أثارت آيات سورة يوسف، التي تتحدّث عن بيعه، اضطراباً عظيماً عند المفسرين واللغويين: «وجاءت سيارة أرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسرّوه بضاعة والله عليم بما يعملون. وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً» (سورة يوسف: 19-21).وكانت جملة «وأسرّوه بضاعة» هي التي سببت كل هذا الاضطراب. وقد ذهب المفسرون مذاهب في تفسير جملة:
1: أن جملة «أسروه بضاعة» تعني: أخفوا أمره وادّعوا أنهم أخذوه معهم لبيعه كبضاعة لصالح آخرين: «يعني الوارد وأصحابه، فخافوا أن يقولوا اشتريناه فيقول الرفقة اشركونا فيه فقالوا: إنّ أهل الماء استبضعونا هذا الغلام» (الكامل في التاريخ). يضيف الزبيدي: «وأسروه: الضمير للوارد وأصحابه: أخفوه من الرفقة. وقيل: أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب، وقالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر» (الزمخشري، الكشاف).
2: لكن هناك من يقول إن الضمير في أسروه يعود على إخوة يوسف. فهم الذين أخفوا كونه أخاً لهم، و«قالوا: إنه عبد لنا أبق منا». بل إن هناك من يرى أن إخوة يوسف هم من باعوه، وأنهم أخفوا ذلك: «وعن ابن عباس: أن الضمير لإخوة يوسف وأنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا» (الزمخشري، الكشاف). 
3: أن كلمة أسروه تعني خمّنوه: «وقوله تعالى» وأَسُّروهُ بِضَاعَةً «أي خَمَّنُوا في أَنْفُسِهِم أَنْ يَحْصُلُوا من بَيْعِهِ بِضَاعَةً» (الزبيدي، تاج العروس).
لكن الحقيقة أن «أسروه بضاعة» تعني باعوه كبضاعة. وقد جرى البيع بطريقة «بيع السرار». بذا فيوسف بيع في الواقع مرتين: مرة باعه من عثر عليه في البئر بثمن بخس، وثانية حين باعه من اشتراه بمصر.

بيع السرار
البيعة الأولى قرب البئر هي البيعة الأهم لأنها تفتح لنا باع فهم واحد من بيوع الجاهلية الغامضة: «بيع السّرار». وهذا البيع مختلف حول طبيعته في المصادر العربية. وليس لدينا عنه من المصادر القديمة سوى فقرة واحدة من ابن حبيب. والجميع لنا ينقل هذه الفقرة الغامضة: «وكان بيعهم السرار: إذا وجب البيع وعند التاجر فيها إلف ممن يريد الشراء ولا يريده، أشركه في الربح» (المحبر، ابن حبيب). فالمرزوقي يقول مثلاً: «فإذا وجب البيع وعند التاجر إلفٌ ممن يريد الشراء ولا يريده، فله الشركه في الربح» (المرزوقي، الأزمنة والأمكنة). وهكذا فالمرزوقي غيّر جملة «أشركه في الربح» بجملة «فله الشركة في الربح». هذا كل شيء. كما أن الدكتور جواد علي نقل الفقرة ذاتها كما جاءت: ومنها السرار: «فإذا وجب البيع وعند التاجر إلف ممن يريد الشراء ولا يريده، أشركه في الربح» (جواد علي ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام). ويؤكد لنا سعيد الأفغاني أن بيع السرار لم يرد إلا عند ابن حبيب في فقرته الشهيرة: «لم أجد هذا الضرب في جميع المصادر التي بيدي، لم يذكره أحد غير محمد بن حبيب بقوله: «وكان بيعهم (أي بعكاظ) السرار، فإذا وجب البيع وعند التاجر إلف ممن يريد الشراء ولا يريده، اشركه في الربح» (سعيد الأفغاني، أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، ص 26). لكن الأفغاني وجد فقرة أخرى المطرزي المتأخر صاحب «المنقى»: «وَفِي الْمُنْتَقَى: بَيْعُ السِّرَارِ أَنْ تَقُولَ أُخْرِجُ يَدِي وَيَدَكَ فَإِنْ أَخْرَجْتُ خَاتَمِي قَبْلَكَ فَهُوَ بَيْعٌ بِكَذَا وَإِنْ أَخْرَجْتَ خَاتَمَكَ قَبْلِي فَبِكَذَا، فَإِنْ أَخْرَجَا مَعاً أَوْ لَمْ يُخْرِجَا جَمِيعاً عَادَا فِي الْإِخْرَاجِ» (المطرزي، المغرب في ترتيب المعرب). وهذه الفقرة تشير في الواقع إلى أن هناك من كتب عن «بيع السرار» غير ابن حبيب، وأن المطرزي كان ينقل عنه.

