماسكه.
كخلاصة شبه حاسمة، تجتمع التحليلات في موقع البيروقراطية الليبرالية داخل الشأن السياسي، إلا أنها تعيد التذكير بأنها ليست الأداة الوحيدة لفهم المجتمع وتفسيره. وهذا الاعتراف تقريباً «تقليدي» في السوسيولوجيا الفرنسية. في الواقع، تتقاطع البيروقراطية الليبرالية مع أدوات أخرى، ضمن منظومة من علاقات القوة، وهذا ما يسهم في إخفاء جوانبها المظلمة. بقدر ما لا تبدو حقلاً مخصصاً للبيروقراطيين وتتمظهر في المجتمع، بقدر ما هي أداة قابلة للاستحواذ. ويعني هذا أن الجهاز البيروقراطي الذي تتحدث عنه ايبو، يشبه في بنائه الأساسي منظومة علاقات القوة الفوكوية، خاصةً أنها تشير إلى أن حواف البيروقراطية الليبرالية تكون واضحة وظاهرة ضمن إطار علاقات القوة بين الجماعات والأفراد الذين ينظرون إلى المجتمع بطرق مختلفة ومتناقضة.
يمكن الحديث عن أساس نظري للبحث بوصفه محاولة جدية لفهم عالمي للمسألة. لكن الإضافات العملية لا تتوقف عن الظهور في الكتاب. اللامبالاة مثلاً. هذه هي وظيفة الحوكمة. اللامبالاة تجاه الآخر، الاستخفاف بقضايا المصلحة العامة بحجة أنها لم تعد «على الموضة»، والتنازل عن الحق بالأمن وبالأخلاق. هذا ما يفعله التحكم البيروقراطي، الذي يسير دائماً على نحو مواز مع النيوليبرالية، على عكس ما اعتقد كثيرون لوقت طويل. لذلك، ورغم أنه ينطلق من محددات تاريخية ويحاول فهم المتغيرات، يتيح كتاب ايبو لقارئه أن يضع الأفكار التي عرفها جانباً، والخروج بخلاصات جديدة، عن علاقة السلطة برأسمال، داخل الوعاء البيروقراطي الذي يزداد سماكة بازدياد الطور النيوليبرالي نمواً.