هناك من يعتقد أن الهوية الفلسطينية كانت، بالأساس، ردّ فعل على الحركة الصهيونية. وهو ما يعني أنها وليدة هذه الحركة، وإن كانت وليداً مضاداً لها، وأنها حديثة جداً. وهو ما أشار إليه أحد الكتاب الصهاينة بقوله إن الحركة الصهيونية أنتجت هويتين معاً: الهوية الإسرائيلية- الصهيونية، والهوية الفلسطينية. يعني: فيلمين بتذكرة على حدّ إعلانات السينمات المنخفضة المستوى. لكن هذا غير صحيح بتاتاً. فرغم النقص الكبير في نصوص الهوية الفلسطينية قبل العصر الحديث، فإن لدينا على الأقل نصاً واحداً، كُتب قبل ألف سنة، يجهر فيه صاحبه بهويته الفلسطينية. كاتب هذا النص واحد من أعظم مثقفي فلسطين في العصر الكلاسيكي للثقافة العربية، ألا وهو الجغرافي المقدسي في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم».
عائلة فلسطينية من بيت لحم عام 1930 (تصوير: خليل رعد)

وهو نتاج رحلات جغرافية قام بها المقدسي في نهاية القرن العاشر الميلادي، وشملت مناطق عربية وإسلامية. ينقل لنا المقدسي في نصه، أثناء وجوده في بلاد فارس، حواراً ممتعاً دار بينه وبين بنائين شيرازيين: «وجلست يوماً إلى بعض البنائين، أعني بشيراز، وأصحابه ينقشون بمعاول وحشة [سيئة]، وإذا حجارتهم على ثخانة [سُمك] اللبن، فإذا اعتدلت قدّروها ثم خطّوا خطاً وقطعوه بالمعول (= الشاكوش) فربما انكسرت البلاطة، فإذا اعتدلت أقاموها على حده. فقلت لهم:
لو اتخذتم مسفنة (= إسفيناً، إزميلاً)، وربّعتم الأحجار.
وأحكيت لهم مسائل في البناء.
فقال لي الأستاذ:
أنت مصري؟
قلت:
- لا، أنا فلسطيني.
قال:
- سمعت أن عندكم تخرّم الأحجار كما يخرّم الخشب.
قلت:
- أجل.
قال:
- أحجاركم لينة ولصناعتكم لطافة» (رحلة المقدسي، «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، «دار السويدي للنشر والتوزيع» -أبو ظبي و«المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، بيروت، ط1، 2003، ص 362).
هذا النص يدحض فكرة حداثة الهوية الفلسطينية. فههنا نجد مثقفاً مقدسياً من الطراز الأول يعلن، ومن دون لعثمة، أنّه فلسطيني، مع العلم أن هذا المثقف لم يعانِ من نقص الهويات أبداً. فهو ذاته يعلن في كتابه ما يلي: «ولقد سميت بستة وثلاثين اسماً، دعيت وخوطبت بها: مقدسي وفلسطيني ومصري ومغربي وخراساني وسلمي ومقرئ وفقيه وصوفي وولي وعابد وزاهد وسياح ووراق ومجلد وتاجر ومذكَر وإمام ومؤذن وخطيب وغريب وعراقي وبغدادي وشامي وحنيفي ومتؤدب وكرَي ومتفقه ومتعلم وفرائضي وأستاذ وداشموند وشيخ ونشاسته وراكب رسول، وذلك لاختلاف البلدان التي حللتها، وكثرة المواضع التي دخلتها» (المصدر السابق، ص68).
وهكذا فقد كان يحوي في ذاته كل الهويات التي كان من الممكن أن يدمغ بها المرء في عهده في فلسطين؛ فهو مقدسي، فلسطيني، شامي، حنفي، ورّاق... إلخ. وقد كان بإمكانه أن يختار أي واحدة من هذه الهويات لكي يعرّف نفسه أمام بنائي شيراز. لكنه اختار من بينها جميعاً هويته العامة الأصل: فلسطيني. إنه فلسطيني قبل كل شيء.
إذن، فما الذي يقوله لنا هذا النص؟
أولاً: أن ثمة في وعي المقدسي إقليماً محدداً ومتميزاً يمكن مناظرته بمصر يدعى فلسطين.
ثانياً: أنّ المقدسي ينسب نفسه إلى هذا الإقليم جملة وطواعية، داعياً نفسه نسبة إليه: فلسطيني، رغم وجود هويات أخرى يمكنه أن ينتسب لها.
نص الطبري يوحي بأن اسم فلسطين كان إلى حد ما عديلاً للشام في لحظة محددة، بسبب شدة تبلوره كإقليم