«يوسف، الابن المفضّل» (منمنمات العهد القديم مع كتابة بالفارسية واللاتينية واليهودية ــ 300×390 مم ــ 1244/1254)

ويبدو أن بعض الأجانب شارك في هذا الجدال. إذ يخبرنا الأفغاني أن أحد المستشرقين له تفسير آخر لبيع السرار: «أرسل إلي الأستاذ كرنكو المستشرق المعروف عقب صدور الطبعة الأولى، يقول: «ولأرجع إلى بيع السرار في عكاظ، وأظن أن أمر البيع والشراء كان سراً لاجتماع القبائل التي بينهم عداوات ودماء في هذه السوق. وعلى هذا، تدل قصة طريف العنبري التي ذكرتموها وقد كانوا يتلثمون عند حضور السوق مخافة أن يراهم عدوهم، وهذا رأيي والله أعلم» (سعيد الأفغاني ـ أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، هامش 2، ص 26). وقد عارض الأفغاني هذا الرأي، ومعه حق في ذلك.
انطلاقاً من كل هذا، فقد نفى عرفان حمور وجود هذا البيع من أصله: «وكنت ذكرت، في كلامي عن خصائص الأسواق الموسمية، أن سوقاً كسوق عكاظ، يتوجه إليها التجار من كل مكان، ويعدون لها ما استطاعوا من صنوف البياعات... لا يمكن أن تكون البيوع فيها بطريقة واحدة مبهمة، لا هي من ضروب القمار، ولا من ضروب العبث واللهو واختبار الحظوظ» (عرفان حمور، مواسم العرب الكبرى، ص 843-844).
وأنا أختلف بشدّة مع حمور هنا، وأجد أنه ليس من السهل أبداً التشكيك في مصداقية ابن حبيب أخبر الخبراء في الجاهلية. فوق ذلك، فهناك حديث مشهور ينهى عن بيع السرار: «إياكم وبيع السرار». ولم يكن الرسول لينهى عن هذا البيع لو لم يكن شائعاً. والحق أن نفي بيع السرار سيمنعنا من فهم آيات سورة يوسف التي أوردناها أعلاه. ومشكلة عرفان أنه فهم أن الجملة تتحدث فقط عن طراز واحد من البيع في عكاظ هو «بيع السرار». والحقيقة أن جملة «وكان بيعهم السرار» لا تعني أنه بيعهم الوحيد، بل أنه واحد من بيوعهم.

يريده ولا يريده
على كل حال، فإن ما زاد أمر «بيع السرار» غموضاً وإبهاماً إنما هو الجملة المركزية في نص ابن حبيب: «يريد الشراء ولا يريده». وهي جملة شديدة الغموض كما نرى. فما معنى أنه يريد الشراء ولا يريده في اللحظة عينها؟ والغريب أن هذه الجملة تنقل عند الجميع من دون شرح أو توضيح. بل بتظاهر مَن يبدو أنه يفهم الجملة وأنها ولا تشكل مشكلة بالنسبة لهم، مع أنها شديدة الغموض كما نرى. ومن الواضح أن الخطوة الأولى لفهم «بيع السرار» تبدأ بفهم هذه الجملة وجلائها أولاً.
ولجلائها أقترح أن كلمة «يريد» الأولى مصحفة، وأنها في الأصل بالزاي لا بالراء (يزيد). أما «الإلف» فمن الإلفة والمصاحبة، وهي تعني هنا الصاحب المشارك. بذا فالجملة تقول: فإذا حل وقت البيع، وكان عند التاجر مؤالف يزيد في سعر الشراء، لكنه لا يريد الشراء حقيقة، وعده الذي سيشتري السلعة بأنه سيشاركه في الربح لاحقاً، حتى يخلص من مزايدته التي تزيد من سعر السلعة عليه. أي يغريه بوقف المزايدة عبر تقاسم الربح معه عند بيعه للسلعة لاحقاً. هذا هو المعنى بالتحديد.
ظلوا مقتنعين بأن يوسف بيع مرة واحدة، في حين أنه بيع مرتين


لكنني أعتقد، وانطلاقاً من قصة بيع يوسف، أن بيع السرار ليس بالضبط كما يقول ابن حبيب. فالسرار يوجب، في ما يبدو لي، أن يكون «الإلف» شريكاً في السلعة المعروضة للبيع. وإذا كان ابن حبيب يقصد بالإلف الشريك، فهو يوافق ما أدعيه. بذا يجب أن يكون هناك شركاء في السلعة التي تباع «بيع السرار». واحد من هؤلاء الشركاء يريد أن يشتري السلعة، أي أن يشتري حصة الآخر عملياً. لكن الآخر يتظاهر بأنه هو الآخر يريد أن يشتري. فإذا قال الأول: أشتري البضاعة بعشرة دراهم، قال الثاني: لا، أنا أشتريها بعشرين درهماً. وهو لا يريد أن يشتري في الواقع، لكنه يفعل فعل «مزايدة» حتى يكسب أكثر من الأول. عليه، فهناك سلعة مشتركة بين طرفين، والمطروح أن يشتريها أحد منهما. وكل واحد يطرح سعراً. واحد من الطرفين لا يريد أن يشتري حقاً لكنه يعلي السعر كي يرغم مقابله على دفع ثمن أعلى. هذا هو بيع السرار. بناء على ذلك، فقد اعتبر «بيع السرار» في الإسلام طرازاً من المقامرة. لذا نهى عنه الرسول في الحديث الذي أشرنا إليه: «إياكم وبيع السرار».

