العقلانية هي التي ترفد البيروقراطية الجديدة بمزيد من الليبرالية. وهذه علاقة تتجاوز الظاهراتية، إلى واقعية مرتكزة إلى «فِعل أداتي»، بالمعنى الذي يقصده هابرماس للكلمة. ما لا يفوت إيبو هو عقلانية الأنا، أو العقلانية الخاصة بكل شخص لوحده، في ما يتعلق بالقضايا الوجودية مثل الخوف والمستقبل. في الفصل الأول، تحدد ماهية بحثها، وهو ليس عن البيروقراطية، بل عن البرقرطة، أي التحول بالقوة إلى البيروقراطية، وما يعنيه هذا من تجريد. فالتجريد هو عملية، أصبحت معززة بالتكنولوجيا، وتقوم على تقسيم متواصل لمهام العمل. وهذا التقسيم الخبيث يهدف إلى أمر أكثر خبثاً: تجهيل معظم العاملين بطبيعة العمل وبالإنتاج وطبيعته. هناك قواعد دائماً وإجراءات. وبينما قد يعتقد معظم العاملين أنهم في منشأة «اشتراكية»، لكنهم في الواقع يعملون حسب «قواعد السوق» وضوابطه، مثل العقود وأنظمة العمل والتحديد والتنظيم المميزين لشكل رأسمالية حقوق الملكية، ونتاج نمط العلاقات المالية وعلاقات الأجور. بهذا المعنى، فهم البيروقراطية ضروري جداً، لتجنّب الإفراط بالوهم وادعاء احترام الحقوق والالتفاف على السوق. والأهم هو تفسير غواية السلطة التي يتيحها الحكم برأس المال بواسطة «تجريد» بيروقراطي.
فهم البيروقراطية ضروري لتجنب الإفراط بالوهم وادعاء احترام الحقوق والالتفاف على السوق
قبل ذهابها لتحديد «المجتمع الديموقراطي»، تقحم الباحثة إحدى خلاصاتها الأولية في النقاش: المالية كصورة رمزية عن الدفع باتجاه بيروقراطية نيوليبرالية. ورغم أنها تطرح الأمر كمبحث، إلا أن التسلسل المنهجي يتيح التعامل معه كخلاصة ناجزة. وينسحب هذا على دراستها لإدارية الشأن السياسي، حيث تعمّمت مأسسة الإجراءات الديموقراطية أو التشاركية، لتبدو كما لو أنها متآلفة رسمياً، تجنّباً لأي محاولة في التدقيق بشرعية السياسة، أو بشرعية السلطة الهائلة الممنوحة للدولة باسم السياسة. وهذا وهم آخر وكبير. ينبغي التأكيد هنا، على أن إيبو لا تستعمل مصطلح الأوهام، بل تهدف إلى تقديم صورة متماسكة لنواحي التحكم البيروقراطي. وقد يظهر هذا الأمر بوضوح، عندما تعرض ديناميات محددة، تدفع باتجاهات بيروقراطية متطرفة، علماً أن وظيفتها الأساسية هي محاربة البيروقراطية. على العكس تماماً، تلتزم بمنهجية صارمة وتحدد ما يجب تحديده: صيغة التفويض بالذات، وصيغتها التعاقدية، هي أبرز هذه الديناميات. ذلك لا يلغي أنها تستفيض كثيراً عندما تتناول مسألة السيطرة البيروقراطية الليبرالية، حيث يتعزز الانطباع باقتراب البحث من تماسكه.
كخلاصة شبه حاسمة، تجتمع التحليلات في موقع البيروقراطية الليبرالية داخل الشأن السياسي، إلا أنها تعيد التذكير بأنها ليست الأداة الوحيدة لفهم المجتمع وتفسيره. وهذا الاعتراف تقريباً «تقليدي» في السوسيولوجيا الفرنسية. في الواقع، تتقاطع البيروقراطية الليبرالية مع أدوات أخرى، ضمن منظومة من علاقات القوة، وهذا ما يسهم في إخفاء جوانبها المظلمة. بقدر ما لا تبدو حقلاً مخصصاً للبيروقراطيين وتتمظهر في المجتمع، بقدر ما هي أداة قابلة للاستحواذ. ويعني هذا أن الجهاز البيروقراطي الذي تتحدث عنه ايبو، يشبه في بنائه الأساسي منظومة علاقات القوة الفوكوية، خاصةً أنها تشير إلى أن حواف البيروقراطية الليبرالية تكون واضحة وظاهرة ضمن إطار علاقات القوة بين الجماعات والأفراد الذين ينظرون إلى المجتمع بطرق مختلفة ومتناقضة.
يمكن الحديث عن أساس نظري للبحث بوصفه محاولة جدية لفهم عالمي للمسألة. لكن الإضافات العملية لا تتوقف عن الظهور في الكتاب. اللامبالاة مثلاً. هذه هي وظيفة الحوكمة. اللامبالاة تجاه الآخر، الاستخفاف بقضايا المصلحة العامة بحجة أنها لم تعد «على الموضة»، والتنازل عن الحق بالأمن وبالأخلاق. هذا ما يفعله التحكم البيروقراطي، الذي يسير دائماً على نحو مواز مع النيوليبرالية، على عكس ما اعتقد كثيرون لوقت طويل. لذلك، ورغم أنه ينطلق من محددات تاريخية ويحاول فهم المتغيرات، يتيح كتاب ايبو لقارئه أن يضع الأفكار التي عرفها جانباً، والخروج بخلاصات جديدة، عن علاقة السلطة برأسمال، داخل الوعاء البيروقراطي الذي يزداد سماكة بازدياد الطور النيوليبرالي نمواً.