ثالثاً: أنه من الصعب الاعتقاد أن هذا الانتساب إلى هذا الإقليم كان مسألة تخص المثقف الفرد المقدسي وحده، أي أنها هوية اخترعها بذاته ولذاته. عليه، يحق لنا الافتراض أن النخبة المثقفة في هذا البلد وقتها، أو قسماً لا بأس به منها، كانت ترى نفسها كنخبة فلسطينية، أي كنخبة منتمية إلى إقليم محدد، إلا إذا افترضنا أن المقدسي كان طلعاً غريباً في هذا البلد- الإقليم.
رابعاً: وإذا صح هذا، فمن المستحيل أن تكون هذه النخبة قد لبست هذه الهوية هكذا في عزلة تامة عن الناس العاديين، ناس الشارع، في فلسطين. أي أن لنا أن نفترض أن الناس كانت، على الأرض، وفي حدود ما، ترى نفسها كمجموعة تنتمي إلى إقليم معين يدعى فلسطين، رغم الهويات الأخرى الذي تفتح هذه الهوية على محيطها.
خامساً: أنّ من استمعوا إلى المقدسي لم يستغربوا هويته المدعاة ولم يتساءلوا عنها، بل أكدوها، وهذا يعني أنهم يتعاملون معها كهوية مقبولة مرتبطة بإقليم محدد.
عليه، فهذا النص يشير إلى وجود هوية خاصة فلسطينية، في حدود ما. صحيح أن هذه الهوية قد ترتبط بهويات أخرى أوسع أو أضيق: شامية، إسلامية، مقدسية، أو غيرها، لكنها قادرة على الإعلان عن ذاتها بوضوح، بل وقادرة على أن تضع نفسها فوق جميع الهويات الأخرى في لحظة محددة، خاصة في لحظة الاحتكاك. وكما هو واضح، فنص المقدسي نص احتكاك بامتياز، أي أنه نص يوضح الهوية في مقابل هويات الآخرين. فهو فلسطيني في مقابل: مصري أو شيرازي- فارسي.
وعلينا أن نشير هنا إلى أن لغة النص، ولغة كتاب المقدسي إجمالاً، تحمل دلائل على وضع اللهجة الفلسطينية في وقته، أي قبل ألف سنة من الآن. فهو يعمد إلى استخدام كلمات من هذه اللهجة: أحكيت، بلاطة، مسفنة، ثخانة، فلق، وحش. ومن خلال هذه الكلمات التي ما زالت مستخدمة حتى الآن، نستطيع أن نقول إن هذه اللهجة لم تتغير جوهرياً منذ ألف عام.

نص آخر أقدم
لكن علينا أن نضيف أن نص المقدسي ليس هو النص الوحيد حول الهوية الفلسطينية في المصادر الكلاسيكية العربية. لدينا نص صغير من الطبري يدعم ما استخلصناه من نص المقدسي. ففي سنة مائة ست وتسعين للهجرة، وأثناء الحروب الداخلية بين الأمين والمأمون، حصلت خلافات داخل صفوف قوات عبد الملك بن صالح، الموجودة في الجزيرة الفراتية، والمكونة من أهل الشام وأهل خراسان، أدت إلى اشتباك واسع أصيب فيه أهل الشام بشدة، ما أدى إلى غضب عارم بينهم. فقام رجل من حمص وقال: «يا أهل حمص، الهرب أهون من العطب، والموت أهون من الذل؛ إنكم بعدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة والعزة بعد الذلة، ألا وفي الشر وقعتم... النفير النفير، قبل أن ينقطع السبيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل».
لكنّ رجلاً كلبياً، وكانت زعامة كلب في فلسطين، قام فقال: «يا معشر كلب؛ إنها الراية السوداء، والله ما ولّت ولا عدلت ولا ذلّ ناصرها، ولا ضعف وليّها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم. اعتزلوا الشر قبل أن يعظم، وتخطوه قبل أن يضرم. شامكم شامكم، داركم داركم. الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري (يقصد الجزيرة الفراتية). ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي. ثم سار وسار معه عامة أهل الشام» (تاريخ الطبري، المجلد العاشر، ص 173- دار الفكر للطباعة، ط1، 1998).
وكما نرى، فقد بدا الرجل بقبيلة كلب، لكنه وصل إلى الشام، التي تمثل الهوية الأعرض. غير أن صرخته الأخيرة كانت: «الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري». لم يقل القدس أو الخليل، أو نابلس، أو الرملة، إلخ. بل تحدث باسم فلسطين باعتبارها إقليماً خاصاً ضمن الهوية العربية- الإسلامية. أما الرجل الحمصي فقد نهض ونادى باسم حمص. بل إن النص يوحي أن اسم فلسطين كان إلى حد ما عديلاً للشام في لحظة محددة، بسبب شدة تبلوره كإقليم.
هذه الهوية كانت في جذر الهوية الفلسطينية الحديثة كما نعتقد. فالهوية التي أخذت تنبثق في منتصف القرن التاسع عشر، أو قبل ذلك بقرن، كانت مجرد تحديث وتعميق للهوية الكلاسيكية القديمة. ولم تكن الهوية الفلسطينية لتشكل شيئاً مهماً بالنسبة لي لولا أنها تلعب دور رأس الحربة في مواجهة المشروع الصهيوني. هذا هو السبب الذي يجعل منها هوية ثمينة. هوية يجب تأصيلها والحفاظ عليها.
* شاعر فلسطيني