بيع المجر
وقد ربط بيع السرار بطراز آخر من البيوع هو «بيع المِجْر». والمجر هو بيع ما في بطون الأنعام من مواليد: «المَجْرُ: ما في بُطون الحوامل من الإِبل والغنم؛ والمَجْرُ: أَن يُشْتَرَى ما في بطونها، وقيل: هو أَن يشترى البعير بما في بطن الناقة؛ وقد أَمْجَرَ في البيع ومَاجَرَ مُمَاجَرَةً ومِجَاراً. الجوهري: والمَجْرُ أَن يباع الشيء بما في بطن هذه الناقة. وفي الحديث: أَنه نَهى عن المَجْرِ ... وكان من بِياعاتِ الجاهلية» (لسان العرب). وقد ربط البيعان عبر مثل أو قول شهير: «كُلُ مُجْرٍ بالخَلاءِ مُسرّ».
وقد فهم هذا القول خطأ في اعتقادي. إذ ظن كلمة «مسر» هنا تعني السرور: «كل مجر في الخلاء مسرّ، ولم يقولوا مسرور. وكل صواب» (البيان والتبيين). وفي العقد الفريد، حولت «مسر» إلى «يسر» انطلاقاً من هذا الفهم: «كلّ مجر بالخلاء يسرّ. وأصله: الذي يجري فرسه في المكان الخالي فهو يسر بما يرى منه» (العقد الفريد). والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بالسرور ولا بالخيل وجريانها، بل بواحد من بيوع الجاهلية هو «بيع السرار». فالمجر هنا هو «بيع المجر»، بالتالي فالمثل يقول: كل بيع مجر هو بيع مقامرة. أي أن «المِسَرّ» هنا، بكسر الميم لا بضمها، هو السرار ذاته. وهو بيع «مِسَرّ» أي بيع مقامرة. عليه، فالمثل يقول إن بيع الأولاد في أرحام الدواب مقامرة مثله مثل بيع السرار. وبيع المواليد في أرحام الأنعام يجري عادة في الخلاء، أو بعيداً في مبارك الإبل ومعاطنها. ولعل اسم لعبة «الميسر» العربية القديمة من هذا المعنى، أي معنى المقامرة: «والمَجْرُ الرِّبا. والمَجْرُ القِمَارُ» (لسان العرب). ويبدو لي أن ابن سيده شك في صحة الفهم السائد للمثل: «كُلَّ مُجْرٍ بالخَلاء مُسَرٌّ؛ قال ابن سيده: هكذا حكاه أَفَّارُ لَقِيطٍ إِنما جاء على توهم أَسَرَّ» (لسان العرب). كما أن اسم «السرّية»، أي الجارية، ربما جاء من هنا. ذلك أن السراري كنّ في الأصل أسلاب حرب. وفي الحروب، فإن السلب شركة. لذا كانت النساء الأسيرات يبعن كجوار «بيع سرار» من قبل الشركاء في ما يبدو.
ومن المحتمل أن السرار والمسر في الأصل من معنى الاستسرار، أي الخفاء. فالعرب تسمي آخر ليلة في الشهر، وهي التي يستسرّ فيها القمر، أي يغيب غياباً كاملاً، باسم ليلة السّرار: «فإنها تسمى «السرار» لاستسرار القمر فيها، وتسمى «الفحمة» أيضاً لعدم الضوء فيها، ويقال لها البراء، وكآخر يوم من الشهر، فإنهم يسمونه النحير، وكالليلة الثالثة عشرة، فإنها تسمى السواء، والرابعة عشرة ليلة البدر». (جواد علي ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام). إذا صح هذا، فإن بيع السرار هو بيع الخفاء والإعتام وعدم الوضوح. فالشاري لا يعرف طبيعة السلعة التي يشتريها، كما هو الحال مع يوسف. فهم لا يعرفون من هو، ولا من ألقاه في البئر.
إذن، فتقديري أن يوسف بيع بيع سرار. لكن لم يدرك ذلك من تحدثوا عن بيعه مع أنهم جميعاً يعرفون بيع السرار، ومع أن بعضهم تحدث في السياق عن هذا البيع؟ والجواب: هو أنهم ظلوا مقتنعين بأن يوسف بيع مرة واحدة، في حين أنه بيع في الحقيقة مرتين. في المرة الأولى بيع سراراً، أو مسرة، و«بثمن بخس دراهم معدودة». وفي المرة الثانية لم يبع بخساً، فقد كان من اشتراه يقدر قيمته كما يبدو من الآية بوضوح: «وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً». فمن يريد ولداً لا يبخس هذا الولد قيمته. بالتالي، فبيع يوسف في مصر كان بيعاً عادياً، وليس بيع سرار. وفي كل حال، فإن يوسف والبئر والسيارة والفرعون وكل عناصر القصة حقائق دينية لا علاقة لها بالحقائق التاريخية.

* شاعر فلسطيني